الفصل الحادي عشر

349 24 1
                                    


( و ما بيننا إلا عشق ممزوج برائحة فراق ! )

*******

" ماذا ؟!! .. ماذا فعلتِ ؟!! "
رفعت إيمان حاجبها باستهجان من أسلوبه المُرهب ثم كررت حديثها من جديد :
" كما سمعت .. لقد طلبت الفتاة من جدها "
نظر صخر إلى سندس فهزت رأسها تؤكد على فعلة أمها بحذر وهي تعض على شفتيها فعاد بنظره إلى أمه التي تقف أمامه بثبات غريب و همس بعدم تصديق :
" أخبريني أنكِ تمزحين .. بالله عليكِ أخبريني أنها إحدى مقالبك و أنكِ  لم تفعلي هذا "
ظلت إيمان على ثباتها و ملامحها ترتدي وجه الصرامة بامتياز فيما ترد على ابنها :
" وهل ترى أي أثر للمزاح على وجهي ؟!! "
لف صخر حول نفسه غير مصدقاً ما فعلته أمه ليهدر دون سابق إنذار :
" كيف تفعلين ذلك ؟!! .. ألم أخبرك مرارًا أنني لن اتزوجها ؟!! .. كيف تتخطيني يا امي وتورطيني في مشروع زواج لا أريده ؟!! "
لحظة واحدة وهتفت به إيمان بغضب قلما يظهر للعلن :
" اخفض صوتك وأنت تتحدث معي .. هل جننت ؟!! "
وكأنها لم تقل شيء إذ أكمل صخر هتافه بعصبية لا تنتهي :
" هل كنا نمزح هنا ؟!! .. ألم أخبرك أنني لا أريد الزواج من تلك الفتاة الساذجة التي لا تفقه شيئًا في أي شيء ؟!! .. كيف تفعلين بي ذلك يا أمي ؟! .. كيف تورطينني مع عائلتها بهذا الشكل ؟!! "
نظرت له إيمان باستهجان ثم تركته قائلة ببساطة وهي تعود إلى غرفتها تاركة إياه يغلي من الغضب :
" أنا لن اتناقش معك إلى أن تتعلم كيف تتحدث مع أمك أولا ً "
طالع صخر رحيلها بفاه مفتوح يكاد يصرخ غضبًا لكن سندس تدخلت وأمسكت بذراعه تسحبه ناحية الأريكة فيما تتمتم بحذر :
" هون على نفسك يا صخر .. الأمور لا تُحل هكذا "
نظر لها صخر بعدم تصديق لبرودها من وجهة نظره ثم رد عليها قائلاً بهسيس مخيف لأي شخص عداها :
" أهون على نفسي ؟! .. أمكِ جعلت مني غر لا قيمة لرأيه في موضوع زواجه منذ قليل وأنتِ  تقولين ...... "
قاطعته سندس بعقلانية لا تناسب الوضع بأي شكل من الأشكال :
" ما حدث قد حدث ونحن لن نقضي بقية اليوم في شجار لا معنى له .. كما أن جد رغدة لم يعطي أي رد واضح لأمي ، لقد قال بالحرف سأسألها وما به الخير يفعله الله .. أي أن الأمر متوقف على قبول رغدة من عدمه وبصراحة أنا لا أظنها ستوافق "
نظر لها صخر بمقلتين مقلوبتين محاولاً تمالك أعصابه قدر الإمكان فلا يكسر البيت على رؤوس أصحابه وقال من بين أسنانه :
" وإن وافقت ماذا سأفعل وقتها ؟!! .. لقد أصبحت شريك عائلتها في العمل وأي حركة خاطئة ستدمر كل شيء قبل بناؤه "
تنهدت سندس ثم ربتت على ذراعه قائلة بمهادنة :
" دعنا لا نسبق الاحداث .. الآن فقط أدخل إلى أمي وراضيها بكلمتين و تناقشا بهدوء وبإذن الله كل شيء سيُحل بمفرده "
حرك صخر رأسه وزفر غير راضياً عن كل ما يحدث ثم تحرك متثاقلاً إلى غرفة أمه حتى يجدا حلاً للكارثة التي تسببت بها ..
طرق الباب و دخل فوجدها غيرت ثيابها وجلست فوق فراشها توليه ظهرها فاقترب منها قائلاً  بضيق شديد إنما بصوت خفيض :
" لم يكن عليكِ فعل ذلك يا أمي .. لقد وضعتنني في أزمة ولا أعرف كيف سأتخلص منها "
التف حولها فأصبح أمامها حين لم ترد عليه ثم مال يقبل رأسها فأشاحت بوجهها عنه بغضب ..
زفر صخر ثم جلس أمامها قائلاً بصوت مكتوم :
" لما فعلتِ ذلك يا أمي ؟! .. ألم أخبركِ برفضي ؟!! .. ألم أخبركِ أنني لا أريدها ؟!! " 
أخيرًا نظرت إليه أمه ثم قالت دون تسامح :
" الأمر أكبر مما تظن يا حضرة المحترم يا من ترفع صوتك على أمك وتصرخ بها كما لو أنها من عمرك "
نكس صخر رأسه قليلاً وعقله لا يزال غير مستوعبًا  الأمر بينما استطردت إيمان مدركة أنها تضغط عليه :
" الفتاة لم تكن تعرف ما يُقال عنكما وحين عرفت صُعقت وقالت العديد من الأشياء أصعبها أن أخيها يصدق الشائعات التي تدور حولكما .. أنت لم ترى ضعفها يا صخر ، لم تسمع نحيبها ولم تشعر برجفتها .. تلك العائلة تؤذي الفتاة بشكل أو بآخر "
رفع صخر رأسه قائلا ً بضيق لا ينتهي :
" وما دخلي أنا بكل هذا ؟!! ..  يا أمي افهميني بالله عليكِ .. أنا حين أرغب بالزواج سأتزوج بامرأة رزينة وعاقلة ، امرأة قوية تستطيع حمل المسؤولية معي وفي غيابي .. ورغدة ...رغدة لا تتوفر فيها هذه الصفات بالمرة "
نظرت له إيمان باستهجان ثم قارعته بسؤالها :
" وناردين هانم كانت تحمل هذه الصفات وأنا لا أعرف ؟!! "
صمت صخر قليلاً لا يعرف كيف يصيغ الأمر ثم قال باختصار :
" ناردين يا أمي كان ارتباطي بها لمصالح مشتركة لا أكثر .. هي كانت تستغلني بشكل ما وأنا أيضا كنت أستغل ارتباطي بها "
رغم عدم اقتناعها بما ستقوله همهمت إيمان :
" ولما لا تضع رغدة تحت نفس القاعدة ؟! .. فكر في أنك ستتقرب أكثر من شركائك بارتباطك بها "
تهجم وجه صخر ثم نهض قائلا ً بتحفز :
" لا طبعًا  .. رغدة ليست مثل ناردين ولا تستحق أبدًا  أن أستغلها ، رغدة بريئة للغاية يا أمي .. تشبه الأطفال شكلاً ومضمونًا .. ثم كيف تطلبين مني أن أضعها تحت نفس القاعدة ؟!! .. ثم هل بنات الناس لعبة ؟؟ "
رفعت إيمان حاجبيها باستخفاف ثم قالت :
" وناردين ألم تكن ابنة ناس و ...... ؟!! "
قاطعها صخر هاتفًا بضيق :
" قلت لكِ يا أمي رغدة مختلفة ، رغدة تستحق الأفضل "
" وأنت الافضل لها صدقني "
ضرب صخر كفًا بكف ثم قال ببوادر عصبية :
" أفضل لها من أي اتجاه ؟!! .. أنا اقول لكِ أنني لا أريدها يا امي ألا تسمعينني ؟!! ... كيف سأكون الأفضل لها وأنا أرفضها وأرفض شخصها .. إنها ضعيفة ، مترددة ، سلبية وساذجة .. لا تصلح لي بأي شكل "
زفرت إيمان بقنوط ثم قالت بصوت متخاذل بزيف :
" لقد طلبتها من جدها وانتهى الأمر .. إن رفضوا سينتهي الأمر ببساطة وإن قبلوا ...... "
نظر لها صخر باستفزاز وسألها :
" أكملي ..  وإن قبلوا ؟!! "
بلعت إيمان ريقها ثم فكرت قليلاً وقالت بقلة حيلة :
" ستجرب حظك معها وإذا لم يحدث توافق بينكما انفصلا بتحضر "
رفع صخر حاجبيه بعدم تصديق لمنطقها ثم سألها بغيظ :
" والله ؟!! .. تحضر ؟!! .. وعملي .. شراكتي مع أهلها ؟؟! "
رمشت إيمان وكأنها شعرت أخيرًا بتسرعها لكنها كابرت وقالت :
" لا أحد يُدخل العمل في العلاقات الشخصية "
جز صخر على أسنانه ثم رد عليها بضيق واضح :
" هذا رأيك أنتِ .. بحق الله يا امي أنا حتى هذه اللحظة لم أتوازن جيدًا  من بعد ما حدث وما لا يزال يحدث وورائي كوارث لا تعد ولا تحصى .. هل تنقصني رغدة أيضًا ؟!! " 
تأففت إيمان وقالت بندم زائف :
" لقد تصرفت بما أملاه عليّ عقلي وقتها ، لم أفكر إلا في حالة الفتاة "
تنهد صخر هامسًا  لنفسه بصوت مسموع :
" ماذا أفعل الآن ؟!! .. كيف أحل هذه المشكلة ؟!! "
نظرت له إيمان بشفقة ثم نهضت من فوق فراشها واقتربت منه تربت على كتفه بمحبة فيما تقول :
" أنصت لي  جيدًا يا بني .. حسنا أعترف أنك أخبرتني برفضك وأنني ورطتك معهم رغم ذلك ، لكن صدقني لا حل أمامك الآن إلا إكمال الأمر "
أوشك صخر على الهتاف من جديد لكن إيمان قاطعته مستطردة :
" جرّب .. جرّب علك ترتاح معها ، وإن لم ترتاح انفصلا بهدوء فأنت لست أول ولا آخر رجل يفعلها "
زفر صخر بقنوط يود لو يصرخ كمدًا مما تفعله به أمه لكن ما العمل ؟!!
كيف يتخلص من تلك البلوة دون خسارة الشراكة مع عائلة الغانم ؟!!
لا ينكر أن رغدة فتاة جيدة  أخلاقها لا شائبة عليها لكن .....
كيف يصوغ الأمر ؟!!
رغدة ستكون عبارة عن هَم آخر سيضاف إلى كاهله ..
هم هو ليس بحاجته أبدًا  ..
بخراقتها وسذاجتها وجبنها وتصرفاتها الغير محسوبة ستكون عبئًا زائدًا عليه ..
ضحكة هازئة فلتت منه ..
وهو الذي كان قادمًا  لإخبارهم بما اتفق عليه مع بِشر .. !
وهو الذي كان يهيئ نفسه إلى إجبار سندس على الموافقة لو تطلّب الأمر ليجد نفسه هو المُجبر على ابنة الغانم ..! 
تبًا لقد تنهد براحة كبيرة ظنًا منه أنه اطمئن أخيرًا من ناحية سندس وسيبعدها عن مشاكله فتأتيه الأصعب منها .. !
" ماذا ستفعل ؟!! "
حدق في أمه بصمت عاجز بعد سؤالها الحذر لدقائق طويلة مدركًا أنه تورط وانتهى الأمر فشد خطواته بغضب مكبوت هامسًا  بقلة حيلة نادرة على طبعه المثابر :
" لا أعلم .. سامحكِ الله يا أمي على تلك الورطة .. سامحكِ الله "
راقبت إيمان خطواته المهمومة بحاجب مرتفع ثم همست بنزق عقب رحيله :
" غبي لا يفهم مصلحته ، غدًا ستشكرني ليلاً و نهارًا   على تلك الورطة التي لا تعجبك "
**********************
" السيدة لقاء عادت لوعيها "
نهض كلا من مأمون وبِشر ليتحرك مأمون بخطوات سريعة لكنها واهنة تجاه العناية المركزة لا يريد أن يرى شيئًا  إلا وجه وحيدته مدللته لتوقفه الممرضة قائلة بنبرة عملية :
" ليس الآن يا حاج .. ستراها فور أن يعاينها الطبيب "
توسلها مأمون بالقول :
" لن أسبب أي زحام .. سأراها من بعيد فقط "
أشفقت الممرضة على حاله وقالت بنبرة أكثر لينًا  :
" صدقني يا حاج والله ممنوع الزيارة الآن ، ما أن يسمح الطبيب سأدخلك فورًا "
تدخل بِشر وربت على كتف مأمون قائلا ً بدعم :
" فلننتظر قليلاً يا عمي .. على كل حال الطبيب معها بالداخل وسيطمئننا في أقرب وقت "
لكن قلب مأمون كان يرتجف ترقباً فرفض الجلوس وظل واقفًا أمام الباب منتظرًا اللحظة التي سيسمحون له فيها برؤية ابنته .. !
وبعد دقائق طالت خرج الطبيب ووجه بعض التعليمات لمن يصاحبونه ثم التفت إلى مأمون متمتمًا ببشاشة :
" الحمد لله على سلامة ابنتك يا سيد مأمون .. مؤشراتها الحيوية بأفضل حال ودرجة وعيها بما حولها ممتازة "
تنهد بِشر براحة حامدًا ربه بينما قال مأمون بنبرة متحشرجة :
" أريد أن أراها .. اتركوني أراها لبعض الوقت "
أومأ الطبيب للممرضة فأدخلته بينما سأل بِشر الطبيب بصوت منخفض :
" ما وضع حالتها الآن ؟!! "
وقع الطبيب على بعض التقارير في يده ثم أولى بِشر انتباهه قائلاً  :
" لقد نزفت السيدة لقاء الكثير من الدماء كما أن منطقة الرحم قد تعرضت لضربة شديدة نتيجة الاصطدام مما ضاعف من حدة النزيف "
ضيق بِشر عيناه محاولاً فهم ما يقوله الطبيب ليسأله بعدها :
" هل سيؤثر ذلك على قدرتها على الإنجاب فيما بعد ؟!! "
هز الطبيب كتفيه قائلاً  ببساطة وعملية :
" سيكون عليها أن تنتظر لعامين أو أكثر قبل أن تفكر بالإنجاب .. فكما أخبرناكم سابقًا  الرحم تضرر بشكل كبير "
أومأ بِشر بتفهم ثم شكر الطبيب وتبع العم مأمون ليجده منكباً على كف ابنته يقبله بلا توقف ودموع عيناه تفضح معاناته جليًا فتمتم بصوت خافت ورؤيتها تعيد له بعض الاتزان :
" وأخيرًا .. الحمد لله على سلامتك يا لقاء ، لقد ارتعبنا عليكِ كثيرًا "
ابتسمت له لقاء بوهن شديد ثم ولت انتباهها لأبيها الذي لا تكف دموعه عن الهطول فمدت يدها ببطء و مسحت وجهه و ربتت على لحيته فيما تهز رأسها وكأنها تطمئنه على حالها ..
رن هاتف بِشر فتركهما على راحتهما وخرج ممسكاً بهاتفه يحدق في صورتها التي تضيء شاشته مثلما تضيء هي ظلمة حياته ..
رفع بِشر هاتفه يتأمل صورتها أكثر دون أن يضغط زر استقبال المكالمة بل ضغط على زر إلغاء المكالمة ..
لقد مات شوقًا لها لكنه لن يجيب .. !
فهو أدرى الناس بحرير جنته التي تتصل الآن بدافع الشفقة !
قاسيته التي لن يذل نفسه إليها أبدًا من جديد ..
حبيبته التي لن يجيب نداءها إلا عندما تعود لما كانت عليه ..
ناعمة كاسمها ، دافئة شغوفة ..
لا تلك النسخة التي تحولت إليها بعد الحادث ..
تلك النسخة المشوهة التي كان هو السبب في ميلادها !
والتي سيكون أيضًا  السبب وراء موتها وعودة حرير جنته إليه من جديد .. !
سرح بِشر إلى حفل عيد ميلادها الثامن عشر ..
لم تكن وقتها كأي فتاة خجولة خرجت للتو من عباءة المراهقة !
بل كانت فراشة ..
فراشة تنثر حلاها في كل مكان ..
جميلة كانت ولا تزال ..
سحرها يطغي على كل ما حوله فيرديه صريعًا مع كل لفتة منها ..
ورغم ذلك لم يتطلع إليها يومًا بنظرة محرمة ..
رغم عبثه ومجونه وسُمعته مع الفتيات التي كان يتحاكى بها الجميع !
بقيت سندس سره المخبئ خلف ألف الف باب ..!
فهو المنبوذ الذي تُشفق عليه خالته وهي أميرة كل النجمات ..
لكن طبعها المتمرد جعلها تكتفي من صمته وتأخذ هي الخطوة الأولى
ابتسم بِشر حين تذكر وقفتها المتخصرة ليلة عيد ميلادها وهي تتطلع إليه بحنق لذيذ جعله ينهي مكالمته مع فتاة كان يتسكع معها آنذاك غير مباليًا  بأي شيء عداها ..
ليلتفت بعد ذلك إليها محاولاً غض بصره عن ثوبها بلونه الذهبي الشاحب الذي جعلها فتنة متنقلة أمام عينيه ثم تمتم مقرًا بابتسامة لا تظهر إلا في حضرتها :
" حرير الجنة غاضبة من شيء ما "
زمت سندس شفتيها دون أن ترد عليه فاقترب بِشر بحذر تاركًا مسافة بينهما تبقيه آمنًا من سحرها ثم قال مستطردًا :
" لا تقولي أنكِ غاضبةً مني "
مجددًا لم ترد لكنها نظرت إليه بعينين مشتعلتين توقدا النيران في جنبات قلبه لتهدر بصوت خافت في النهاية من بين أسنانها :
" على الأقل اترك فتياتك الليلة جانبًا وأعطنا بعضًا من وقتك "
كان يدرك أنها بدأت بشن حربها عليه !
فهو لم يكن مغيبًا أبدًا عن تلك الإشارات التي كانت ترسلها له كلما اجتمعا ..
وجنتيها المتوردتين ..
نظراتها المختلسة ..
ابتسامتها و لهفتها التي تعادل لهفته إليها ..
لقد تأثرت به سندس ووضعته هدفًا في رأسها !
وويل له و لقلبه إن لم يستجيب .. !
لذا وبحركة خاطفة أغلق بِشر هاتفه تمامًا أمام عينيها ثم قال ضاحكًا بلا جدال ولا تردد وكأنه يأخذ حديثها بمحمل المزاح :
" حرير الجنة تأمر ونحن ننفذ .. إلى الجحيم كل فتياتي الليلة "
ابتسمت له أخيرًا فأضاءت عالمه المظلم للحظات قبل أن تكشر في وجهه من جديد وتقترب منه دون حذر سائلة بضيق : 
" أين هديتي ؟!! .. لقد قدم الجميع هديته إلا أنت ؟!! "
ضرب بِشر جبهته قائلاً  بزيف :
" رباه لقد نسيتها تمامًا "
حسنًا هو كاذب ولم ينسى هديتها بالطبع ..
لكنه بعد شرائها شعر أنها حميمية أكثر من اللازم أو بالأحرى ستفضح مشاعره تجاهها بشكل مخزي !
لذلك لم يقدمها حتى الآن وعلى الأغلب لن يقدمها أبدًا و ستـ....
" هل نسيت عيد ميلادي يا بِشر ؟! "
سؤالها الحزين أخرجه عنوة من أفكاره لينتبه إلى عينيها التي تلمع بصدمة قد تزلزل عالمها الوردي فأجابها دون حذر :
" انا أنسى العالم كله ولا أنسى شيئًا  يخصك "
توهجت نظراتها فسب بِشر نفسه وعقله يحذره من الفخ الذي يُسحب إليه !
فخ جميل .. متألق ، يسحر القلب قبل العين
فخ السقوط به هو جل ما يتمنى .. !
وجل ما يخاف .. !
تنحنح بِشر و عاد خطوة إلى الوراء مسدلاً الستار على مشاعره من جديد بينما مدت سندس كفها فيما تهمهم بشقاوة و ابتسامة عريضة :
" إذًا  أعطيني هديتي .. هيا "
هل ستركض رعبًا منه إن أمسك بتلك الكف الصغيرة التي تغريه لإغراقها بالقبل وجذبها إليه يذيقها بعضًا من أشواقه ؟!!
هرش محاولاً السيطرة على أفكاره المنحرفة تجاهها ثم قال بمجادلة :
" سأعطيكِ  إياها غدًا "
قطبت ولم تعطيه فرصة الهرب ثم قالت :
" لا .. الآن و إلا سـ........ "
قاطعها محاولاً إنهاء المحادثة قاطعًا عليها الطريق عن ما تحاول فعله بكل تهور دون أن تدري ما الذي تقحم نفسها به :
" غدًا ستصلكِ أجمل هدية .. وعد "
تنحى بعد ذلك عن الطريق قاصدًا المنزل فيوقفه ندائها بنبرة مترددة فالتفت ورأى عيناها تنظر إلى كل شيء عداه بينما تفرك كفيها ببعضهما وكأنها طفلة قررت خوض ألعاب الكبار لأول مرة ..!
يا الله .. لقد اتخذت قرارها !
لكن توترها لم يدم سوى لثواني معدودة قبل أن تعود إليها ثقتها بنفسها فتضم قبضتيها وكأنها اتخذت قرارها بالفعل ..!
وكأنها اختارت أن تورط نفسها قبل أن تجبن وتتراجع فتسأله دون سابق إنذار :
" من الأجمل .. أنا أم صاحبتك الجديدة ؟!! "
لم ينتبه بِشر في البداية إلى ما تحاول الوصول إليه بسؤالها لكنه مع ذلك رد عليها بما يراه حقيقة :
" أنتِ  "
ظنها ستكتفي وتصمت لكنها سألته من جديد وكأنها تأبى إطلاق سراحه  قبل الوصول لمرادها :
" حسنًا .. إذا اضطررت يومًا إلى الاختيار بيني وبينها من ستختار ؟! "
قطب بِشر وتحركت تفاحة آدم في عنقه بتوتر شديد ثم اختار أن يتغابى فسألها :
" لا أفهم .. إلى أين تريدين الوصول بهذه الأسئلة ؟!! "
ابتلعت سندس ريقها بحركة متوترة ثم قالت بصوت واثق في ظاهره :
" أريد أن أعرف من ستختار ؟!! "
أجابها بصوت خافت وعينيه تعانق عينيها وكأنه يعلن استسلامه أمام غزوها فرد بما لم يكن بيده أو باختياره يومًا  :
" أنتِ  يا حرير الجنة .. دائمًا  وأبدًا  "
لتفاجئه هي في النهاية حين دمعت عيناها وهمست بصوت خافت :
" اذًا  .. قم باختياري "
اتسعت عينا بِشر وكأنه لم يكن يهيئ نفسه منذ لحظات لما تنوي عليه وتراجع خطوة مصدومة إلى الوراء بينما استطردت هي بانفعال عاطفي :
" اختارني أنا .. أنا أريد أن أكون معك "
ارتج قلبه بين أضلعه يود لو يحطمها ويخرج فيعانق مليكته ويلتصق بها ..
وعيناه التهمت ملامحها بل و كل ما بها وكأنها باعترافها قد أعطته الضوء الأخضر و جعلت النظر إليها حلال ..
أما لسانه فيكاد يُسمعها كل عبارات الغزل والشوق التي تستحقها لكنه وبمقاومة تكاد تُذكر يتحكم في كل خلية منه تستحلفه على التسليم لتطلق هي الرصاصة الأخيرة ( رصاصة الرحمة ) حين همست بصوت خافت :
" اختارني يا بِشر .. فأنا أحبك "
وقتها لم يعد لمقاومته معنى ..
لم يعد لمخاوفه وجود ..
لم يعد لعالمه أثر ..
كل شيء حوله اضمحل وتحول الى سراب ..
إلا هي ..
فاقترب واقترب حتى لم يعد يبقى بينهما إلا انشات بسيطة ثم مال إليها معترفًا وكأنه أخضعته للتنويم المغناطيسي فقال بصوتٍ خافتٍ مرتجف :
" أتعلمين ! .. لقد حاولت مرارًا إخفاء مشاعري لكن الهوى فاضح ، لم أعد اجيد السيطرة على قلبي الذي بات يمارس قانون الجذب فيضعك أمام عيني كلما التفتت "
رفعت سندس عينيها الدامعتين عن الأرض وتمعنت فيه بذهول فهمس بِشر بخفوت وكأنه يعزف على أوتار قلبها لحن سري لا يسمعه سواهما  :
" أحبكِ يا حرير جنتي "
شهقت سندس وضحكت بفرحة ممتزجة بذهول ودموعها تتمرد وتتدفق على وجنتيها الجميلتين بينما لمعت عيناها كألف نجم ..
فضحك بِشر لعينيها الجميلتين ثم أمسك برأسها وغرس نظراته في عمق عينيها هامسًا  من جديد :
" أحبك ولم و لن أحب غيرك أبدًا  "
نداء صخر الغاضب من وقفتهما انتزعهما من عالمهما فنظرت إليه سندس هامسة بقلق :
" ماذا سنفعل الآن ؟!! "
وقتها أمسك بِشر بكفها يتخلل أصابعها بأصابعه ثم قال بصوت مشاكس مبتهج وهو ينظر إلى صخر الذي وقف يحدق فيهما بانزعاج شديد :
" نحن قوم إذا أحببنا تزوجنا ، فإن لم يكن بالرضا فنحن أهلاً  للسلاح "
أجفل بِشر وعاد إلى حاضره على صوت أحد العاملين بالمستشفى فجلس على أحد المقاعد يقلب في هاتفه بضجر ليشتم بخفوت حينما قرأ تلك الأخبار التي تتجدد ذاتيًا عن صخر وتلك الفتاة التي علقت معه بل وكل مرة يضيفون تفاصيل جديدة للقصة وكأن فضح الناس هواية لديهم !
أغلق هاتفه واعتدل في جلسته لتقع عيناه على القادم من بداية الممر فانغلقت ملامحه من جديد ودب القلق في قلبه !
فهذا الرجل آخر من تود لقاء رؤيته بعد تلك الأحداث التي مرت بها .
********************
رمت سندس هاتفها بغضب على الفراش ثم التفتت تحدق في صورتها في المرآة لعدة لحظات ..
ما الذي تفعله ؟؟!
ما الذي تغير بها ؟!!
هل باتت تحاول التقرب منه ؟!!
هل ستسترضيه ؟!!
زفرت سندس بحنق شديد والحرب تندلع بداخلها مرة أخرى ..
تكرهه وتحبه ..
تبعده وتتوسل بقاءه ..
تؤلمه وتتألم لوجعه ..
استندت على طاولة الزينة بكفيها تحدق أرضًا بشرود ..
وعقلها يزأر ويلعن ضعفها المخزي تجاهه !
أليس هذا من خان عهدكِ ؟!!
أليس هذا من تسبب في بتر ساقكِ ؟!!
فيرد القلب وكأنه نزال وهي ضحيته الوحيدة ..
كاد أن يخُن لكنه لم يفعل .. لقد أقسم على ذلك ملايين المرات !
وصخر أخبركِ أيضًا ولكنكِ رفضتي مجرد الاستماع إلى التفاصيل ..
ذلة وهو من حذرك منها سابقًا .. !
أغمضت عيناها تستعيد ذكرى ما بعد اعترافهما ليلة عيد مولدها ..
بعد أن طلبها من صخر وأمها ووسط مباركة الجميع للأمر ..
حتى خالتها سميحة رغم ملامحها الهادئة الأقرب للبرود في كل ما يخص بِشر لمحت في عينيها فرحتها بارتباطهما .. !
ليأخذها بعد ذلك أمام نظرات أمها الضاحكة ونظرات صخر الساخطة ويجلس معها في حديقة منزلهم ثم يسألها دون سابق إنذار :
" أنتِ  تدركين ما أنتِ  مُقبلة عليه .. أليس كذلك ؟!! "
لمعت عيناها بالتساؤل ليكمل بِشر وعيناه تأكلها أكلاً  :
" أنا لم أكن يومًا ملاك .. ولن أتغير في ليلة وضحاها بالتأكيد "
كادت سندس أن تتحدث فقاطعها هو متمتماً بعقلانية تظهر وقت الحاجة :
" انتظري واسمعيني .. أنا أعلم جيدًا عيوبي ولذلك أضعها أمامكِ كلها حتى لا نرتبك فيما بعد "
قطبت سندس بضيق .. فهي كانت تنتظر الكثير من الكلمات الرومانسية المتبادلة التي تسمعه يلقيهم على مسامع الفتيات لتجد نفسها في النهاية تجلس وتسمع ذلك الكلام الممل .. !
" أنا عابث ، طائش ، أنسى كثيرًا ، غيور ومتملك خاصةً  حين يمسك الأمر ، فعلت الكثير من الكبائر ، أنفعل على أبسط الأمور و....... "
قاطعته سندس هاتفة بضجر :
" بالله عليك يا بِشر هل نحن نتعرف على بعضنا ؟!! .. أنا أعرف كل هذا ومع ذلك ...... "
قاطعها هو هذه المرة متمتمًا بإصرار :
" ومع ذلك يجب أن تعرفي أنني بحاجة إلى الكثير من الوقت حتى أتغير وأكون لكِ أفضل مما تتمنين "
غامت عينيه للحظة وانطفأت فرحتها حين همهم بنبرة تلفها المرارة :
" لقد نبذتني أمي قديمًا  حين خرجت من الإطار الذي حاولت وضعي فيه عنوة .. لذلك يجب أن تعلمي أنكِ  ستخوضين معي حربًا ضارية لأصلح ما فسد بي .. سننجح مرة ونفشل الكثير من المرات لكن مع هذا أريد منك وعد "
تحكمت سندس في خفقاتها بضراوة وهمست :
" أي وعد ؟!! "
أمسك بِشر بيديها يشد عليها ثم تأمل عينيها من جديد غير مصدقًا لكونها باتت له ثم تمتم بنبرة عاشقة :
" إياكِ  أن تفقدي الأمل بي ، إياكِ  أن تنبذيني من حياتك "
دمعت عيناها والتمع الدفء بهما فربتت على وجنته بجرأة لا تدري من أين سقطت عليها ثم قالت بعد لحظات :
" أنا أحبك .. وأريد أن اتقاسم معك كل لحظة ، أعدك أن لا أفلت يدك أبدًا  ، سنحاول سويًا وحتى إذا آذتني تلك المحاولات سأبقى "
ضربت سندس بكفيها على طاولة الزينة تجرجر نفسها قسرًا  من عالم ذكرياتها معه .. !
زمجرت بغضب أسود حين فتحت عينيها وواجهت صورتها الباكية في مرآتها ..
كيف يفعل ذلك ؟!!
وكيف تخونها نفسها فتشعر أنها خذلته ؟!!
أغمضت عيناها ودمعها ينزل مدرارًا على صفحة وجهها والماضي يجرها إلى قاعه من جديد بعد أن مر اسمين في خاطرها ..
قاسم وليليان ..!
ذلك اللعين وتلك العاهرة اللذان دمرا سعادتها مع بِشر...!
ليليان التي عرفت من صخر لاحقًا أنها استغلت الشجار الذي قد نشب بينها وبين بِشر كما استغلت وضعه النفسي الخرب بعد عودته من الخارج فارغ اليدين كالعادة في رحلة بحثه عن أخيه المفقود وحديث أمه الذي هده كليًا ..
وقاسم لعنة الله عليه الذي كان يحقد على بِشر لسبب يخص عبثهم القديم مع فتاة ما ممن كانوا يعبثون معهن ويقيمون الرهانات لكسب ودهم ..
قاسم الذي ما أن أوضحت له ليليان عن نيتها تجاه بِشر حتى ساعدها في الوصول إليه ثم قام بعد ذلك بتصويرهما وبعث الصور إليها وهي كالمغفلة وقعت في الفخ .. !
ليعود بعد اندلاع ثورتها فيضيف المزيد من الحطب على نيرانها ويوسوس لها كشيطان رجيم أن عليها بالانتقام من بِشر على ما فعل فتسير وراءه كالضريرة بغضبها وتنفذ ما طلبه منها بطاعة غريبة عنها وكأن خيانة بِشر المزعومة حولتها لأخرى مُسيرة لا مُخيرة !
أغمضت عينيها تسترجع تلك اللحظة التي دخل فيها بِشر إلى النادي بخطوات سريعة حارقة من فرط الغضب ..
فهي وبكل غباء لم تعي لذلك الهاتف الذي كان يبث كل ما يُقال وينقله للجميع حتى وصل إلى صاحب الأمر نفسه الذي أتى بأقصى سرعته ليحتوي الكارثة التي تدور .. !
دمعة فلتت منها وعقلها يعيد إليها الألم الحارق الذي سببته صفعة مباغتة تلقتها من بِشر .. !
صفعة لم تتلقاها في حياتها أبدًا  على مدار سنواتها  ..
صفعة أصابتها بالذهول المطلق .. والجنون المطلق فتركت العنان لجنونها ليقودها فتضرب بِشر بكل ما أوتيت من قوة ثم تترك لساقيها الريح فتركض وتركض دون أن تنتبه لأي شيء غير محاولة لملمة كرامتها المهدورة علناً على يدها قبل يده ليحدث كل شيء بعدها في لحظات خاطفة ...
سيارة مسرعة .. صراخه الملهوف .. صدمة قوية .. ألم لا يُحتمل في ساقها ورأسها ثم وعي يغيب شيئًا فشيئًا وظلمة تبتلعها بلا رحمة !
انتفضت سندس وفتحت عينيها برعب وكأن روحها قد عادت لتلك اللحظة السوداء التي فقدت فيها كل شيء من جديد ..
تلك اللحظة التي ودعت فيها ثقتها بنفسها وحبها الغير مشروط ... و جزء من جسدها فقدته بكل شناعة !
شهقت ودمعاتها تحفر أخاديد من الألم فوق وجنتيها وعدوتها الأولى في المرآة تناظرها بغير هوادة وتعايرها بنقصها .. !
أجل هي لم تعد كاملة بعد فقدانها لساقها ..
لا يحق لها أن تتدلل أو تبدي رغبتها في القبول أو الرفض !
لقد أصبحت ( معيوبة ) وما عاد من حقها الأمر أو النهي ..
عليها تتلقى ما يُلقى لها من فتات وتشكر حظها عليه ..
صرخت سندس بوجع لا يحتمل وهي تزيح كل عطورها بعنف شديد وعقلها يصور لها حقيقتها من جديد ..
مريرة وقاسية مثلما يصفها  بِشر..
( معيوبة ) لكنها تتغابى وتسدل على نفسها غطاء ( كمال ) لا تملكه !
جلست على ركبتيها تبكي بعنف شديد وإغلاقه الهاتف في وجهها بدى لها كإغلاق كل أبواب الرحمة في وجه عاص ..
لقد خسرته .. وخسرت روحها معه !
" لم أعد أحتمل هذا الألم يا بِشر .. والله لم أعد أحتمل "
همهمت بها بصوت متهدج من البكاء وكأن صوتها استنجادها سيصله و يعيده إليها من جديد .
**************************
( اليوم التالي )
( المستشفى )
" أستاذة لقاء .. الضابط المسؤول عن التحقيق في الحادث يريد الدخول و التحدث معكِ قليلاً "
أنهى الطبيب حديثه فانقبضت يد مأمون ورد نيابة عنها بنبره عدائية بعض الشيء :
" ابنتي لا تزال مريضة .. ألا يمكنه الانتظار قليلاً  ؟!! "
نظرت لقاء الى أبيها بتشوش لا تفهم ماذا يحدث ولما كل هذا العنف في التعامل مع الطبيب ؟!!
فعادةً أباها رجل سهل الطباع ، لين الخلق ..
زفرت بتعب حقيقي ودمعة خسارة نزلت على وجهها من جديد تنعي رحيل خالد وطفلتها ..
وكأنه رفض أن يترك عالمها بمفرده فأخذ معه قطعة روحها وروحه ..
وكأنه كان يشعر أنها لم تكن له نعم الزوجة فقرر عقابها بأفظع طريقة ..
  فطفلتها التي وضعت ملايين الخطط من أجلها توفيت قبل أن ترى عيناها النور ..
وزوجها .. الرجل الذي حارب أهله أولاً  من أجل الزواج منها ثم حاربهم من جديد حينما تأخر حملها وحملوها هي مسؤولية الأمر رأته يفارق الحياة أمام عينيها ولم تستطع إنقاذه ..
دمعت عيناها بقهر شديد وعقلها يعيد عليها اللحظة الأخيرة قبل وفاته حين امسك بيديها لآخر مرة وهمس إلى عينيها بحبه الشديد الذي تكره نفسها الآن لأنها لم تستطع مبادلته بمثله يومًا ..!
لقد أحبته ...
يعلم الله أنها أحبته لكن حبها له لم يكن بنفس قوة حبة وشغفه بها ..
تذكرت بحزن شديد كل كلماته وكل أفعاله وكل ما قدم ..
وتذكرت أيضًا ً قلبها العليل مع زوج لم تستطع وهب نفسها له بكليتها كما يستحق ..
لكن يشهد الله أنها حاولت قدر الإمكان البقاء على عهده وبذل كل طاقتها لرؤيته سعيدًا ..
لكن الموت في أوله يسحق كل لحظات السعادة ويمحيها عن العقل ويترك لنا فقط الخذلان والتقصير وكل لحظة لم نهب فيها روحنا إلى من نحب ..
كل لحظة أغضبناهم فيها ، كل كلمة طائشة وقت الغضب تظل ندب يكوي أرواحنا إلى أن يمر قطار العمر فنفعل المثل مع الآخرين حتى يتركونا ذات صباح فنؤنب أنفسنا من جديد ونظل ندور في تلك الدائرة إلى أن نلقى أحبتنا فنكتشف أن حلاوة اللقاء قد طغت على مرارة تأنيب النفس !
تنهدت لقاء دون أن تدري على ماذا اتفق أبيها مع الطبيب ..!
لكن وجه أبيها الممتقع أعطاها فكرة بسيطة عن الأمر ومع ذلك هي لا تزال تجهل سبب توتره الشديد ..
تراه خائفًا عليها من عاقبة حديثها عن تفاصيل الحادث ؟!
أهبت لقاء نفسها للقادم وأخذت نفسًا عميقًا تحاول التغلب على انهيارها الوشيك رحمةً بأبيها الذي عانى الكثير ويقف على قدميه بمعجزة منذ ما حدث لها ..
طرق الباب ثم فُتح فنظرت إلى القادم بلامبالاة أولية لتتسع عيناها تدريجيًا وهي تميزه .. !
شحب وجهها تمامًا وتبدلت ملامحها تدريجيًا من قمة الضعف و الانهيار لقمة القسوة ..
ليس عدلاً ..
ليس عدلاً أبدًا  أن يظهر لها هو الآن و دونًا عن الجميع .. !
ليس عدلاً أن يراها ضعيفة مكسورة هكذا بعد أن لفظها من حياته بتلك الطريقة المهينة ..
ليس عدلاً أن يكون هو الضابط الذي من المفترض أنه سيجلب لها حقها و حق زوجها وابنتها ..
ليس عدلاً بأي شكل من الأشكال أن يرتبط اسمه بأي شيء يخص خالد ..
ليس عدلاً أن يعيده القدر إلى حياتها هكذا و كأنه يلوح بعصا ساحر فيعيد الزمان عليها من جديد ..
تسمر معتصم وارتج قلبه بعنف حينما وقعت عيناه عليها ..
مشط وجهها الشاحب بنظرات بعيدة كل البعد عن المهنية المطلوبة في مثل هذه المواقف ثم تمالك نفسه بقوة يُحسد عليها وتحرك بخطوات هادئة ظاهريًا يتبعه أحد العساكر الذي سيدون كل ما تقوله لقاء ..
سحب كرسيًا ووضعه في أبعد نقطة عنها أمام عيني أبيها الكارهتين له والقلقتين عليها وعينا العسكري المستغربتين من توتر معتصم الواضح وقبلهما عيناها هي التي تنظر إليه بنفور يمزقه ..
عيناها الواسعتين كفضاء شاسع يلهمه لخط ملايين الكلمات لوصفهما ..
عيناها التي اوقعته بها فيما مضى بلون البندق الذي يظلل حدقتيها ..
عيناها واحتي عشقه سابقًا ومركز اتزانه في تلك اللحظة تحديدًا !
بمعجزة تحكم معتصم في أعصابه المشدودة ثم تنحنح وتكلم بنبرة عملية قائلاً بهدوء هو أبعد ما يكون عنه :
" الحمد لله على سلامتكِ يا أستاذة لقاء .. لن نأخذ من وقتكِ الكثير "
لحظة ..
اثنان ..
و ثلاثة ..
ليأتيه صوتها قاصفًا ، كارهًا وكأنها قد فقدت آخر ذرات تحكمها في نفسها صارخةً بكل ضعفها وانكسارها :
" اخرج من هناااااااااااااا "
********************
( مساءاً )
دلف صخر إلى غرفته راغباً في بعض الراحة بعد عناء يوم طويل لكن وجهه كان يحمل غضبًا شديدًا لا سبيل لإخماده ..!
فالحقير جاسم الغانم جاء إلى مكتبه اليوم ونيته كانت واضحة في افتعال شجار جديد معه بعد أن عرف بطلبه أو بالأحرى طلب أمه لرغدة وما أوقف تلك المهزلة قبل وقوعها كان السيد عبد الحميد الذي زجره بحزم شديد موضحًا أنهم لا ينقصهم المزيد من الفضائح التي تخص هذا الأمر ..
لا يزال الغضب يسيطر عليه كلما تذكر كلمات الغبي الذي يُدعى جاسم والذي هتف بأنهم لا ينتظرون شهامته المفتعلة لحل الأمر ولن يقعوا بالفخ الذي ينصبه إليهم ليصبح فردًا  من عائلة الغانم !
ألقى صخر ملابسه بعصبية شديدة وعقله رغمًا عنه يتساءل عن ما تعانيه تلك الهريرة الصغيرة مع أخ متخلف وعصبي بهذا الشكل ؟!!
الآن فقط فهم سبب ضعفها وهشاشتها ..
تلك الصغيرة مؤكد كانت تعاني القمع والتهميش من ذلك الجلف ..
مؤكد أرهبها دائمًا  بصوته المرتفع على الدوام وضخامة جسده وعصبيته المفرطة .. !
زفر صخر بضيق شديد وهو يرى أن الأمر يضيق عليه أكثر وأكثر ..
فالسيد عبد الحميد قد لمّح له بشكل غير مباشر أن الحاج صفوان لا يمانع ارتباطه برغدة لكن الكلمة الأخيرة تبقى لها هي .. !
ابتسم باستهزاء وهو يلقي بنفسه على الفراش مرددًا بسخرية :
" الكلمة الأخيرة لها ! ... سامحكِ الله يا أمي على تلك الورطة "
ما له هو بتعقيدات حياتها ؟!!
لما عليه أن يتورط بها ؟!!!
تلك الفتاة .... تلك الفتاة ...
بحث عقله عن علتها قليلاً ليجد صخر نفسه يتمتم كالمخبول :
" هبلاء وساذجة وتحب ابن عمها وضعيفة ومترددة ... إنها طفلة ... طفلــــــة "
جز على أسنانه في نهاية كلامه ليعود و يستهزئ من جديد :
" وآخرتها .. أمري أصبح بيدها ، راااااااااائع "
رن هاتفه فأمسك به يحدق في الرقم الغريب ثم استقبل المكالمة قائلاً  بصوت منفعل :
" نعم "
ليصله من الطرف الآخر صوت أنفاس مضطربة وكأنه باغت المتصل بعنفه ..
تكلم من جديد بصوت أهدأ رافضًا تصديق حدسه :
" مرحبًا  .. من معي ؟!! "
دام الصمت للحظة .. اثنين حتى أوشك على إنهاء المكالمة  ثم وصله صوتها الخافت .. الهش مثلها :
" أنا ... رغدة "
تسمرت يده بموضعها واعتدل على فراشه قائلاً  بصوت متفاجئ .. مرتبك :
" رغدة ؟!! ..  أهلاً  ... كيف حالك ؟!! "
انتظر أن تجيبه لكنها صدمته حين سألت بشكل مباغت .. مندفع :
" هل تريد حقًا الزواج مني أم أن والدتك تصرفت دون الرجوع إليك ؟! "
ارتفع حاجبي صخر من لحظة الذكاء النادرة التي حلت عليها لكن كرامته أبت أن تظهره غرًا أمامها تخطب له أمه دون الرجوع إليه وقد استوعب عقله أخيرًا  مفاجأة اتصالها به فتمتم من بين أسنانه محاولاً اخفاء سخريته من نفسه ومن الموقف برمته :
" وهل أنا طفل صغير حتى تخطب لي أمي دون الرجوع إليّ ؟! "
وصله صوت أنفاسها المضطربة مرة أخرى فنغزه قلبه عليها ..
ناداها بهمس لين ثم قال بهدوء داعيًا الله أن تكون قد اتصلت لتخبره برفضها لتلك الزيجة فيكون الرفض قادمًا من ناحيتها هي :
" أخبريني بكل ما تريدينه وأنا سأتكفل بالأمر "
صمتت رغدة قليلاً ثم همست بعدها بصوت خافت لكنه يحمل نبرة لم يسمعها منها من قبل :
" حسنًا في هذه الحالة .. أنا موافقة على عرض الزواج و أريدك أن تأتي مع عائلتك في أقرب فرصة لإنهاء الأمر "


نهاية الفصل الحادي عشر

عدو في المرآة  .. الجزء الثاني من سلسلة قلوب تحت المجهر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن