٥ | عائلة

138 28 99
                                    

أرست الجدة ذراعها على ظهري بحنو وهي تمطرنا بكلمات الترحيب وتحثنا للولوج إلى كوخها المتواضع، لكن ملامحنا لم تخلوا من الصدمة. كان كلامها واضحًا وضوح الشمس في يومِ لا تشوب سماؤها غيمة واحدة، نحن الخمسة، المحاربين الذين ذكروا في الأسطورة.

أنا كنت أقلهم تفاجؤ، إخوتي أتوا بصحبتي بغية حماية ظهري من خطر هذا العالم المجهول، فهل يعقل أن ينتهي بهم المطاف كمحاربين مثلي! وأبيل الذي أفنى حياته بين أسوار القرية ينتظر تحقق الأسطورة يجد نفسه جزءً لا يتجزء منها... أيمكن لهذا أن يحدث؟

دلف الجميع وكنت آخر واحدة، فسرت إلى الداخل جنبًا لجنب مع الجدة التي همست على مقربة مني:
- كنت على يقين أن الله سيعيدكِ إلينا كما أحضركِ أول مرة.

ابتسمت لها وسرت على خطى البقية، وجوههم كانت تفيض بشعور الارتباك، وهم يقفون في صفٍ مستوٍ وعيونهم تتخبط في الأرجاء وتمسح المكان وتفاصيله، لكن الجدة مياسين لم تترك مجالاً للغرابة وعدم الراحة.

- لا تخجلوا من عجوز مثلي واجلسوا هيا، أعرف أن ابنتي رسيل قد سردت شيئًا ما عني لكم، أولست على حق؟

بعض الشحنات المتضاربة لا تزال قائمة هنا وهناك، فحاولت رنيد تبديدها بضحكة خافتة رست على شفاهها، ونطقت بصوت شحيح وهي تحذو حذوهم وتأخذ مكانًاعلى أحد الكراسي القديمة:
- أجل، أخبرتنا أنها صادفت أناسًا جيدين بالقرية.

رنيد شخص يمكن الاعتماد عليه في مواقف متكهربة كهذه، فأنا لا أذكر أنني قصصت عليهم الكثير من التفاصيل، وحتى أن أغلب ما تحدثت عنه كان بخصوص الوحش وما صاحبه من أمور فظيعة ومخيفة، لكنها تجديد التلفيق في الوقت والمكان المناسبين.

تركت الجدة تروي تساؤلاتها منهم وزحفت نحو الركن الذي غطته ستائر بنية داكنة، قمت بإزاحتها ليظهر من خلفها فراش ساجي وجسدها المتدثر بالملاءات البالية.

جثوت أمامها، وأنا أطالع وجهها الميت الذي أخذت الحياة تبث فيه بعضًا من ألوانها بعد أن خطفتها منه البارحة، الضمادات البيضاء التي التفت حول ذراعها بانت من أسفل قميصها وقد لوث لونها الناصع آخر أحمر باهت يعود لأثر النزيف، رغم ذلك بدت أفضل حالاً ولا ينقصها سوى فتح عينيها.

مررت يدي على شعرها الناعم وبعض الأسئلة أخذت تتدفق إلى ذهني، كيف تقدم فتاة صغيرة كساجي على حمل سيفٍ بحجمها وركوب الخطر دون خوف من الموت؟ كيف لجسدها الهزيل أن يقاوم المواجهة وحمى الجروح والإصابات؟ هل هناك من أجبرها أم أنها تفعل ذلك من تلقاء نفسها؟

- رسيل! تعالي يا صغيرتي.

صوت الجدة نادى علي، حملت يدي من على شعر ساجي وعدت إلى مكان جلوسهم وإذا بهم يسدون ظمأهم من كؤوس طين حملوها بأيديهم، ناولتني الجدة واحدًا وراحت تسكب فيه من ماءٍ احتوته قِربة مصنوعة من جلد الماعز، شعرت بالغرابة، فكيف لي أن أشرب من شيء كهذا؟ لكن شفتاي المتيبسة وحلقي الجاف جعلاني أرتشف القليل، فلم أتوقف عند هذا الحد، ولم أتمكن من مقاومة برودته ونكهات الأعشاب التي تخللته، ووجدتني أفرغه كاملاً بجوفي راغبة بالمزيد، إنه أفضل من كل عصير شربته بحياتي.

قرية التفاح الأخضرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن