في الأيام الأخيرة، وجدت صدفة أحد الأفلام التي كنت شاهدتها مسبقا في صغري، فارتأيت أن أشاهده ثانية، لا بغرض المشاهدة فقط، لكن بغاية استرجاع ذكريات الماضي فكل ما سبق و قمت بمتابعته، يحمل معه ذكريات، سواء كانت سعيدة أكملتها بمتابعة فيلم ما، أو
حزينة حاولت الهرب منها بمشاهدة ما يشغل بالي بعيدا عن تلك الذكريات.
بدأت أشاهد الفيلم ثانية، يحكي عن طباخ يعيش في حي شعبي، شدني مشهد في البداية، بينما كان هو خارجا نحو عمله، أخذ أهل الحي يتناوبون عن توقيفه لسؤاله عن بعض الوصفات و كيفية إعدادها، الأولى تسأل عن مقادير معينة، و الثانية عن سر وصفة طبخ لم تتقنها حتى أجاب متذمرا "أي حي هذا الذي لا يركز في شيء سوى الطبخ"، بقدر ما بدا هذا المشهد مضحكا لي في السابق، بقدر ما
بدا لي الآن يستدعي إعادة تأمل، فما كان مني إلا أن أوقفت الفيلم حينها، وانشغلت بالتفكير في هذه الفكرة التي طرحها.
الواقع الحالي يبين شعبا أكثر ما ينشغل به هو ما يدخل في جوفه وعائلات تفكر في الوجبة التالية بينما هي تتناول السابقة، حوارات معظهما حول الأكل والطبخ و الوصفات و أسعار السلع الأساسية، شعب لا يهمه نوعية الأكل بقدر ما يهمه أن يأكل، قد تجد عائلة مازالت جالسة حول مائدة الإفطار، لم تكد آخر لقمة أن تستقر في المعدة حتى يبدؤوا في التشاور حول وجبة الغداء، ليس المهم بالنسبة لهم قيمتها الغذائية أو تنوع مكوناتها، بل المهم وجبة تخمد جزئيا شعلة شهوة البطن في جوف كل واحد منهم فأصبح معظم وقتنا أكل و ما دون ذلك تفكير فيه، أكثر مشروع مربح إلى حد ما، مقهى أو مطعم، فقد تجد شارعا واحدا يتضمن العديد من المطاعم و المقاهي جنبا إلى جنب، و في أوقات الذروة ستجدها كلها مملوءة إلى حد كبير. ليس لدهاء أصحاب هذه المشاريع و حسن خططهم التسويقية،
بل لأنهم أفراد هذا المجتمع، و مجرد نظرة بسيطة لهذا المجتمع تبرز لك أي نوع هو، وكيف يفكر و ما الذي يستهويه.
حتى في شهر رمضان، الذي فرض لغايات عدة، منها أن يستحضر الإنسان صغر أهمية الطعام في حياته و يستفرغ للعبادة، ليزيد بذلك من طاعاته في هذا الشهر، و يتحكم نوعا ما في شراهته نحو الأكل، المتوقع أن ينخفض حجم الأكل، لكن الواقع يقول العكس تماما، أناس منذ استيقاظهم ينتظرون المغرب وكل ما يملأ فكرهم، هو ما سيأكلون، موائد تكفي العشرات، تجدها في عائلات تتضمن أقل من ذلك، كميات كبيرة من بقايا الأكل ترمى في كل يوم، نساء يقضون يومهم بكامله في المطبخ، بعد الاستيقاظ يبدأ تحضير
الفطور، بعده إعداد العشاء، بعده السحور. المفترض أن يقل الاستهلاك ويقل معه مصروف ذاك الشهر، لكن الواقع يبين العكس تماما.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "إن أول بلاء نزل بهذه الأمة بعد وفاة نبيها - صلى الله عليه وسلم - الشبع، فإن القوم لما شبعت بطونهم إمتلأت أبدانهم، فلما امتلأت أبدانهم تصلبت قلوبهم وجمحت شهواتهم" (المصدر: كتاب الجوع لابن أبي الدنيا)