١ | خلف الأعماق

457 56 224
                                    

ارتعشت الأضواء الشاحبة على قارعة الطريق ثم بدأت بالتناقص شيئًا فشيئًا إلى أن اختفت بعدما غرقنا في البعد عن المدينة، ارتخى رأس أمي إلى الخلف فعرفت أن النوم قد سلب منها آخر خيوط يقضتها وكذلك أخي سدين الذي انسل كتابه من بين أصابعه فسقط بجواره على الكرسي، بينما والدي استمر في مصارعة نعاسه حتى آخر رمق.

- لقد وصلنا.

لم أعرف كيف غفوت لكن ساعات السفر الطويلة جعلت التعب يتآكلني ويقتات على بقايا جسدي، فتحت عيناي على صوت أبي الذي نوَّه لوصولنا فأبعد حزام الأمان واستعد للنزول وأمي من جواره أيضًا، سدين لم يستفق سوى الآن وراح يدعك عينيه الناعسة بكلتا قبضتيه بعدما أبعد نظاراته الدائرية الكبيرة.

- هل وصلنا؟

- أجل.

أجبته وأنا أفتح باب السيارة لأرتجل منها، لفحة هواء باردة لامست جسدي بعدما اعتاد على دفء المكيف بالداخل فسرت به موجة من القشعريرة، المكان كان مظلمًا بالكامل إلا من ضوء القمر الذي وقع على المنزل الضخم ذو الطراز القديم والذي جعله مهيبًا، بطوابقه العالية التي انتهت بسقف من قرميد أسود، لا مجال في هذا المكان لأي تلوث بصري أو سمعي، فقط ضوء القمر وصوت البومة التي وقفت بأعلى حافة من السقف تترصد بنا بأعين زجاجية براقة.

فتح والدي البوابة الخارجية وقاد السيارة إلى الداخل ونحن على مقربة منه، وعندما انتهى من صفها سرت نحو صندوقها لآخذ أغراضي وأنا أجرُّ قدماي بخمول شديد، حينها لمحت وجه أمي وملامحها المنقبضة، كانت تنظر حولها برعب وكأنها تنتظر أن ينقض عليها وحش ما من اللامكان، تصرفها جعلني أود الانفجار ضاحكة لكنني لم أفعل ذلك احترامًا لمشاعرها ورأفةً بمشاعر أخي القادم.

- هيا ندخل.

التفظ أبي فحمل كل واحد فينا حقيبته ومشينا نحو بوابة القصر الدهماء العتيقة والتي نُقشت عليها زخارف رفيعة باللون ذاته. وضع والدي المفتاح بالقفل وأدار المقبض لندلف معًا.

بعد أن أضاء الانارة ظهرت فخامته المدفونة تحت غطاء العتمة، كأن عتبة الباب تتوارى خلفها حقبة غير حقبتنا، سجاد كرزي فاخر مع أثاث أنيق، وثريات زجاجية متدلية من سقف الصالة الكبيرة، لا أصدق أن المنزل شاغر منذ سنوات طويلة!

- لقد أرسلت إحدى شركات التنظيف إلى هنا، لن تجدوا ذرة غبار واحدة بالمنزل بأكمله.

- حسنًا، رسيل، سدين اختاروا غرفكم واخلدوا إلى النوم، أشعر بالتعب..

أنهت أمي حديثها بتمتمات متذمرة وغير مفهومة وهي تصعد الدرج إلى الأعلى، تبادلنا نحن الثلاثة النظرات الصامتة فرفع والدي كتفيه إلى الأعلى بقلة حيلة، فنحن بالكاد نستطيع الحديث معها بسبب مزاجها العكر، خصوصًا وهي في الأشهر الأخيرة من حملها.

قرية التفاح الأخضرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن