الفصل العشرون

321 15 1
                                    

( وللعشق وجه آخر .. ! )
****
تطير فوق غيمة وردية تحملها حيث لا أحد ..
كبساط سحري صُنع من أجلها خصيصًا فيدور بها في عالم فاتن لا يحوي غيرها و غيره !
تتنفس أنفاسه و تميل على صدره فيغمرها واعدًا بالمزيد ..
ابتسمت أثناء نومها حين داعبتها شفتيه بحميمية لتبدأ تعود إلى الواقع تدريجيًا مع تزايد قبلاته وجرأة أصابعه ... و ألم ساقها !
" صباحية مباركة يا حرير جنتي "
يهمهم بها جوار أذنها بأنفاس لاهبة أصابتها بقشعريرة لذيذة فتبتسم له بوجه متورد دون رد ثم تحاول النهوض لكنه يمنعها مغمغمًا بصوت خشن :
" إلى أين ؟؟ "
تحكمت في ملامح وجهها حتى لا تشي بوجعها وكتمت تأوه كاد أن يخرج منها ثم ردت بهدوء :
" أريد الذهاب إلى دورة المياه "
ابتسم لها بعبث ثم تمتم بصوت مشاكس :
" ادفعي ضريبة المرور أولًا "
أرادت أن تجاريه لكن ألمها زاد أكثر خاصةً وأنها أنهكت تمامًا لأيام طويلة قبل العرس كما أنها لم تخلع الطرف الاصطناعي طوال يوم العرس على الإطلاق وقد نسيت ارتداء بطانة أو جورب تحتها مما سيسبب لها التهابات بدأت تشعر بأعراضها منذ البارحة لكنها تزداد حدة الآن 
" هل أنتِ  بخير ؟! "
انتبهت لسؤاله القلق فأدركت أن علامات التوجع بدأت تظهر على ملامحها فقالت بصوت خفيض :
" أنا بخير ، اتركني فقط أذهب إلى دورة المياه "
أفسح لها بِشر المجال ففتحت أحد الأدراج وأخذت منه علبة تحتوي على مسحوق ما ثم تحركت إلى الحمام بخطوات حاولت جعلها منضبطة لكن خانتها سيطرتها وعرجت قبل أن تختفي تمامًا عن عينيه المتابعتين بإدراك لما ألم بها .
و في الداخل جلست سندس على مقعد الحمام ثم خلعت عنها الساق الاصطناعية وهي تتأوه بصوت مكتوم وكما توقعت وجدت تهيج شديد في جلد جذع ساقها المبتورة فأمسكت بمنشفة صغيرة وجففت التعرق الشديد الذي أصاب المنطقة ويتسبب لها في ألم اكبر وتتأوه مرة أخرى حينما لامست المنشفة بشرتها لتصرخ بجزع حينما فُتح الباب على حين غفلة ودخل بِشر بملامح هادئة لتبادره بهتاف حاد قبل أن ينطق بأي حرف :
" هل جننت ؟! .. كيف تقتحم علي الحمام هكذا ؟! .. اخرج "
لم يعير حديثها اهتمام وسألها بقلق وهو يجثو أمامها ليرى ما بها :
" لما تتأوهين ؟!! .. ما الذي يؤلمك ؟! "
" اخرج من هنا يا بِشر "
تهتف بها و هي تحاول ارتداء ساقها الاصطناعية من جديد لكنه يسحبها من بين يديها بقوة قائلًا باستنكار :
" ماذا تفعلين ؟! .. انتظري لنحل مشكلة التهاب جلدك أولًا "
احتل الغضب ملامح وجهها لتصرخ فيه بكل قوتها :
" لا تتدخل واخرج من هنا "
" لا تصرخي في الحمام "
يهتف بها بصرامة فتتلوى سندس محاولة الوصول إلى طرفها الاصطناعي متمتمه بملامح متحجرة وصوت حاد كالشفرة :
" لا تستغل إعاقتي بهذا الشكل واتركني على راحتي "
أرغمها بِشر على الثبات ثم أمسك بالمنشفة الصغيرة يغمرها بالماء الدافئ ومررها على جذع ساقها المبتور عدة مرات دون أن يرفع عيناه إليها متجاهلًا دموعها التي تتساقط أمامه كاللآلئ واستمر الحال للحظات وسندس تنتفض من شهقاتها المكتومة وهو يستبدل المنشفة الدافئة بقطعة صابون مدلكًا لها ساقها باحترافية وكأنه مارس الأمر لمرات عديدة ثم حملها بشكل مفاجئ ليضعها داخل حوض الاستحمام ثم يضبط درجة حرارة الماء أولًا ليمررها على ساقها لدقائق طويلة ينظفها من الصابون و طيهدئ من تشنجها بالماء الدافئ ..
حاول بِشر إبعاد حمالتي قميصها لتنعم بحمام كامل لكنها رفضت بشراسة وهتفت ببكاء مرير قطع نياط قلبه :
" توقف عن هذا أنا لست عاجزة "
أغمضت بِشر عينيه بألم لاعنًا نفسه للمرة الألف على ما تسبب فيه لها و مع ذلك ضم ظهرها لصدره هامسًا لها :
" أنتِ  لستِ عاجزة ، انتِ مدللتي "
تأوهت سندس بألم معنوي ثم تمتمت بصوت مكسور :
" لا أريد "
فيقارعها بِشر ويرد بصوت حنون وهو يمرر الماء على ذراعيها بخفة شديدة محاولاً امتصاص غضبها وألمها :
" أعلم أنكِ  لستِ بحاجتي لكن تحمليني قليلًا لأني أنا من يريد أن يفرض نفسه على كل لحظة لكِ ، أريد أن أشاركك حتى أنفاسك يا حرير الجنة "
صمتت سندس بيأس وتركته ينهي ما بدأه رافضةً رفضًا قاطعًا أن يحممها فيستسلم لها بِشر وينهض ليجلب منشفة أخرى جفف بها جذع ساقها المبتور جيدًا ثم أمسك بتلك العلبة التي أخرجتها سابقًا ووضع بعضًا من ( مسحوق التالك ) على جلدها الملتهب لتنظر له باستغراب وهو منهمك في عمله ثم تتمتم بصوت شديد الخفوت :
" تبدو كمتمرس ! "
رفع لها بِشر عينين وامضتين بعشقها ورد عليها :
" قرأت كثيرًا عن الأمر وأعلم الكثير بعد "
اتسعت عيناها اتساع طفيف لكنه لمحه فابتسم لها ابتسامة متألمة ومال برأسه يقبّل ساقها بقبلة طويلة ثم يسند رأسه عليها هامسًا لأول مرة بصوت مسموع :
" ليت ما أصابك أصابني أنا يا جنة بِشر "
شهقت سندس وغمغمت باستنكار :
" هل جننت ؟! .. بعُد الشر عنك "
التوت شفتيه بابتسامة مقهورة لم تراها لكنها شعرت بها لترفع وجهه إليها هامسة لعينيه المحتقنة بدمع عصي :
" ما حدث ليس ذنبك يا بِشر ، أنا من ركضت دون أن أرى أمامي "
" لأنني ضربتك أمام الجميع "
" لأنني أهنت رجولتك أمام الجميع "
" لأنني خنتك "
" لم تفعل "
تقولها بيقين جعل عيناه تتسع بامتنان لأنها أخيرًا أقرت ببراءته فيرفع بِشر نفسه قليلًا ويمسك بوجهها بين يديه يحدق في عينيها للحظات ثم يلتقط شفتيها بقبلة طويلة مست روحها من روعة المشاعر المتدفقة التي غُلفت بها ثم نهض حاملًا إياها بين ذراعيه ككنزه الثمين لتغمغم سندس حين وضعها فوق الفراش :
" أحضر ساقي لأرتديها "
نهض بِشر و لكنه أحضر لها ملابس جديدة فيما يقول :
" لا ، أريحي نفسك منها قليلًا "
كادت سندس أن تعترض لكنه ابتلع اعتراضها بقبلته المفاجئة ثم ابتعد عنها مرة أخرى مستطردًا :
" سأحضر لكِ الإفطار ريثما تبدلين ملابسك وبعدها سنرتاح قليلًا فلا أظن أن زيارة الصباحية التي خططت لها خالتي وعمتي ستبدأ الآن على كل حال "
ابتسمت له سندس متابعة خروجه من الغرفة لتنظر بعدها إلى طرفها الاصطناعي الذي لا زال موضعه في الحمام ثم تزفر محاولةً تبديد مزاجها الكئيب فتمسك بالملابس التي أحضرها بِشر ثم تشهق بخجل شديد وهي ترفع القطعة بأطراف أصابعها مدققة في اختياره المنحرف مثله .
***
حين عاد وجدها لا تزال بملابسها المبتلة و لم ترتدي ما أعطاه إياها فنظر لها مستغربًا وهو يضع طاولة طعام خشبية صغيرة على جانب  الفراش فيما يقول بوقاحة :
" هل تنتظرينني لأبدل لكِ ملابسك ؟!! "
توردت سندس و ضربت يده دون رد فهمهم ضاحكًا :
" لما لم تبدلي ملابسك ؟!! "
لوت شفتيها قليلًا بعدم راحة ثم تمتمت بخفوت :
" الرداء قصير جدًا "
" وإذًا ؟؟ "
همهم بها بخفوت مماثل وهو يقترب منها بجلسته فقطبت سندس وردت بعد لحظات :
" أنا لا أرتدي الملابس القصيرة "
فهم بِشر ما تقصده لكنه تغابى متعمدًا وتمتم ضاحكًا بخفة :
" لا هذا خارج المنزل إنما هنا لو بيدي سأجعلك ترتدين لا شيء "
زفرت سندس بقنوط ثم قالت :
" يا بِشر أنا أتحدث عن حالة ساقـ..... "
ليقاطعها بِشر بحزم قاطعًا عليها الطريق الذي تسحبهم نحوه من جديد :
" سندس ، كم مرة علي أن أخبرك أننا بتنا شخصًا واحدًا ؟!! .. هل بعمرك رأيتِ شخصًا يخجل من روحه ؟!! "
نكست رأسها دون رد فاستطرد :
" كما أننا البارحة كنـ...."
قاطعته هي هذه المرة بخجل فظيع وألم أفظع وهي تُعري جرحها تمامًا أمامه فتسأله بصوت يكاد يُسمع :
" هل أرضيت هذا الجانب منك ؟! "
صعقه السؤال حتى أنه ظن أنها لم تنطق به أو حتى أن عقله خدعه وفسر سؤالها بشكل خاطئ لكن عينيها وملامح وجهها التي تحمل هشاشة وانكسارًا لم يكونا من طبعها يومًا أبلغته بكل قسوة عما تعنيه فتمتم بِشر بشفتين مطبقتين وهو يبتعد عنها مصعوقًا :
" رباه .. ماذا فعلت بكِ ؟؟! "
دمعة طرفت من عينها سحقت ما بقي منه فاقترب منها بسرعة البرق يضمها إليه بكل قوته يسحقها فوق صدره متمتمًا بنبرة مقهورة وهو يدفن أنفه في شعرها :
" ماذا فعلت بكِ ؟!! .. سامحيني يا سندس ، سامحيني "
شعرت سندس بارتجافه فربتت على معصمه الذي يلفه حولها ليستطرد بعدها بصوت متحشرج :
" ألم تشعري أبدًا بما عايشته معكِ بالأمس ؟!! .. ألم تخبرك لمساتي ؟! .. ألم تشي بي عندك فتخبرك بأنكِ  حلمي الذي لم أجرؤ يومًا على التطلع إليه ؟!! "
ابتلعت سندس ريقها بينما أكمل بِشر بنبرة تفيض عشقًا ووله :
" كل لمسة يا سندس ، كل لمسة منكِ كانت حلم .. رؤية دعوت الله دائمًا أن يلطف بي و يحققها ، كل نفّس يصدر عنكِ هو هبه منّ الله علي بها مستجيبًا لتضرعي بعد أن سقطتِ  أمامي في ذلك اليوم اللعين "
شعرت بدمعة نزلت منه وهو يستطرد بحشرجة وكأنه يسترجع يوم الحادث وكيف مر عليه :
" تذللت وتضرعت إلى الله بل حتى جننت وأقسمت أن أقتل نفسي إذا حدث لكِ مكروه ، أنا لا أستطيع التنفس بدونك يا جنتي .. أسميه جنون ، عته ، ضعف لا يهمني .. فأنا لا أدرك ولا أرى غيرك ، أنتِ أمي التي لم تلفظني وروحي التي رُدت إلي فأحيتني "
أبعدها لإنشات بسيطة ثم أمسك بوجهها بين كفيه فرأت دمع عينيه ووجعه مسطورًا على وجهه وهو يهمهم بنبرة حارة :
" إياكِ أن تنتابك لحظة شك واحدة في مدى كمالك في عيني ، انتِ  و أنتِ  بالأخص بوجودك بين ذراعي وأمام عيني ، باستيقاظي على ملامح وجهك وبلمسي لأبسط تفاصيل روحك ، بشعوري بقربك الذي لم أبتغي يومًا سواه كنز ، كنز سأمضي ما بقي من عمري أسجد لله شاكرًا عليه "
تدفقت دموعها بلا تحفظ تأثرًا بما تراه في عينيه فيميل بِشر ويلتقط ثغرها في قبلة أوشت لها بصدقه في كل حرف تفوه به فتتشبث بكتفيه تنهل من نهر عطاياه العذب الذي لا ينضب والذي يروي تشققات روحها التي ليس لها أن تُحلق إلا فى أرضه .
***
" أنا لا أريد ان أعمل "
تهتف بها لقاء بضيق بينما يكتف مأمون ذراعيه ويقول دون هوادة :
" أخبريني بسبب واحد يجعلك ترفضين فرصة كهذه "
مازالت لقاء على عنادها وترد دون أي لين :
" لأنني لا أريد ، لا أريد "
زفر مأمون ببوادر غضب من الغباء الذي بدأ يسيطر على تصرفاتها ثم قال من بين أسنانه :
" هذه فرصة عمل جيدة ولها علاقة بتخصصك .. لما تعاندين ؟!! "
" انا لا أعاندك يا أبي .. أنا فقط لا أريد أن أعمل "
تبخر هدوء مأمون فهدر بعصبية وغيظ منها :
" لا تريدين العمل ولا تريدين الخروج من المنزل ولا مقابلة أحد .. إذًا ماذا تريدين ؟!! .. هل ستدفنين نفسك مع من رحلوا ؟!! "
لم ترد لقاء على ثورة أبيها فاستطرد بغضب أكبر :
" هذا الوضع لا يمكن السكوت عنه ، من الغد ستتابعين مع طبيب نفسي "
هتفت لقاء بذهول :
" طبيب نفسي لأنني لا أريد أن أعمل ؟!! "
فيقارعها مأمون بنفس الغضب :
" طبيب نفسي لأنكِ لا تريدين أن تحيي مثل العالم والناس "
ليقسو أكثر علها تفيق فيغمغم :
" لقد التزمت الصمت بما يكفي وانظري إلى أي شيء تحولتِ في النهاية "
أشار إلى هيئتها متمتمًا بنبرة حادة :
" وما هذا الذي ترتديه ؟!! .. ما هذا المنظر بالله عليكِ ؟!! .. هل هذه طريقتك في الحداد ؟! .. أهملتِ  نفسك حتى بتِ مثيرة للشفقة ، وأنا لن أصمت لكِ أكثر من هذا ولن أسمح لكِ  بقتل نفسك .. أم لعلكِ تظنين أن خالد سعيد بما تفعلينه بنفسك ؟!! "
ليغمغم بعدها بنبرة تعلمها لقاء جيدًا فتدرك أنه لن يتراجع عن ما سيقوله :
" لأخر مرة سأترك لكِ الخيار ، إما تخرجين للعمل وتختلطين بالناس أو العلاج النفسي .. ولا مزيد من المناقشات في هذا الأمر "
أنهى مأمون حديثه الصارم وتركها تقرر بمفردها ثم دلف إلى غرفته وبعث رسالة إلى الطبيب الذي استشاره منذ عدة أيام وأخبره بوضعها كاملًا وهو من اقترح عليه تلك الحلول خاصةً وأنها ترفض زيارة العيادة النفسية رفضًا قاطعًا ..
أخبره مأمون بالمستجدات ثم تحرك نحو الباب ينظر منه بشكل غير مرئي فوجدها عادت إلى صومعتها وأغلقت الباب على نفسها مرة أخرى فتمتم بعجز وهو لا يدري ماذا عليه أن يفعل أكثر من هذا ..
" ربي لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف بي "
وفي غرفة لقاء كانت تجلس على طرف الفراش تحدق في الأرض بعصبية شديدة مختلطة بحزن عميق لا ينضب ..
نهضت تنظر إلى نفسها في المرآة وكلمات والدها المستهجنة عن هيئتها تضربها بلا رحمة .
نظرت إلى منامتها التي لم تغيرها منذ عدة أيام حتى بعد أن سقطت عليها قطعة طماطم صغيرة وتسببت في بقعة منفرة عليها ثم أمسكت بأطراف شعرها التي تقصفت وهي لا تذكر آخر مرة مشطته فيها !
والدها محق .. إلى أي شيء تحولت ؟!!
همهمت بها لنفسها وهي تتحسس هالتها الزرقاء التي باتت تحتل ملامح وجهها لتدمع عيناها بعجز وتتنهد بضغط شديد فيما تضع كفيها على رحمها الفارغ متمتمةً بألم :
" خسارتي فادحة يا أبي ، لما لا تدعني أذوي ورائهم ؟!! "
رن هاتفها المحمول فتحركت بخطوات ميتة لتقطب باستغراب حينما وجدت اسم حماتها يضوي على الشاشة فأمسكت بالهاتف بسرعة واستقبلت المكالمة لتتسع عيناها برعب حينما وصلها صوت حماتها الباكي .
*****
" هل انتهيتِ ؟!! "
ألقى بِشر سؤاله وهو يدلف إلى الغرفة ثم أطلق صفيرًا معجبًا و هو يتأمل جمال زوجته لتنظر له سندس ثم تدور حول نفسها بألق فيطير الثوب حولها ببهاء وهي تسأل :
" ما رأيك ؟!! "
اقترب منها مهمهمًا بعبث وهو يتأمل روعة ثوبها الأصفر الذي يصل إلى كاحلها ككل اثوابها :
" رأيي أنني لن أفتح الباب لأي زائر اليوم حتى أنفرد بكِ كما أشاء "
ضحكت سندس بخفة بينما أمسك بِشر بعقد ترتديه على شكل صفوف من لآلئ بيضاء متعددة ويتدلى من نهايته قطعة نحاسية مستطيلة بزخارف رائعة على الحافة ومحفور عليها ( حرير الجنة )
" من أين لكِ  بهذا العقد ؟!! "
سألها متعجبًا وهو يتلمس اسم دلالها الخاص به :
" رغدة صنعته لأجلي "
ارتفع حاجبي بِشر بإعجاب ظهر في سؤاله :
" هل تلك الصغيرة تجيد صنع الحلي ؟!! "
ضحكت سندس مرة أخرى ثم عقبت وهي تفتح بعض الأدراج :
" لقد أهدتني أكثر من واحد .. انظر "
نظر بِشر إلى ما في يد سندس بإعجاب ثم تمتم ضاحكًا :
" رائعين ، إنها موهوبة بحق دون أن يظهر عليها "
شاركته سندس الضحك لينتفضا سويًا على صوت الجرس مصاحبًا لطرقات قوية على الباب مع زغاريد عالية متواصلة فنظر لها بِشر سائلًا بتعجب :
" هل أتوا سويًا ؟!! "
رفعت سندس كتفيها بجهل ثم تركها بِشر وذهب ليفتح الباب مبتسمًا في وجه الهجمة النسائية حيث أمه وأخته و خالته و عمته وبناتها ..
رحب بهن بحفاوة شديدة يحمل عنهن طعام الإفطار قائلاً بكياسة :
" لم يكن هناك داعِ لكل هذا ، الثلاجة ممتلئة بالطعام "
ردت عليه عمته بصوت قوي :
" ما هذا الذي ليس له داعِ ؟؟! .. أنت عريس ويجب أن تتغذى جيدًا "
كتم بِشر ضحكته حينما توردت وجوه الفتيات الثلاثة بينما دخلت عمته وخالته إلى المطبخ حتى يضعن ما بيدهن ليجدن صينية العشاء التي حضرنها بكل جهد كما هي لم تُمس فبرمت الحاجة سعادات شفتيها مهمهمة بوقاحة خافتة :
" هل كانا متعجلين لدرجة أنهما لم يجدا الوقت حتى لتناول العشاء ؟!! "
ضحكت إيمان ثم ردت عليها وهي ترص الأطباق فوق رخام المطبخ :
" لا ، تكلمي عن ابنكم أنا ابنتي مهذبة وتمشي على الصراط المستقيم من يومها "
بادلتها سعادات الضحك وعقبت :
" معك حق ، ابنتك جعلته يدور حول نفسه حتى أتمت الزفاف "
تنهدت إيمان بابتسامة عريضة ولهجت :
" أتم الله سعادتهما على خير وافرح قلبهما "
أمنت ورائها سعادات ثم خرجا ليجدا بِشر يجلس ويلتصق بسندس على الأريكة ويتبادل المزاح مع أخته وبنات عمته بينما تجلس أمه بهدوء تراقبه بعينين غائمتين بالفرح والسرور ..
" هل أعجبتك هدية زفافكما يا سندس ؟ "
ألقت فضة سؤالها بضحكة ماكرة فكتم بِشر ابتسامته بينما اشتعلت عينا سندس بغيظ وهي تتذكر وصلات الشعر التي وجدتها داخل علبة هدايا موضوعة على طاولة الزينة فوجهت لها ابتسامة صفراء محاولةً الحفاظ على تهذيبها أمام الجالسات وأجابتها :
" هدية جميلة يا فضة ، لكن تليق لكِ أنتِ يا ابنة الشعراوي "
" ابنة العامرية يا سندس ، أنا عامرية أبًا عن جد "
نظرت سعادات لابنتها التي تصحح كنيتها بكل فخر تسألها بعينيها عن ما فعلته بينما نطقت فداء السؤال حرفيًا متعجبين من رد سندس فتمتمت فضة ببراءة :
" لقد كانت تغار من طول شعري منذ طفولتنا فأهديتها وصلات شعر حتى يصبح شعرها بنفس طول شعري "
قرصتها غالية حتى تصمت وضحك البقية بينما سألتها سندس باستخفاف وتكذيب تخبئ وراءهما غيظ طفولي :
" وهل شعرك بطول هذه الخصلات يا عامرية ؟!! .. مستحيل "
التمع الفخر بعيني فضة ثم قالت بمباهاة :
" هل تحبي أن تريه ؟!! "
كزت سندس على أسنانها بغضب بينما هتفت بهن سعادات :
" توقفن عن هذا .. هل ولدتن فوق رؤوس بعضكن ؟!! "
" هي من بدأت "
القوها سويًا وكل واحدة فيهن تشير نحو الأخرى فضرب بِشر كفًا بكف بيأس منهن بينما تعالت ضحكات البقية فتمتمت سعادات بصرامة موجهة حديثها إلى ابنتها :
" كُفي عن التباهي بشعرك أمام القاصي والداني حتى لا أقصه لكِ "
ثم أشارت نحو غالية واستطردت بفخر أمومي :
" ها هي أختك شعرها أطول من شعرك و لم اسمعها يومًا تتباهى به "
ابتسمت غالية بخجل بينما برطمت فضة بعدم رضا ثم أعلنت إيمان نهاية الزيارة لينهضن جميعًا بينما قالت سعادات ببعض الحرج المتأخر :
" اعذر زيارتنا المبكرة يا ولدي لكننا سنعود بعد قليل إلى البلدة و لم يكن لدينا وقت آخر "
مال بِشر مقبلًا رأسها مهمهمًا بحرارة :
" ما هذا الذي تقولينه يا عمتي ؟! .. هذا بيتك وتأتين وقتما تريدين "
ربتت سعادات على كتفه بمحبة ثم قبلت سندس بينما سألها بِشر عن البقية فقالت :
" أعمامك عادوا ليلة الأمس إلى الوادي ونحن بتنا ليلتنا في شقة ليث حتى نستطيع المباركة لكما "
" وأين ليث ؟!! "
" ينهي بعض الأعمال وبعدها سيأخذنا ونعود معه جميعًا بأمر الله "
ابتسم بِشر ثم همهم :
" تصلون بالسلامة يا عمتي .. أوصلي تحياتي للجميع ".
ثم نظر إلى غالية وحياها بخفة ثم نظر إلى فضة فيما يقول بمشاكسة :
" أراكِ  على خير يا طويلة اللسان "
لوت شفتيها بنزق ثم مشت دون أن ترد عليه فضحك بيأس منها وتابع نزولهن مع فداء ثم التفت إلى أمه معطيًا سندس مساحتها مع خالته لتتمتم سميحة :
" اعتني بنفسك و بها "
أومأ لها مبتسمًا بهدوء ثم اقتربت منه إيمان قائلة بمزاح وهي تشير نحو سندس :
" هذه البضاعة لا تُرد ولا تُستبدل .. مفهوم ؟! "
ضحك بِشر ثم لف ذراعه حول زوجته و رد بمشاغبة وهو يغلق الباب ورائهن :
" مفهوم يا معلم .. مفهوم "
" أنا بضاعة يا بِشر ؟!! .. والله لا أعلم هل أجدها من أمي أم من بنت عمتك المستفزة تلك ؟!! "  
ضحكت بِشر ثم قربها منه قائلًا بصوت عابث وهو يهم بحملها :
" تعالي لأنسيكِ كل هذا "
شهقت سندس ضاحكة بدلال حينما ارتفعت في الهواء ليبتسم لها ويسير بها نحو غرفتهما متمتمًا بمشاغبة :
" يا لجمال بضاعتك يا خالتي "
***
وفي الأسفل كادت سعادات وابنتيها إيقاف سيارة أجرة تأخذهن إلى شقة ليث لكنهن تفاجئن بوصول ليث بنفسه لتسأله أمه باستغراب :
" لما اتيت يا ولدي ؟!! .. ألم تقل أن لديك بعض الأعمال لإنجازها ؟!! "
وقف ليث بطوله الفارع ككل أفراد العائلة رجالًا ونساء ورد بلكنتهم :
" أنهيتها باكرًا وجئت لأوصلكن "
أومأت سعادات بتفهم وركبت السيارة هي وغالية بينما تلكأت فضة قليلًا تنظر إليه بخبث فضربها على مؤخرة عنقها ثم التفت ليركب بدوره دون أن ينسى رفع عينيه ليسرق نظرة خاطفة أخرى إلى ( زينة الصبايا ) التي تسكن قلبه منذ أمد بعيد والتي جعلته ليلة الأمس على صفيح ساخن من فرط جمالها بثوبها الأزرق الذي تحالف مع زرقة عينيها وجعلوه يكاد يضرب نصف رجال الحفل من أجلها لكنها وكعادتها كانت لا تنظر لشيء عدا هاتفها فزفر ليث بقنوط لترفع فداء عينيها بشكل عرضي مفاجئ نحوه فتلقف زرقة عينيها بابتسامة وضاءة وقلب يرتج وهز رأسه لها بتحية مهذبة فابتسمت له فداء بمجاملة ثم ركبت جوار أمها ليركب سيارته بدوره فتتمتم فضة بشقاوة و خبث وكأنها تعلن معرفتها بمكنونات صدره وهي تحشر نفسها بين مقعده ومقعد أمه :
" أنرت المكان والله يا ليث "
ضربها ليث مرة أخرى لكن هذه المرة على جبهتها متجاهلًا تعليقها ثم أدار السيارة وانطلقوا إلى شقته حتى يجلبون أمتعتهم ويعودوا إلى الوادي من جديد .
*****
استيقظ على صوت ضحكات مرتفعة تأتي من الشرفة تبعه صوت وصال الذي لم يصله بشكل واضح لكنه خمن أنها هي فأمسك بهاتفه ليرى كم الساعة ليجدها الحادية عشرة صباحًا فتعجب من استغراقه في النوم بهذا الشكل ثم وجد عدة رسائل واردة لكنه كان نصف نائم فترك الهاتف ونهض يهرش في شعره ثم دلف إلى الحمام وغسل وجهه في الوقت الذي دلفت فيه رغدة إلى الغرفة بعد أن شعرت باستيقاظه وهي تستمع  إلى وصال التي فاجأتها بهذا الاتصال المرئي فكلمت جدها أولًا ثم قصي والآن وصال التي سألتها بوقاحة خافتة وهي تتحرك في أرجاء المنزل فتشعر رغدة بحنين مفاجئ إلى بيتها :
" أخبريني كيف تقبل زوجك المسكين الأمر ؟! "
لتستطرد بعدها ضاحكة :
" والله يا رغدة كدت أسقط رعبًا حينما هاتفتني بعد زفافك مباشرةً وتوقعت حدوث كارثة حقيقية "
لوت رغدة شفتيها بنزق ثم قالت باختصار وهي تلمح خروج صخر من الحمام :
" صخر مستيقظ ، احترمي نفسك "
ضحكت وصال بصخب ولم تنهي المكالمة كما ظنت رغدة بل هللت وهي تنظر إلى اتجاه معين :
" وأخيرًا استيقظت أم البغل ! .. هيا ألقي التحية على رغدة "
نظرت رغدة إلى جزاء التي قالت بصوت ناعس وهي تتحرك تجاه المطبخ :
" كيف حالك يا عنزة ؟!! "
قطبت رغدة بغضب ثم هتفت مرة واحدة بصوتها الحاد :
" عنزة ترفسك وتخلصنا منكِ "
نظر لها صخر متفاجئًا بلسانها الطويل الذي لم يلاحظه من قبل بينما انفجرت وصال ضاحكةً ليظهر صوت بكر الذي هتف بشكل مفاجئ مما جعل صخر يترك ما بيده وينتبه لها :
" لا تدعي على زوجتي يا عنزة واحترمي نفسك "
ارتفع حاجبي رغدة ثم سألت وصال بتعجب وقلق :
" ماذا تفعلون جميعًا في المنزل هذه الساعة ؟!! ..هل جدي بخير ؟!! .. لماذا لستم في الشركة ؟!! "
طمأنتها وصال مغمغمة :
" لا تخافي جدك بخير ، كل ما في الأمر أن جزاء هانم كانت مرهقة ولم تذهب إلى العمل اليوم وهذا يعني شيئًا واحدًا هو أن .... "
أكملت رغدة عنها بشفتين ممطوطتين غافلة عن نظرات صخر الضائقة :
" أن يتحول بكر لدجاجة منزلية "
ضحكت وصال مجددًا بينما تمتم بكر بصوت مسموع :
" والله أنا أشفق على المسكين الذي ابتلي بعنزة الغانم ذات الدم الخفيف "
لوت رغدة شفتيها ثم ردت عليه :
" خفة الدم التي تتحدث عنها هذه وراثية يا إناء العسل "
ألقى صخر المشط بعنف على طاولة الزينة فأجفلها لتنظر إليه فتجده يحدق فيها بنظرات غاضبة بينما كانت وصال غارقة في الضحك لتنهي رغدة المكالمة بصوت خافت متعجبة من وقفته المشدودة ونظرته الحارقة :
" سأحدثكم لاحقًا ، سلام "  
وضعت الهاتف جوارها ثم نظرت إليه مهمهمة ببعض التوتر من وقفته :
" ماذا بك ؟!! "
ماذا به ؟!!! .. وتسأل أيضًا !
لوح صخر بكفه في الهواء بملامح مغلقة محرفًا ما يدور بداخله :
" اسمعي .. انا لا أحب تباسطك في التعامل "
ما زال عدم الفهم يلون نبرتها فتقطب وتسأل دون أن تنهض من جلستها على طرف الفراش :
" أي تباسط ؟!! "
فيتمتم صخر بشفتين مطبقتين كخط مستقيم :
" تباسطك مع أبناء عمك "
" هذا بكر "
همهمت بها بغباء منقطع النظير لتشتعل عينا صخر ويرد بصوت مشحون :
" ولأنه بكر أنا أطلب منكِ بكل أدب أن لا تتعاملي معه من جديد "
لا تتعامل مع أبناء عمها !
ما هذا الجنون ؟!!
ما باله هذا هل استيقظ أم لازال على نعاسه ؟!!
أم أن سندس جنت وأخبرته بهيامها المخزي القديم ؟؟!
لا ، لا مستحيل أن تفعلها سندس وتشي بها
لكن حقًا ماذا به ؟؟!
" أنت تمزح .. أليس كذلك ؟!! "
رفع صخر حاجبًا متعنتًا ثم رد على سؤالها بسؤال :
" هل ترين أي أثر للمزاح على وجهي ؟!! "
أخيرًا نهضت رغدة من مكانها ثم قالت بصوت مرتفع :
" لا ،تمزح .. حين تقرر أن تمنعني عن عائلتي مؤكد تكون تمزح "
ارتفع حاجبيه باستغراب مما تقول ثم تحرك تجاهها متمتمًا بنبرة حادة :
" وهل حين أطالبك بالحدود المتعارف عليها أصبح أمنعك عن عائلتك ؟!! "
ليضربه خاطر مجنون فيهدر بغضب أخافها :
" أم أن عائلتك تتلخص في السيد بكر ؟!! "
شهقت رغدة متفاجئة مما قاله لتهتف فيه بحرقة :
" صخر أنا لا أسمح لك .... "
فيقاطعها هاتفًا بدوره :
" ولا أنا أسمح لكِ ، وكلامي سيُنفذ دون نقاش "
" أنت ماذا حدث لك فجأة ؟!! "
غمغمت بها بخفوت ذاهلة من شجاره معها وعنفه الغير مفسر لها
بينما كان هو يقف أمامها ويغلي من تصميمها على القرب من الآخر ..
" أنا زوجك ، ومن حقي أن تطيعني بلا نقاش "
" بلا نقاش ! "
" أجل بلا نقاش "
يرددها على مسامعها من جديد فتهمهم :
" ما هذا التعنت ؟!! ... كل هذا لأن أفراد عائلتي كانوا يباركون لي ؟! "
كز صخر على أسنانه بغضب مكتوم ثم قال بصوت أهدأ :
" لا تصوري الأمر على هواكِ ، أنا أطالبك ببعض الحدود لا أكثر "
نظرت له رغدة بعينين دامعتين وعقلها يجنح في تصويره لصخر كجاسم جديد سيمنعها عما تريد ويقيد حريتها تحت بند مصلحتها وحين ترفض قيوده سيظل يهدر فوق رأسها دون توقف وقد يتطور الأمر إلى إهمال جديد من قبله ..
إهمال وتهميش لن تتحملهم منه أبدًا !
لاحظ صخر كيف تنظر إليه وكأنها طفلة في حضرة طاغية فثارت أعصابه أكثر وهمهم بصوت مكتوم هو يأخذ هاتفه :
" أنا سأنزل إلى المطعم ، إذا أردتِ تناول افطارك بدلي ملابسك واتبعيني "
لم ترد رغدة بأي شيء وهي تتابع ذهابه بعينين حزينتين بينما نزل صخر إلى المطعم طالبًا قهوته حتى يصفي ذهنه قليلًا قبل أن يتعامل معها من جديد ..
أجل كان قاسيًا بعض الشيء لكنه محق !
وابن عمها ذاك يجب أن يخرج من دائرة تعاملاتها تمامًا ولن يتنازل عن هذا ..
رن هاتفه برقم أحد أصحابه لكنه لم يكن في مزاج جيد للرد لتأتي القهوة بعد دقائق فيرشف منها وهو يمسك بهاتفه من جديد ليقلب في الرسائل التي وردته هذا الصباح ليجد رسالة قد وردته من رقم غير معروف ففتحها لتتسع عيناه بصدمة و هو يقرأ الكلمات المختصرة المتشبعة بالكراهية
( لا تفرح بها كثيرًا حتى لا يُحرق قلبك حزنًا عليها فيما بعد )
وبنفس اللحظة أطلقت رغدة صرخة قوية جعلت القهوة تسقط من بين يديه وهو يهرول تجاهها .

عدو في المرآة  .. الجزء الثاني من سلسلة قلوب تحت المجهر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن