الفصل السادس والعشرون

324 14 1
                                    

ولعل جمر روحي يشتعل من بين رمادها ..! )
****
" رغدددددددددددددددة "
شقت صرخته سكون الليل حين لم يمهله قدره فرصة أخيرة وتهاوى الباب المشتعل على جسدها الصغير أمام عينيه لكنه رمى جسده فوقها بسرعة مهولة وبلا ذرة تفكير فيسقط الباب المشتعل على ظهره فيصرخ بألم شديد ويحاول أبعاده عنه فيساعده بِشر الذي دلف في تلك اللحظة وراءه ويبعد عنه الباب بكل قوته دون أن ينتبه أيًا منهما لذلك اللهيب الذي بدأ يزحف نحو ذراع رغدة ببطء شديد .
صرخ بِشر في صخر محذرًا فور أن لاحظ الأمر وهو يشير إلى ذراع رغدة فيزيحها صخر بكل طاقتها و يحاول إبعادها ويساعده بِشر وهو يكاد يختنق من الدخان الكثيف الذي يحيط بهم فيسنده حتى ينهض وهو يئن من وجع ظهره الذي اصيب بشدة ثم يبعده قليلًا و يميل بسرعة فيحمل رغدة متجنبًا لمس ذراعها الأيسر الذي تظهر عليه علامات إصابة بالغة لينزل ثلاثتهم الدرج الذي اشتعلت حوافه فتحول البيت لجهنم صغيرة والنيران لا تبقي  على شيء .
خرجوا جميعًا فوجدوا المكان قد ازدحم برجال الاطفاء الذين بدأوا في عملهم بسرعة قياسية بينما نهضت إيمان التي كانت تجلس ارضًا بانهيار فور أن لمحتهم وركضت نحوهم بعينين ذاهلتين وهي ترى بِشر يحمل رغدة و في نفس التوقيت يسند صخر الذي يمشي بصعوبة كبيرة تتبعها سندس التي كادت أن تدلف وراء بِشر حين رأته يتبع صخر إلى الداخل مرة أخرى .
وضع بِشر رغدة ارضًا ثم جلس جوارها يسعل بلا توقف يجاوره صخر الذي رغم ألم ظهره الشديد أمسك برأس أمه التي كانت تبكي على بيتها الذي يتدمر أمام عينيها فيضمها إلى صدره يواسيها بصوت متألم وهو ينظر لرجال الإسعاف الذين حضروا لأخذ رغدة فينهض ورائهم بتعب شديد ويركب معها سيارة الإسعاف تاركًا بِشر يحل محله وعقله لا يستوعب أيًا مما يدور !
اقترب سندس من بِشر الذي مازال يجلس أرضًا يسعل بإنهاك شديد ثم أمسكت بوجهه بشكل مفاجئ ترفعه إليها و تدقق فيه كأنها تطمئن أن لا شيء أصابه لتحتضن بعدها رأسه إلى صدرها وهي تغمغم لنفسها بصوت مسموع ..
" انت بخير .. الحمد لله ، الحمد لله بخير "
عانقها بِشر للحظات ثم مد ذراعه الآخر ناحية خالته ليضمهما إليه محاولًا التخفيف عنها بينما عيناه لا تفارق المنزل الذي بدأ رجال الإطفاء يسيطرون على حريقه لينتبه بعدها على صوت عربة الإسعاف التي انطلقت بصخر ورغدة فتابع بِشر اختفاء سيارة الإسعاف بعينيه وهو لا يزال يحتضن إيمان التي تبكي على بيتها بحسرة كسرت قلبه ويحتضن سندس بالذراع الآخر ويبعدهن عن موقع الحريق قدر المستطاع ..
مال يقبل رأسها مواسيًا وهو يقسم لها بأغلظ الإيمان أنه سيرد حقها وسيُعيد لها المنزل افضل مما كان ثم رفع عيناه إلى سندس التي كانت لاتزال تقبع تحت تأثير الصدمة فلم تتفوه بأي حرف بعد أن اطمأنت عليه وظلت تحدق فيما يدور بعينين شاخصتين كأنها تشاهد فيلمًا مخيفًا فربت على شعرها يسألها إن كانت بخير فلم تجيبه سوى بإيماءة بسيطة وهي تتابع بعينيها سيل الماء الذي يغمر منزلهم الذي تحولت واجهته لكتلة سوداء مرعبة فيربت بِشر على رأسها من جديد محاولًا انتزاعها من ذهولها وبالفعل نظرت له بعينين جاحظتين فطمئنها بعينيه أن كل شيء سيكون على ما يرام ثم قبّل جبهتها و أراح رأسها فوق كتفه الآخر ناظرًا بحسرة إلى المنزل الذي حمل اجمل ذكريات طفولته ومراهقته وهو يقسم بداخله أن يجعل من فعل بهم ذلك يتمنى الموت ولا يطاله .
****
ينظر إلى رجال الإسعاف اللذين بدأوا بوضع جهاز الأكسجين لها حتى تستطيع التنفس ثم قاموا بقلبها على جانبها الأيسر متجنبين الضغط على ذراعها المصاب وهم يبدئون بعمل الاسعافات الأولية لمجرى تنفسها اولا قبل الالتفات لذراعها الذي اصيب بشدة ..
دمعت عيناه وهو يمسك بالذراع الآخر يتأملها وهي مستسلمة لقدرها تمامًا ،ضعيفة لا تقوى على التنفس فرفع كفها الصغير يقبله بعينين دامعتين وهو يهمس بخفوت شديد وقلبه يضرب صدره بجنون :
" كوني بخير يا هريرة .. فقط كوني بخير وأعدك أن اصلح كل ما أفسدته "
ضرب صوتها وهي تدعو على نفسها عقله مرة أخرى فاغمض عينيه بوجع أشد من وجع ظهره في هذه اللحظة ..
يلوم نفسه دون توقف على كل لحظة تسبب لها فيها بالحزن وهو ينظر إلى وجهها الشاحب الذي يغطيه قناع الأكسجين ثم يعود بعينيه مرة أخرى إلى ذراعها المصاب يدقق فيه داعيًا ربه أن يحفظها و أن لا تكون إصابتها خطيرة .
ظل رجال الإسعاف يحاولون فتح مجرى تنفسها للحظات إلى أن سعلت أخيرًا ثم تأوهت بوجع شديد فاقترب منها بلهفة ينادي اسمها بلوعة بعد أن كان على وشك خسارتها ..
رفعت له عينين دامعتين يحتلهما الألم فقبل كفها القابع بين كفيه قائلًا بحلق مختنق و كلمات عشوائية تخرج عنه :
" أنتِ بخير ، ستكونين بخير .. لا تخافي حبيبتي ،انا هنا معك "
همهمت باسمه في بكاء خافت متألم من أسفل قناع الأكسجين بينما رجال الإسعاف يفحصون ذراعها ليدركوا درجة إصابتها فمد أصابعه يمسح دمعاتها المتساقطة على جانبي وجهها وهو يغمغم بصوت مهتز من هول ما يتعرضون له وظهره يؤلمه بشدة :
" والله ستكونين بخير .. لا تخافي سيمر كل شيء "
اغمض عينيه بألم شديد ثم فلت منه تأوه خافت فسأله أحد المسعفين عن وضعه حين رأى تأوهه فأخبرهم عن إصابة ظهره وبدأوا بفحصه هو الآخر ليهمهم أحدهم أن جروحه بسيطة وأن ما يؤلمه هو كدمات إثر سقوط الباب عليه لكنه كان في وادي آخر وعيناه لا تفارق عينيها الخائفتين التي تتمركز نظراتها على وجهه وكأن فيه نجاتها فيطمئنها قدر إمكانه بينما عقله منقسم لنصفين نصف يقبع حيث ترك والدته واخته والآخر معها هي ..
حبيبته الصغيرة التي تبدو لعينيه أضعف من اي مرة رآها فيها .
*****
بعد عدة دقائق كانوا يدلفون بها إلى الطوارئ وصخر يهتف في بعض الناس حتى يبتعدوا عن طريقهم دون أن يفلت كفها للحظة ليستقبلهم الطبيب المناوب وفريقه بسرعة بينما يغمغم المسعف بعملية وسرعة :
" حريق منزل ، المريضة تعاني من آثار اختناق و حرق من الدرجة الثانية في ذراعها الأيسر "
حاولت إحدى الممرضات إبعاده لفحص حالة ظهره بعد أن أخبرهم المسعف بوضعه هو الآخر لكنه رفض و أصر على البقاء مع زوجته التي كانت تحدق في كل ما حولها بجزع شديد وكأنها دخلت في حالة صدمة فتنادي بإسمه دون توقف وهي تتشبث بكفه أكثر وتبكي بوجع شديد .
بعد لحظات كان يجلس عاري الصدر أمام باب إحدى الغرف التي ادخلوها بها ينتظر اي خبر عنها ووراءه يجلس ممرض يقوم بعمل الاسعافات الاولية لحروق وكدمات ظهره فيما يقول بدعم :
" لا تقلق يا سيد .. حالة ظهرك ليست شديدة السوء، إصابات خفيفة من الحريق وبعض الكدمات المتفرقة في أنحاء ظهرك  "
اومئ صخر دون اهتمام فعلي على الرغم من الألم الذي يعصف به وعيناه لا تفارق باب الغرفة التي حجزت زوجته بداخلها لتمر عدة دقائق ثم يخرج الطبيب فيهرول صخر ناحيته يسأله عن وضعها فيغمغم الطبيب :
" مثلما قلنا السيدة تعاني من حرق من الدرجة الثانية في ذراعها الأيسر ولله الحمد الحرق لم يصل لأبعد من ذلك .. هي ستبقى هذه الليلة تحت الملاحظة وذلك من أجل الاطمئنان عليها تمامًا بعد تعرضها للاختناق من الدخان الكثيف ، أما ذراعها فسيتحسن مع الوقت ومع اتباع الإرشادات التي ستخبركم بها الممرضة "
غمغم صخر بالحمد ثم دلف إليها بسرعة ليجدها لازالت ترتدي قناع الأكسجين فاقترب منها بلهفة وجلس على طرف فراشها يربت على وجهها وشعرها بدعم وهو يهمهم :
" الطبيب طمأنني على حالتك ، ستكونين بأفضل حال يا هريرة ، لا تخافي "
رفع كفها السليم إلى شفتيه يقبله من جديد بينما ابعدت هي قناع الأكسجين عن وجهها ثم همهمت بصوت شديد الخفوت والتعب تسأله عن حاله :
" انت ؟!! .... والبقية ؟!! "
ظل متشبثًا بكفها ثم غمغم :
" جميعنا بخير الحمد لله .. لا تقلقي "
لحظات و دلف الممرض الذي كان يساعده في الخارج وقد جلب له ما يرتديه بعد أن تمزق قميصه إثر الحريق فشكره صخر بتعب ثم خرج الرجل فيرتدي صخر القميص بصعوبة وهو يتأوه ثم يعود لجلسته و تربيته علي شعرها وهو يغمغم لعينيها التي بدأ النعاس يسيطر عليهما :
" كدت أفقد عقلي حينما علمت أنكِ عدتِ للداخل "
ليرفع بعدها قناع الأكسجين إلى وجهها مرة أخرى ثم يميل بصعوبة ويقبل جبهتها هامسًا أمام وجهها :
" إياك ِ أن تفعلينها بي من جديد .. فداكِ اي شيء وكل شيء حبيبتي "
أغمضت رغدة عينيها باستسلام ثم مر بعض الوقت الذي قضاه صخر جالسًا بصحبتها بعد أن اتصل ببِشر حامدًا ربه أن هاتفه لا زال سليمًا في جيبه بعد كل ما تعرض له فاطمئن عليهم وطمأنهم عليهما لينظر بعدها مجفلًا إلى جاسم الذي دلف كالمجنون يتبعه بقية رجال عائلته ليهرول مصعوقًا تجاه أخته مناديًا اسمها بقلق شديد فيما يسأل :
" كيف حدث ذلك و كيف حالها ؟!! "
أخبره صخر بقشور الأمر ليهتف جاسم بحدة في أفراد عائلته وهو يمسك بتلابيب قميص صخر :
" ألم أخبركم أنه لا يصلح لها ؟!! .. ألم أخبركم أنها ستعاني معه ؟؟! .. لم يصدقني أيًا منكم وها هي النتيجة "
ابعد صخر أصابعه عن قميصه بحدة شديدة قائلاً بخفوت مجنون بعد أن فاجأته ردة فعل هذا المتخلف :
" قسمًا بالله لولا ما هي فيه لكنت اريتك الآن على رفعة يدك عليّ "
وكأن خوفه على أخته قد ذهب بعقله اقترب جاسم برأسه قائلًا بتحدي صارخ و رغبة عارمة في الشجار :
" ماذا ستفعل ؟!! .. اريني "
اعتلى الجنون نظرات صخر فحاول البقية ابعادهما عن بعضهما بينما هدر فيهما عبد الحميد بغضب حتى يعتدلا في الوقت الذي نادت فيه رغدة على جاسم بصوت مرهق فالتفت إليها بقلق عارم وهو يغمغم :
" لا تخافي يا رغدة .. سآخذك من هنا ،ستكونين بخير لا تقلقي "
" لما تتشاجران ؟؟! "
نظرا إلى بعضهما نظرات نارية فحاول عبد الحميد تشتيتها واقترب منها يطمئن عليها بينما سحب امين صخر معه إلى الخارج محاولًا فهم تفاصيل ما حدث معهما ..
" سآخذك إلى المنزل "
غمغم بها جاسم بإصرار وهو يحدق في ضماد ذراعها بينما قال عبدالحميد باستنكار :
" ما هذا الذي تهذي به بحق الله ؟!! .. هل ابنتنا قليلة الأصل حتى تترك زوجها في وضع مثل هذا ؟!! "
رد عليه جاسم بحمائية شديدة :
" ألم ترى ما حل على رأسها بسببه يا عماه ؟!! "
كز عبد الحميد على أسنانه قائلًا بعصبية مكتومة :
" وهل حل على رأسها بمفردها ؟!! .. الرجل بيته كله احترق ، وما أصاب رغدة هو قضاء و قدر "
كاد جاسم أن يرد عليه لكن اسكتهما صوت رغدة المتهكم :
" اذا سمحتما هل لي أن أبدي رأيي في الأمر ؟!! "
نظرا إليها متفاجئين من أسلوبها لتستطرد رغدة بنبرة قاطعة :
" انا لن اتركهم في هذا الموقف أبدًا ،وسأذهب مع زوجي حيث يذهب "
ربت عبد الحميد على شعرها باستحسان بينما نظر لها جاسم بعدم رضا ثم نهض قائلا ً بصوت متهكم وهو يغادر الغرفة :
" ظلي وراءه حتى يهلكك "
نظرت رغدة لخطواته الراحلة بذهول وظنت أنه سيغادر المستشفى وهي بهذه الحالة لكن عبد الحميد ربت على رأسها من جديد قائلًا بفطنة :
" لا تقلقي ، أخاك ِ الجلف لن يترك جوارك حتى تنهضي وتكونين بألف خير .. فلنتركه حتى يهدئ خوفه عليكِ وبعدها سأتحدث معه بالعقل "
دمعت عينا رغدة في الوقت الذي دلف فيه صخر إلى الغرفة من جديد بعد خروج جاسم منها فاقترب وجلس على الطرف الآخر من الفراش يمسد على ساقها ببطء وشرود فسأله عبدالحميد :
" هل امسكتم بالفاعل ؟!! "
هز صخر رأسه نفيًا فربت عبد الحميد على كتفه بدعم ثم قال بصوت قوي :
" لا تقلق ، سنجلبه ولو من تحت الأرض "
ثم نظر إلى رغدة المستكينة بضعف واستطرد :
" فتلك المسألة أصبحت تخصنا معك "
نهض صخر قائلًا بكبرياء و احترام :
" عفوًا منك ولكن حق زوجتي وعائلتي بالكامل انا من سيجلبه وإلا لا أكون رجلًا "
دقق عبد الحميد في ملامحه المرهقة مقدرًا ما يمر به ثم غمغم :
" لا تقلق يا ولدي .. نحن جميعًا معك وورائك "
هز صخر رأسه شاكرًا دون أن يتفوه بحرف فتركهم عبد الحميد و امين وخرجوا من الغرفة ليجلس صخر جوارها مرة أخرى محدقًا في الأرض بشرود وهامة ثقيلة فيما يغمغم بكبرياء جريح :
" أخاك ِ محق ، انا لم استطع حمايتك .. وكل مرة تتعرضين فيها للأذى اكون انا السبب "
أمسكت رغدة بكفه المجاور لها ثم همست بدعم :
" وكل مرة تحاول حمايتي قدر امكانك ، ولولا عودتي انا للداخل لم أكن لأتعرض لكل هذا و لم يكن ليسقط الباب على ظهرك بدلًا مني "
نظر لها صخر مستغربًا فهزت رأسها وهي تغمغم بعينين دامعتين :
" لقد سمعتك في سيارة الإسعاف وانت تخبرهم عن سبب إصابتك "
ابعد صخر غرتها عن وجهها ثم سألها بصوت مكتوم :
" ما الذي جعلك تعودين للداخل ؟!! "
ذرفت دمعة واحدة ثم دمدمت باعتراف :
" هريرتي .. هديتك "
كاد صخر أن يتحدث لكنها قاطعته هامسة بصوت حزين :
" لقد كنت أحضر حقيبتي واستعد للعودة إلى بيت عائلتي قبل الحريق "
نظر لها صخر مذهولًا بينما استطردت بعينين غائمتين بالألم :
" شعرت للحظة أن الحياة بيننا مستحيلة ، فلا انا افهمك ولا أنت تفهمني وبعدها تفاجئت بمن يقذف الشرفة بمولوتوف لتشب النيران بعدها في الستائر فركضت بلا انتباه ونسيت اخذها معي وبعدها رأيتني انت على الدرج واخرجتني ثم تذكرتها وأنت تجلب والدتك فظننت أنني إذا دخلـ.... "
شتم صخر بصوت خافت ثم قال :
" ظننتِ ؟! .. بحق الله فيما كنتِ تفكرين وأنت ِ تلقين بنفسك في النيران من أجل قطة ؟!! "
همست رغدة بعفوية ستصيبه بذبحة يوم ما :
" إنها روح يا صخر ، روح ضعيفة وصغيرة "
شدد صخر على كفها بين كفيه ثم قال بصوت قوي :
" وأنت ِ روحي يا غبية .. لقد كدت أفقدك اليوم ، ألا تعين هول الأمر ؟!! "
كادت رغدة أن تتحدث فقاطعها هو هذه المرة قائلًا بملامح مغلقة :
" بالله عليكِ أصمتي ولا تزيدي حرف ، انا من دون شيء أكاد أفقد عقلي ولا استوعب ما اتعرض إليه منذ بداية هذا اليوم اللعين "
مرت دقائق ثم دلف بِشر فنظر إليه صخر غير مستوعبًا وجوده ليسأله بعدها عن أمه وأخته فيجيبه بتشتت :
" لقد تركت بكر ابن عم رغدة يتابع أمر البيت ثم اوصلتهم لبيت عائلتي وجئت لأراك "
جمدت نظرة صخر ثم همهم وهو يوشك على الصراخ حنقًا :
" أوصلت سندس لبيت عائلتك ؟!! .. حيث تقبع زوجتك الثانية ؟!! "
اتسعت عينا بِشر باستيعاب شديد التأخر وكأن صاعقة الحريق قد انسته الصاعقة الأخرى التي ضربت حياته تمامًا بينما غمغمت رغدة بذهول تام :
" زوجته الـ........ماذا ؟!! "
********
" حسبي الله ونعم الوكيل .. من الذي يريد أن يؤذيكم ؟!! "
همهمت بها سميحة وهي تربت على ظهر اختها التي تبكي على منزلها بينما جلست سندس على أحد المقاعد بعينين جامدتين النظرات ورغم الكارثة التي يمرون بها لن تستطع إلا أن تبحث بعينيها عن زوجة زوجها .. !
ترى اين هي ؟!!
هل تقيم في غرفته القديمة ؟!!
وماذا ترتدي ؟!!
إنها أصغر عمرًا من فداء ومع ذلك تتفوق عليها بانحناءات جسدها فهل وجدت ما يناسبها عندها ام ارتدت أحد قمصانه هو ؟!!
رباه ستفقد عقلها حتمًا ..
ألمًا شديدًا ضرب ساقها وكأنه يتكاتف مع الظروف ضدها فتأوهت بخفوت شديد رافضة أن تبدي اي لمحة ضعف وكأنها تثبت للجميع أنها مازالت صامدة مرفوعة الهامة ثم نهضت بعد لحظات تعلن بصوت هادئ لغرض في نفسها :
" انا سأدلف إلى غرفة بِشر حتى ارتاح قليلًا "
اومأت لها سميحة دون تركيز وهي تواسي اختها المنكوبة بينما اتبعتها فداء التي شعرت بما يدور بعقل سندس فهمهمت بصوت خافت :
" إنها تقيم في غرفة علي "
نظرت سندس إلى الباب الذي يفصل غرفة بِشر عن غرفة علي بعينين متسائلتين ..
هل تجلس ضرتها خلف ذلك الباب ؟!!
هل هذا الباب هو ما يفصل بينهن وهو ما سيكون الفاصل بينها وبين بِشر إذا قرر البقاء هنا لليلة ما ؟!!
التفتت سندس الى فداء ثم سألتها بنظرات مهتزة وكبرياء جريح :
" كيف تبدو ؟!! "
اخفضت فداء عينيها ثم قالت باختصار شديد :
" تبدو كشخص آخر لا يسرك رؤيته أو التعرف عليه "
لتتركها بعد ذلك وتعود حيث تجلس أمها وخالتها فظلت سندس موضعها تحدق في الباب الفاصل بينهن للحظات وكأنه بوابة فاصلة لجحيم مستعر ..
فضولها أو لنقل حرقتها جعلتها تغلق باب غرفتها ثم تقترب ببطء شديد بخطوات تكاد تكون غير مرئية وكأن عقلها يحذرها من مغبة الأمر ويرفض إرسال إشارات الحركة إلى ساقيها .. !
ابتلعت ريقها الجاف و أختنق حلقها وهي تلمس مقبض ثم أغمضت عينيها وفتحت الباب ببطء وهي تهيء نفسها لمشهد صعب حسب ما قيل لها لتتسع عيناها وهي ترى فضة تسجد وجسدها يهتز وكأنها تبكي بانهيار ومع ذلك لا يصدر عنها إلا صوت شديد الخفوت ..
ظلت فضة على حالها للحظات طويلة وسندس تراقبها من خلف الباب بقلب منقبض إلى أن نهضت فضة من سجدتها ببطء وهي تتأوه بخفوت وكأنها يعز عليها نفسها من أن يسمع أحدهم صوت انينها فكتمت سندس شهقتها بكفها وهي تحدق فيما تبقى من ملامح الأخرى .. !
رباه .. ما هذه البشاعة ؟!!
ما هذا العنف الذي تعرضت له ؟!!
وجهها شديد التورم شديد البشاعة بتلك الالوان التي تفرض نفسها كل جزء فيه ..
ازرق وأحمر وبنفسجي في كل شبر من وجهها !
يا الله ... من معدوم الرحمة والإنسانية الذي قد يفعل ذلك بإنسان أضعف منه ؟!!
" هل انتهى تأملك ؟!! "
الصوت المتحشرج انتزعها من تفحصها فأمسكت بإطار الباب بأصابع مهتزة ثم غمغمت بصوت خافت لا يشبه صوتها بعد أن احتله الذهول تمامًا فأصبح جزء لا يتجزأ منه :
" من فعل بك ِ ذلك ؟!! "
تحركت فضة تكتم توجعها بكل طاقتها ثم جلست ببطء على طرف الفراش فيما تقول بجفاف وهي تتجنب النظر إليها :
" اظن أنك ِ تعلمين كل شيء .. وإلا لم تكوني لتأتي بنفسك حتى تتأكدي مما سمعتيه "
غمغمت سندس وهي تبرر بسرعة وكأن الأمر انقلب عليها فأصبحت هي المطالبة بالتفسير :
" نحن هنا لأن بيتنا احترق "
استرعت الجملة انتباه طفيف لدى فضة فرفعت وجهها إلى سندس لتستطرد الأخيرة :
" بيت عائلتي احترق ورغدة أصيبت هي وصخر فجلبنا بِشر إلى هنا ثم سارع بالذهاب إليهما في المستشفى "
هزت فضة رأسها دون معنى وكأن مصيبتها جعلتها تفقد أي شعور بأي شيء حتى لو كان الأمر كارثة بالمعنى الحرفي بينما لم تستطع سندس التوقف عن تفحصها ليسترعي انتباهها منظر حجاب فضة الذي يلتصق برأسها بعد أن كانت معتادة على رؤيته منتفخًا بعض الشيء إثر شعرها الذي كانت تلفه أكثر من لفة أسفل حجابها فيعطي مظهرًا مخالف لما تراه الان !
لاحظت فضة نظراتها فدمدمت بتهكم :
" ماذا ؟!! .. هل اسعدك فقدي لشعري ؟!! "
كانت نبرة صوتها المهتزة واضحة للغاية وكأنها على وشك البكاء من جديد فلم تتمالك سندس نفسها وسالت دموعها ثم اقتربت منها وجلست جوارها تعانقها وتبكي فسالت دموع فضة بدورها لكنها حاولت التمسك بآخر خيط من عزتها فقالت بصوت متحشرج .. ساخر :
" ماذا هذا الآن ؟!! .. هل تشفقين الآن على ضرتك ؟!! "
لفظ ضرتك ضرب قلب سندس في مقتل لكن لم يقلل من تعاطفها مع فضة ومع ذلك طبعها المكابر جعلها تشكو بصوت باكِ متجاهلة قول الأخرى تمامًا :
" بيتي احترق يا فضة "
نظرت فضة لرأس سندس التي تستند على كتفها وكفيها اللذان تشبكهما على الكتف الآخر ثم تنهدت و رد فعل سندس المغاير تمامًا لما توقعته يخبرها بكل وضوح أن فضة العامري التي كانت مصدر لكل فخر و عزة باتت الآن مصدر للشفقة لدرجة جعلت سندس نفسها تبكي على حالها فهمهمت بصوت ميت و دمعتها الأخيرة تنعي المرأة التي كانت وتعلن عن ولادة الأخرى التي ستكون ..
" أنت ِ بيتك احترق وأنا روحي احترقت "
******
" ابي استيقظ .. ابي "
زفرت لقاء بضيق وهي تحاول إيقاظ والدها من جديد دون نتيجة .. فالعلاج الذي يأخذه قبل النوم يجعل نومه ثقيلًا للغاية وهي يجب أن تذهب إلى خالتها وأبنائها في الحال .
حاولت معه من جديد دون نتيجة تذكر فنظرت له نظرة أخيرة ثم اتخذت قرارها و اخذت مفتاح السيارة لتغادر البيت بمفردها بهدوء شديد .
نزلت وركبت سيارتها لتنطلق بها غافلة عن الذي ابتسم بظفر بعد أن ظهرت أخيرًا بمفردها ليلًا بعيدًا عن ذلك الضابط الذي يتبعها في كل مكان وعن أبيها الذي لا يترك جوارها معظم الوقت ..
نظرت لقاء إلى هاتفها الذي يضيء بإسمه كل دقيقتين وهي تتساءل هل عليها أن ترد عليه لتخبره بخروجها كما طلب منها مرارًا ؟!!
فهو أخبرها عدة مرات أن لا تخرج دون أن تخبره لأنه لم يصدر أمر رسمي بحمايتها ولكن هو يتكفل بالأمر بنفسه لأن وحسب ظنه هؤلاء الذين قتلوا زوجها سيحاولون التواصل معها حتى يتأكدون بأنفسهم أنها لا تحمل نسخًا إضافية من الأوراق التي تدينهم كما سيحاولون ارهابها حتى لا تشهد ضدهم في النيابة بعد يومين من الآن !
أمسكت بهاتفها تنوي الرد على مكالمته لكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة بعد أن تذكرت رؤيتها لوالدته وما حدث صباح اليوم بعد أن تفاجئت بها وقد أتت لتأخذ حفيدتها من المدرسة ..
أينعم بدت لعينيها اكبر عمرًا وأكثر مرضًا لكن كل ذلك لم يمنعها من التهكم حين دمدمت باستنتاج و بصوت مسموع لها :
" لهذا أصبح إيصاله لابنته أهم أولوياته "
أغمضت لقاء عينيها بغضب دفين وهي تتذكر كيف حاولت تجنبها تمامًا لكن نجيبة لحقت بها عند سيارتها وسألتها بشكل مباشر :
" هل عدتما لبعضكما ؟!! "
لتنظر لها لقاء بطرف عينيها ثم تجيبها ببرود لا تدعيه :
" هذا الأمر لن يحدث قط "
نظرت نجيبة لحيث بدأ يخرج الاطفال ثم غمغمت بسخرية جافة :
" لا تكوني واثقة كل هذا القدر .. لقد أعلن عليّ الحرب لأجلك هذه المرة وكاد أن يتركنـ...... "
قاطعتها لقاء تضغط على كل حرف وهي تدمدم من بين أسنانها :
" انا لا تهمني مشاكلك أنتِ وابنك ،ومن فضلك ابتعدي قليلًا عن سيارتي حتى أغادر "
وقفت نجيبة تنظر إليها للحظات بوجه متجهم ليظهر بعدها صوت لامار التي أتت تهرول تجاههن وهي تسأل جدتها ببراءة بعد أن رأتها تقف مع لقاء مثلما يفعل والدها كل يوم :
" هل الاستاذة لقاء قريبتنا يا جدتي ؟!! "
نظرت لها نجيبة ثم اجابتها بغموض وهي تلقي نظرة على سيارة ابنها الذي يصفها في أحد جوانب الطريق :
" من يعلم ؟!! .. لم يعد في العمر بقية "
" ماذا تقصدين ؟!! "
تابعت نجيبة اقتراب ابنها منهم بوجه انقلب فور رؤيتها لتحيد بعينيها عنه وتنظر إلى حفيدتها التي ترفع لها وجهها بانتظار الإجابة على سؤالها وتتمتم من جديد :
" ربما ستصبح قريبتك في القريب العاجل "
وفي اللحظة التي كان يقف فيها معتصم أمامها كانت لقاء تغادر المكان كله لتتركهم ورائها وآخر ما وصل لسمعها سؤاله المتحفز عن سبب خروج أمه من بيتها .
لم تدري لقاء أنها كانت تضغط على دواسة البنزين بغيظ شديد مما جعل السيارة تكاد تطير بها فجعلها تختفي عن عين من يراقبها الذي شتم بغيظ شديد خاصة بعد أن عرقلته عدة سيارات فتاهت منه أكثر ليصف سيارته أخيرًا حيث لمح سيارتها في شارع جانبي جوار مبنى مستشفى ثم ينزل وبكل جرأة يقرر البحث عنها داخل المستشفى ليجد طريقة للانفراد بها بعيدًا عن الأعين .. !
وقف في بداية رواق يضع كفيه في جيب معطفه الأسود يراقبها وهي تقف بصحبة رجل شعره طويل بعض الشيء وتبدو هيئته وكأنه خرج للتو من مكان محترق ..
رجل يبدو متعجلًا للغاية حتى يغادر المكان لدرجة أنه كان يركض دون انتباه فيصطدم به ثم يلتفت له ليعتذر فينظر له الآخر نظرة زرقاء مخيفة مثله جعلت بِشر يضطرب للحظة ثم يكمل ركضه حتى يلحق بسندس التي بعثها بكل غباء إلى فضة وهو يدعو الله أن لا تكون قد اقترفت حماقة في حق فضة التي لا يعلم بحالها إلا الله .
  ****
ألقى الغريب نظرة خارجية سريعة على ما يدور في غرفة رغدة التي كانت مفتوحة في تلك اللحظة ويقف أمامها ثلاثة رجال آخرون وقد استنتج ما يدور رغم عدم إدراكه لكل الكلمات العربية بعد ليلتفت بعدها ويغادر المبنى مقررًا البقاء في الأسفل في انتظار طريدته التي سهلت عليه مهمته بخروجها بمفردها في ذلك الوقت المتأخر .
ظل واقفًا لدقائق طويلة منتظرًا خروجها تلمع بعينيه نظرة رضا وهو يرى خلو المكان تمامًا من الناس ليجدها تغادر المبنى فيتبعها بخفة شديدة إلى أن دخلت الشارع الذي صفت فيه سيارتها ثم شعرت ببعض القلق ونظرت حولها باضطراب حين استشعرت خطوات شديدة الخفة تسير خلفها ..
شتمت لقاء نفسها على عنادها الذي جعلها لا تجيب مكالمات معتصم وقلبها يقرع في قلبها بعنف خاصةً حين أسرع صاحب الخطوات لتشهق برعب حين وجدته يقف أمامها يرفع سكينًا صغيرًا ويضعه على خصرها بشكل غير مرئي فنظرت له بهلع تضاعف مع تلك النظرة المرعبة التي رأتها في عيونه الزرقاء وهو يعرفها بنفسه بلكنة غريبة وابتسامة هادئة وكأنه مختل :
" مرحبًا انا آل "

عدو في المرآة  .. الجزء الثاني من سلسلة قلوب تحت المجهر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن