---البارت الأول بقلم هنا أحمد كمال
إعلان
أُحَيِيكَ من أعماقَ قَلبي يا كُلَ قلبيِ...
في إحدى القرى الصغيرة التي تنبض بالهدوء والسكينة، كانت السماء تغمر المكان بضياء برتقالي هادئ، وأوراق الأشجار تتمايل مع نسيم باردٍ يعانق الأجواء.
في إحدى زوايا هذا المكان، وقفت فتاة في غرفتها المتواضعة، تحمل كوبًا من الكاكاو الساخن، ترتشف منه بهدوء وهي تراقب قطرات المطر تنزلق ببطء على نافذتها. مدَّت أصابعها لترسم شكلاً صغيرًا على الزجاج، وهمست لنفسها بأغنية قديمة تذكرها بأيام مضت.
لحظات قليلة مرت، حتى شعرت بألم طفيف في معدتها. وضعت الكوب برفق على الطاولة بجانبها، وتناولت حبة دواء لتسكن أوجاعها التي باتت تلاحقها كلما داهمتها تلك الأحلام المتكررة.
أتذكر...
أتذكر تفاصيل لا تزال محفورة في ذاكرتي، أصواتًا وضحكات تلاشت مع الزمن، أماكن كانت تعج بالحياة لكنها الآن خالية إلا من الصمت. كنا نركض بلا نهاية، نختبئ من ظلال الليل، ونرسم دوائر وهمية على الأرض، كأنها كانت تحمينا من شيء مجهول.
كل شيء كان يبدو مختلفًا، وكأن لحظاتنا تلك لم تكن تنتمي لهذا العالم، وكأننا كنا نعيش خارج حدود الواقع. لكن الزمن لا يترك شيئًا على حاله.
مرت الأيام، وتبدلت الملامح، وتلاشت الضحكات، وأصبحت الذكريات مجرد صدى بعيد. أحيانًا أتساءل... هل كانت حقيقية؟ أم مجرد خيال صنعته الأيام في ذهني؟
لم يعد هناك ما يربطني بذلك الماضي سوى كلمات متناثرة على صفحات دفتر قديم، أحاول التمسك بها، لكنها تتلاشى كلما حاولت الاقتراب منها.
كل ليلة، أخط كلماتي الأخيرة على الورق، وكل دمعة تسقط تروي حكاية مختلفة. أُصلي لله أن يمنحني القوة لأتجاوز هذا الشعور الذي يطاردني، لكن مع كل صباح، أجدني في ذات الدائرة، بنفس التساؤلات التي لا إجابة لها.
وفي صباح جديد، استيقظت على وقع نفس الكابوس، تهمس بالدعاء أن تتوقف هذه الأحلام يومًا ما. غسلت وجهها بالماء البارد، وألقت نظرة على دفترها المليء بكلمات لم تُقل. عادت لتكتب من جديد، محاولة أن تجد العزاء بين السطور، ولكن دون جدوى.
"أشتاق إلى شيء لا أعرف إن كان يومًا موجودًا..."
ولكني الآن، أدرك أن بعض المشاعر ليست إلا خيبة مؤجلة، وأن بعض الذكريات لم تكن أكثر من سراب.
وعلى الرغم من كل شيء، لا أزال هنا، أكتب لأن الكتابة هي الشيء الوحيد الذي بقي لي.
و في صباح اليوم التالي..
جلست ريم على الأرض في حديقة القصر، تُحرك أناملها بين أوراق العشب الرطب، بينما تنظر إلى السماء الداكنة التي تتلألأ بنجومها. كان الليل هادئًا، والنسيم العليل يلامس وجهها برفق، حتى شعرت بشيء يسقط في حجرها.
نظرت لتجد وردة بيضاء، وحين رفعت بصرها، وقع نظرها على سليم الذي كان يقف على مقربة منها، يدسّ يديه في جيب معطفه، وعيناه تراقبانها بصمت.
قال بصوت هادئ: "لما تجلسين وحدك؟
ابتسمت ريم وهي تتلمس أوراق الوردة برفق، ثم همست: "أحب الهدوء، وأحب التأمل في السماء ليلاً."
لم يُجبها سليم على الفور، بل تقدم نحوها بخطوات ثابتة وجلس إلى جوارها تاركاً مسافه جيدة بينهم، مسندًا مرفقيه إلى ركبتيه، وكأن ذهنه مثقل بأفكار لا تُقال.
بعد لحظات من الصمت، نطق بصوت خافت: "أتعلمين؟ هناك أمور نحبها دون أن نعرف السبب، لكنها وحدها تجعلنا نشعر أننا بخير."
التفتت إليه ريم، وعيناها تتأمل ملامحه الهادئة تحت ضوء القمر. لم تكن بحاجة إلى سؤاله عن معنى كلماته، لأنها شعرت بها تمامًا.
في تلك اللحظة، لم يكن هناك ماضٍ يؤلم، ولا أسرار تثقل القلوب… بل كانت لحظة نقية، كأن العالم بأسره قد تلاشى، ولم يبقَ سوى هما، والسماء الممتدة فوقهما.
بينما كانت ريم وسليم يجلسان في هدوء، غارقين في لحظة نادرة من السكينة، كان هناك شخص يقف في الظل، يراقبهما بعينين تشتعلان بالغضب.
راكان…
قبضته كانت مشدودة، وعيناه تحملان ظلامًا مخيفًا وهو يحدق في ريم التي كانت تبتسم برفق لسليم. كان المشهد أمامه كافيًا ليجعل الدماء تغلي في عروقه. عضّ على شفتيه بقوة قبل أن يهمس لنفسه بصوت منخفض، وكأنه يتوعدها:
"سأجعلك تدفعين الثمن، ريم."
---
وبينما كانت ريم تعبر أحد الممرات الطويلة داخل القصر، شعرت بشيء خاطئ… كأن هناك من يراقبها. لم تمضِ سوى لحظات حتى وجدت نفسها تُسحب بقوة إلى زاوية معزولة، وارتطمت بجدار بارد قبل أن تشعر بألم حاد على خدها.صفعة قوية قطعت أنفاسها للحظات.
رفعت عينيها بصدمة، لتجد راكان واقفًا أمامها، عيناه تضيقان بغضب لم ترَه فيه من قبل.
"ما الذي كنتِ تفعلينه معه؟" صوته كان منخفضًا، لكنه يحمل تهديدًا واضحًا.
وضعت يدها على خدها المحترق، تحاول استيعاب ما حدث، قبل أن تهمس بصوت مرتجف: "ما الذي تريده مني، راكان؟"
لم يبتعد، بل اقترب أكثر، حتى باتت أنفاسه الساخنة تلامس وجهها. عيناه كانتا مظلمتين، مليئتين بالوعيد.
"أنا وحدي من يقرر كيف تعيشين، وأنتِ تخالفين القواعد، ريم."
كانت تريد أن تصرخ، أن تدفعه بعيدًا، لكن نظراته وحدها كانت كفيلة بشلّ حركتها.
"تذكري جيدًا…" تابع بصوت خطير، "لن أسمح لكِ بأن تلعبي معي هذه اللعبة القذرة."
ثم تركها فجأة كما أمسكها، ورحل تاركًا إياها ترتجف، وداخلها سؤال واحد يتردد…
"إلى متى سأظل أسيرة هذا الظلام؟"
انتظرونا في البارت القادم من رواية أَكَانَ وَهْمًا.
رأيكم
توقعاتكم
---
بقلمي هنا أحمد كمال

أنت تقرأ
أكان وهماً (مكتملة)
Romance"في عالمٍ لا يعترف إلا بالقوة، حيث تختلط الحقيقة بالوهم، والوفاء بالخيانة، تجد "ريم" نفسها وسط دوامة من الأسرار التي تهدد بابتلاعها. قصرها الذي كان يومًا ملاذًا آمنًا، أصبح مليئًا بالظلال، وأعينٌ تراقبها من حيث لا تدري. بين ماضٍ يطاردها وحاضرٍ يخنقه...