وأخيرا نحن لوحدنا، هل أنت متيقن أن لا أحد بجانبك، لا أحد يختلس النظر لجهازك وأنت تقرأ هذه الكلمات، أنا لوحدي أيضا لا تخف، أستطيع سماع التلفاز في الغرفة الأخرى بجانبي، لكن لا أحد مطلع على ما يسري في حبل أفكاري سوى أنا من أحدثك، وأنت من تقرأ هذه الكلمات وثالثنا الأقرب لنا من حبالنا الوريدية،
أعلم أني لم أستيقظ هذه الليلة بعد منتصف الليل عبثا، أو بالأحرى لم يوقظني الله سبحانه وتعالى الآن عبثا، أعلم بل متأكد أنه لسبب ما، لم أستيقظ وأنا أملك هذه الرغبة في الكتابة إلا لسبب، وأنت لم تقع أمامك هذه الكلمات عبثا أيضا، بل لسبب أيضا، فنحن هكذا مجرد أسباب نمضي على أرض الله بمشيئة الله،
نمضي في هذه الحياة لنحقق ما أراد الله، فنكون سببا في وصل رزق أحدهم، وتخرج من أفواهنا كلمة محددة تقع على مسامع إنسان في زمن محدد بطريقة محددة حتى يكون لها وقع خاص في قلبه، هي شبكة معقدة جدا حتى لو حاولنا استيعابها لا نقدر على ذلك،
لكثرة المتداخلات فيها، فكم من إنسان في هذه الشبكة، وبنظرة أخرى، كم انسان على هذه الأرض، وحتى إن أحصينا عددهم، كيف لنا أن نحصي نواياهم، فليس كل ما يظهرونه هو واقعهم، ورغم اختلاف أجناسنا و ألواننا وأشكالنا، إلا أن لكل إنسان دور في هذه الشبكة،
حتى ذلك الذي نعتبره كافرا، ويعتبرنا كذلك أيضا بحسب مرجعه، قد يكون سببا يأثر في حياتنا، رغم بعد المسافة، رغم اختلاف اللغة والثقافة إلى آخره، وليس بالضرورة أن يكون شخصا في موقع سلطة وقرار، بل فقط أحد عامة الناس، اختير ليكون سببا مؤثرا علينا،
وما يزيد إبراز مدى تعقيد هذه الشبكة، أنها لا تتضمن الإنسان فقط، بل حتى باقي الكائنات الحية، فأنت الذي تعطف على الحيوانات في الشارع، هل نظرت مسبقا من أين ملكت هذه الرأفة، من الذي أوقعها في قلبك حتى تكون سببا في رحمة كائنات الله فوق أرضه،
بل وحتى ذلك الذي ليس من عادته مداعبة الحيوانات في الشارع، يأتي عليه يوم يصادف قطا أو كلبا، لا يقدر إلا أن يعطف عليه، سواء نظر إليه بنظرة شفقة ورحمة أوقعها الله في قلبه بسبب مظهر ذلك الحيوان، فما كان من تلك النظرة إلا أن توقد شعلة الرحمة بداخله وتذكره بأن من يرحم من في الأرض، يرحمه من في السماء،
أو سواء أمر الله ذلك الحيوان باتباع ذلك الشخص مناديا عليه، سواء كان طلب عون أو استنجاد به، ولطبيعتي النقدية - ربما أكثر من اللازم - أسأل نفسي من صاحب الفضل على الآخر في هذه الحال، هل هو ذلك الإنسان الذي أوصله الله لذلك الزقاق حتى يرأف بذلك الكائن الذي لا حول له ولا قوة، ويكون له سبب رزق،
أم أن الفضل يرجع للحيوان، الذي أحضره الله في طريق ذلك الإنسان المذنب، حتى يكون له سبب عون ورحمة من الله سبحانه وتعالى، العلم عند الله.
لذلك أجد أنه من الإعجاز إستيعاب هذه الشبكة المتصلة بين كل أفرادها بعضهم البعض بوصل سببية ثنائية من الطرفين معا، فكل ما تقوم به يعود عليك بشيء، سواء مادي أو غيره،
لذلك لابد من وجود قوة عظيمة جدا تملك زمام الأمور، تتحكم في كل الخيوط، تملك القدرة على احتواء هذا النظام المعقد من العلاقات بين الناس بعضهم البعض وبينهم وبين باقي الكائنات، وما يزيد من عظمة وجبروت من يملك هذه القوة والقدرة، أن يكون قادرا على خلق هذا النظام بكل حيثياته وتعقيداته وتفاصيله الدقيقة جدا،
شبكة ونظام معقدين، لا يسعني إلا أن أقول أمامهم {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}~الأنبياء-الآية: 87
لا أعلم إن كنت وصلت لنفس الاستنتاج مثلي أم لا، على هذا الحال هل الإنسان مخير أم مسير؟ أعلم أنك صادفت هذا السؤال مسبقا في مكان ما، وقد تكون تملك قناعة شخصية بالانتماء لأحد الطرفين،
لكن إن سألتني عن رأيي في هذا الأمر، أقول أنه هما معا، ولا أقصد أنه مخير في بعض الأمور ومسير في أخرى، بل هو مخير ومسير في نفس ذات الوقت، كيف يكون ذلك ؟ كما يلي كيف أرى هذا الأمر :
في ذلك المثال السابق حين يصادف إنسان، حيوانا في الشارع، فهو يملك الاختيار الكامل في أن يعطف عليه، أو أن يمر بجانبه غير مبالي، أو أن يذهب به إلى منزله، أو أن يضربه، أو... أو ... أو...، لن يفرض عليه أحد ما سيفعله، فله كامل الحرية في اختياره، لكن يبقى السؤال، هل الله سبحانه وتعالى على علم باختياره، قطعا نعم،
فالله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فحين خلق الله سبحانه وتعالى القلم، أمره بالكتابة، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، أي أن الله سبحانه وتعالى مطلع على على كل الأمور، حتى تلك التي نفكر فيها دون اختيارها، يعلمها، ويعلم تفكيرنا فيها، ويعلم كيف سيكون حالنا لو عقدنا الأمر عليها،
أي أمر كيفما كان أمامنا، نملك اختيارات عديدة لاتباع أحدها فقط، كل ما في الأمر أن الله سبحانه وتعالى، يعلم بكل الاختيارات التي أمامنا، وربما حتى تلك التي لم تدركها عقولنا، ويعلم أيها سنتبع، ويعلم كيف سيكون حالنا بعدها، ويعلم كيف سيكون حالنا لو اتبعنا طريقا آخر غير الأول،
لذلك فنحن نبقى مخيرين، تحت تسيير الله سبحانه وتعالى. من منظور قريب، فنحن نملك الحرية في كل اختيارات يومنا، وإن عدنا للوراء من أجل نظرة شمولية، نجد أننا إنما نتقلب في وعاء علم الله عز وجل، ولله المثل الأعلى،
ويبقى هذا هو الأسلم والأفضل لنا، لأننا لا نقدر على مواجهة تلك الشبكة السببية المعقدة لوحدنا، دون مسيير يمسك بزمام الأمور، ويساعدنا على تدبير أمورنا حتى نلقاه بوجه كريم.
.
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه