صاحب الصوت كان عجوزًا بدينًا اعتمر بذلة أنيقة باللون الأسود، حاجباه الممتلئين قد زحف الشيب من خلالهما ماسحًا عنهما لون الخريف الذي ولى مع عمر الشباب، ومقدمة رأسه هي الأخرى قد أدركها الصلع وبعض الخصلات البيضاء الطويلة جثت عند رقبته من الخلف.
بخطى ثقيلة، تجاوز عتبة الباب الخشبي فألجمته رؤيتنا عن سكب الحروف التي شغرت حلقه، وراحت عيناه التي تحتمي بأسوارٍ من تجاعيد تتسع شيئًا فشيئًا وهي تتأملنا بغير تصديق، حاول تحريك فكه ليقول شيئًا ما لكن الكلمات أبت إنصافه ليبوح بما يختلجه، وبعد محاولات عديدة وفاشلة التفظ أخيرًا بلهفة:
- هل... هل هؤلاء هم المحاربين؟ إذًا الخبر الذي وصلني صحيح، لقد وصل المحاربون!لحظة، كيف عرف ذلك؟
لمحت بيده ورقة صغيرة بلون أصفر باهت، وكلمات غير مفهومة كتبت عليها بحبر أسود ويبدو أنه قرأها لتوه.
- هل أوصلت الجدة الخبر قبلنا؟
همس أبيل وهو يقلب عينيه بعيدًا، إذًا الجدة هي من أرسلت تلك الورقة، لكن كيف؟ وبهذه السرعة!
ضحك العجوز بصخب مرجعًا رأسه إلى الخلف فبرز بطنه الكبير أكثر، جاذبًا إلينا نظرات المارة المستغربة، وبعض الهمسات بدأت باعتلاء الأفواه. بدى أبيل غير راضيًا عن تصرفاته هذه، فاقترب منه ليظهر طوله الفارع نسبة إلى قامة الأخير القصيرة، وتكلم أمامه بنبرة خافتة:
- أيها العمدة نحن لم نتأكد بعد من كونهم المحاربون..- لا بأس بذلك! دعونا نتأكد إذًا!
لم أكد أستوعب أن الواقف أمامنا هو عمدة القرية إلاَّ وأدبر مختفيًا داخل أسوار المنزل، تبادلنا التحديق بملامح مستغربة لكلامه الذي لم نفهم مغزاه حتى أتانا صوته من الداخل:
- هيا أسرعوا إلى الداخل!أفرغت رنيد تساؤلاتها بصوت خافت على مقربة منا:
- هل هذا هو العمدة؟ ما الذي يقصده بأننا سنتأكد من كوننا المحاربين أم لا؟انشغل نيار في الرد عليها أما عيناي كانت على أبيل الذي حرك رأسه يمينًا وشمالاً وكأنه ينفض عنه بعضًا من الأفكار التي أثقلته، وحمل يده يمررها من خلال خصلاته البرتقالية الناعمة ثم تحرك إلى الداخل.
كمشت عيناي على الباب بتفكير قبل أن أهمس لهم:
- لندخل..شغرت غرفة المعيشة حيزًا لا بأس به من الطابق الأرضي للمنزل الذي تمثل في كتلة من الخشب، والذي جسَّد كل شيء به من الأرضية إلى الجدران وحتى الأثاث.
دلفنا ممرًا يكاد لا يظهر بسبب الزاوية العمياء التي يشغرها، وشمعة وحيدة أخذت على عاتقها إضاءة كل الرواق، فلم يفلح بصيص نورها الضئيل في تبديد الظلام الذي سكنه، لكننا اتبعنا حواسنا وظل جسد أبيل الذي جرفنا معه إلى درج مهترىء يقود إلى الأسفل.
أنت تقرأ
قرية التفاح الأخضر
Fantasíaأربعة شباب يشق لهم القدر طريقًا نحو قرية مجهولة تجلى فيها الأخضر الزمردي بأجمل أطيافه، لكن لا وجود لجمال مطلق، وكل صورة بديعة تدسُّ خلفها وجهًا مظلم، فماذا تخفي لهم الحياة خلف تلك الأسوار؟ * من مختارات السفراء في مسابقة النوفيلا الحرة لسنة 2023 * ال...