الفصل الثاني: أنقذيني!

7.4K 531 26
                                    

   لوَّح بافلوس لوجه الفتاة المتقلب هنا و هناك بحثا عنه، فاهتدت أندريا إليه و حثت خطاها نحوه بسرعة. تخلصت من حقيبتها و جلست قبالته تعاني من ظمأ شديد قائلة:

   -ما كل هذا بافلوس؟ لست أفهم لِمَ كنت ملحا على اللقاء في مكان غير الفيلا!

   تناولا كأسي شرابهما البارد من النادل، فازدردت أندريا نصيبها بانبساط، و نكس هو رأسه محدقا بفقاعات الغاز الفارة من المشروب ككلماته تماما.

   -لماذا لم تقصد البيت مباشرة، أمي على أحر شوقها لاستقبال الزوج العزيز!

   -هل يمكنك أن تكوني رحيمة اليوم فقط يا أندريا؟
   قال بافلوس بعصبية جلية، فابتسمت و ردت ببرود:

   -ألم تكتفِ من رحمتي لسنين مضت؟ لقد كتمتُ أمر خيانتك لأمي خوفا على صحتها، كما أخفيتُ عنها أيضا أنك قامرت بنصيبها من أرض الأجداد في إنجلترا، ألا زلت تطلب مزيدا من الرحمة؟

   تخضب وجه بافلوس بحمرة صاخبة، و اختلج فمه للحظات، قبل أن يعلن بيأس:

   -أقرُّ بذنوبي، و قد حاولت أن أصحح أخطائي و أضع الأمور في نصابها، حاولت أن أنجح كما تتوقع مني نايومي، ظننت أن سفني ستجعل زوجتي تفتخر بي، و لكن...

   -و لكن؟!

   خفق قلبها، إنها على ثقة أن بافلوس غارق لأعلى أذنيه في مصيبة ما، إنه كذلك على الدوام، يتخبط في الكوارث، ثم يهرول إلى أندريا لتدفع عنه من مالها الخاص، غير أن المنقذة هذه المرة لا تملك فلسا واحدا لتحسم به الموقف لصالحه!

   -أنا في ورطة أندريا، تراكمت ديون كثيرة على سفني، و كنت محظوظا لظهور ملياردير يتمتع بخبرة أكثر مني في مجال الشحن، أخذ على عاتقه دفع كل ما يترتب علي، و لم أفكر أنني سأصبح مدينا له بكل شيء إضافة لفوائد هائلة أرتعش كلما حاولت تعدادها!

   عضت أندريا شفتيها و كادت تهشم الكأس على رأسه الأصلع، فكرت للحظة أن تركض خارج المقهى، و تطرد بافلوس من حياتها إلى غير رجعة، لكن... ماذا عن أمها؟ صحة نايومي مؤخرا ليست على ما يرام! خلودها المبكر للراحة في البيت جعلها تقفز بخطوة واسعة نحو الشيخوخة، و هناك عودها الناعم و جمالها الرقيق اللذان يجعلانها تبدو كطفلة عاجزة عن تحمل أي أذى نفسي مهما كان تافها! فكيف بخبر كهذا؟

   -أنقذيني أندريا!

   توسلها للمرة الثالثة على التوالي، فسألته بتجهم:

   -من يكون هذا الملياردير الذي نصب لك الفخ؟

   -ألكسندروس ليفانوس.

   تراقصت معدة أندريا، و شعرت بغثيان قوي يهاجمها، لا يمكن أن تسخر الأقدار منها إلى هذا الحد! أضاف بافلوس غير عابئ بذهاب لون وجهها الكلي:

   -هددني بتقديم المستندات التي معه للسلطات.

   -أي مستندات؟

   زمجرت أندريا بحدة و هي لا تزال تعاني من أثر الصدمة، فأجابها زوج أمها خجلا:

   -إيصالات أمانة.

   رفع نحوها نظرا مرتبكا، و استطرد محركا يديه بعصبية:

   -الكثير منها!

   كان أحد صدغيها ينبض بعنف من الغضب و سرعة التفكير، دعكت يديها بعجز، و شبكت أصابعها متمتمة بنبرة ضعيفة:

   -كنت لأدفع ككل مرة، غير أن وضعي كارثي أيضا، و لا أعتقد أنني أستطيع إنقاذك هذه المرة بافلوس.
   بلل شفتيه مفكرا، قبل أن يمسك يدها قائلا بتوسل أثار سخطها:

   -لقد منحني السيد ليفانوس فرصة واحدة للنجاة من السجن، قال أنه لن يقدم الإيصالات إلى السلطات إذا...

   -ماذا؟

   -إذا ذهبتِ غدا إلى بيته بجزيرة خيوس!

   تحول جسد أندريا إلى لوح جليد لثوانٍ، و ما لبثت أن سحبت يدها من قبضته بخشونة، و صرخت به مستشيطة:

   -ما هذه السخافة؟

   راحت ترتجف بغضب مسعور، خفقات قلبها أخذت تتسارع، و العرق تصبب من جلدها بشكل كبير، بدت في حال يُرثى لها، نهشت تلك الفكرة أعصابها، هي... تذهب بشحمها و لحمها إلى تلك الجزيرة و ذلك الرجل مرة أخرى! لماذا؟ لِمَ يُريد رؤيتها؟ إذا رفضت... هذا يعني أن ينتهي كل شيء بالنسبة لنايومي، و إذا وافقت... سينتهي كل شيء بالنسبة للوعد الذي قطعته على نفسها، ألا تنظر في وجه ألكسندروس بعد آخر لقاء بينهما.

   تنفست أندريا بتعب مهلك، و تفرست بوجه بافلوس الكريه للحظات، فتعاظم مقتها له و لألكسندروس ليفانوس، لكن... ما باليد حيلة! لن تشارك في تحطيم أمها، ربما لم تنس أن نايومي احدثت شرخا لا يُشفى داخلها و هي طفلة، غير أنها لن تقف مكتوفة اليدين و هي تشاهد بافلوس يدخل السجن و عالم أمها ينهار!

   -حسنا.

   لم يصدق بافلوس أذنيه، انقض عليها ينوي تقبيل يدها شاكرا، لكنها سحبتها في الوقت المناسب و صاحت به منددة:

   -لا تلمسني! أفكر أحيانا في ارتكاب جريمة ما إن أراك.

   نظرت حولها و استطردت باشمئزاز قوَّض فرحته:

   -تجرَّد من هذه الابتسامة البلهاء، هذا تنازل أقدمه في سبيل أمي المسكينة! لكني لن أفوت أي فرصة سانحة لتلقينك دروسا لا تُنسى بافلوس!

   تناولت حقيبتها و غادرته كعاصفة هوجاء، خطت بتعثر في طريقها إلى البيت و قلبها يخزها بشدة، كيف... كيف ستتمكن من النظر في عيني ألكسندروس ليفانوس بعدما جرى في الماضي؟ استرجعت و هي تلج الفيلا كيف توفي والداه في حادثة غرق مركب يعود لوالدها، اتهم ألكسندروس دونالد هيل بالإهمال في صيانة المركب و اعتبره مسؤولا عن تحوله لطفل يتيم،  و هي استعادت تفاصيل ذلك اليوم الذي علمت فيه أنه سيسافر إلى الولايات المتحدة رفقة صديق أمه الثري، ركضت طويلا و سقطت على وجهها عدة مرات دون أن تتمكن من اللحاق بالسفينة التي أخذت وجهه و قلبه بعيدا عنها! ناولت أغنيس حقيبتها و اتجهت صوب غرفتها عاجزة عن كبت الدموع أكثر، ستنقذ نايومي و بافلوس من الدمار، لكن من سينقذها هي من الخطة التي يرسمها ألكسندروس في الخفاء؟ رمت نفسها على السرير و تساءلت بنبض مجنون و هي تتذكر أن اليونانيين شعب يؤمن بشرعية الثأر: ”تُرى... هل ينوي قتلها انتقاما لوالديه؟!“.

نهاية الفصل الثاني.

متَاهتُناحيث تعيش القصص. اكتشف الآن