الفصل الرابع عشر

346 19 0
                                    

( ربما آن أن نلتقي )
***
بعد انتهاء الحفل وقفت رغدة جوار صخر عند السور الذي يطل على حديقة بيتهم تتطلع في وجهه المتهجم بفضول ممتزج بالقلق ثم سألته بعد عدة لحظات بصوت خافت لم يصل لغيره :
" ماذا حدث ؟!! .. هل أنت بخير ؟!! "
نظر صخر لها مستغلاً تلك اللحظة النادرة التي جمعتهما بمفردهما بعيدًا  عن الأعين المتربصة بهما ثم سألها بغموض :
" هل هناك شيئًا ترغبين في قوله ؟!! .. شيء يجب أن أعرفه ؟!! "
للحظة توترت نظراتها أمام عينيه الثاقبتين ثم تمتمت بعدم فهم :
" أي شيء ؟! .. أنا لا أفهم "
كاد صخر أن يتحدث لكن قاطعهما صوت بكر الذي هتف بشكل مفاجئ وهو يشير إلى رغدة :
" يا شباب .. بما أننا مجتمعين في صدفة نادرة نشكر عليها عنـ... ( تدارك نفسه قبل أن يدعوها بالعنزة أمام عائلة خطيبها فصحح حديثه قائلاً) رغدة .. أريد أن نضيف سببًا آخرًا للاحتفال وهو عيد ميلاد زوجتي الجميلة "
نظر صخر بطرف عينه إلى رغدة منتظرًا ردة فعلها ليجد وجهها لا يعبر عن أي شيء عكس طبيعتها الشفافة فقال بمكر متجاهلاً حديثه الأول :
" لما أشعر أنكِ لا تحبين جزاء ابنة عمك ؟!! "
عادت رغدة بعينيها إليه ثم ردت عليه ببساطة شديدة :
" لأني بالفعل لا أحبها أو لنقل لا أستغيثها "
ارتفع حاجبي صخر مستغربًا صراحتها .. فهو توقع أن ترتبك وتنكر الأمر حتى لا تنكشف مشاعرها تجاه ابن عمها أمامه لكن ردها الصريح جعل الفضول يزداد داخله أكثر ليدرك حقيقة الأمر فسأل بإصرار :
" ولما لا تحبينها ؟!! "
للحظة شعرت رغدة أنها أخطأت حين تحدثت عن عائلتها بسوء أمامه فبررت قائلة بزيف :
" لأنها لا تُحسن معاملتي ولا تحبني بالمقابل "
أراد صخر أن يستفسر أكثر لكن المستفز قاطعهما من جديد حينما دعاهما بصوت مرتفع :
" هيا تعالا انضما للحفل "
تحركا على مضض ليدخلا من جديد فيهمهم بِشر ضاحكًا و هو يلمح انقلاب وجه صاحبه حينما وقف جواره :
" ما شاء الله لقد بدأت فقرة الشجار والوجه المقلوب باكرًا جدًا لديك .. أنا أذكر أنني مررت بها بعد مرور شهرين تقريبًا من الخطبة "
نظر له صخر بطرف عينه دون تعليق ليعود ويحدق في ملامح رغدة منتظرًا اي لمحة غيرة تصدر عنها ليدق عنقها أمام الجميع لكن رغدة وللغريب لم تكن تنظر إلى الزوجين السعيدين بل كانت تنظر إلى الكعكة والشموع أمامها بعينين محرومتين ..
تنظر إلى من يغنون أغنية عيد الميلاد البلهاء بعد أن أجبرهم السيد بكر على غنائها ..
لتبدو أمنيتها الطفولية جلية لعينيه ..
فهو معها لا يحتاج للبحث والسؤال .. نظرة واحدة إليها تكفي وتزيد !
شتم صخر بينه وبين نفسه وحاجزًا آخر يُوضع في نفسه ضد تلك العائلة التي أهملتها وهمشتها بتلك الطريقة لتبدو في النهاية بهذا البؤس أمامه لمجرد رؤيتها لكعكة مزينة .. !
على الرغم من غضبه السابق منها وجد صخر نفسه يقسم سرًا أن عيد مولدها القادم سيكون في بيته ، وسط عائلته وسيقيم لها أجمل حفل وسيجلب لها أجمل كعكة قد تراها .. وأنه سيمحو تلك النظرة من عينيها إلى الأبد !
اصطدمت عيناها به في تلك اللحظة فهالها وميض عينيه الذي لم تستطع تفسيره فاضطربت وتوردت خجلاً وكادت تخطو للوراء بكل حماقة لكنها تحكمت في خافقها لتنظر بعدها مجفلة إلى جاسم الذي لف ذراعه حول كتفها ثم مال يهمس لها بشيء فتبتسم له ابتسامة حلوة مثلها ثم تلف وتحتضنه بشكل طفولي ناسية غضبها السابق منه ليلف جاسم ذراعيه حولها ويربت على شعرها بحنان ثم ينظر إلى صخر نظرة رافضة جعلته يزفر بملل داعيًا أن تنتهي تلك الأمسية قبل أن يفقد أعصابه وتهذيبه المفتعل ثم يستسلم لرغبته الدفينة ويضرب نصف أفراد هذه العائلة .
******
( بعد عدة أيام )
يقف خلفها في المطبخ ويكاد ينفجر من تصرفاتها التي تضعه بها أمام الأمر الواقع مرة بعد مرة ليزفر محاولاً التحلي بآخر ذرات صبره ثم يهمهم من بين أسنانه :
" افهميني فقط .... أليس هذا منزلي ومن حقي أن أكن على علم بكل ما يدور به ؟!! "
رمت له امه نظرة خاطفة دون أن تتنازل وترد عليه فاستغفر صخر ثم لم يتمالك نفسه وهدر بغيظ :
" أمي .. أنا أحدثك "
تركت إيمان ما بيدها ثم أعطته انتباها واهيًا فيما تقول ببرود :
" ماذا تريد ؟!! "
زفر صخر بقنوط ليعيد سؤاله للمرة العاشرة ربما :
" لماذا لم تخبرينني بدعوتك لرغدة على الغذاء ؟!! .. هل يصح أن أعرف الأمر بالصدفة ؟!! "
لوت إيمان شفتيها ثم ردت ببراءة زائفة و هي تضع كفاً فوق الأخرى :
" لقد رتبت الأمر هذا الصباح وأردت أن أفاجئك "
قلدها صخر هازئًا فيما يهمهم بنبرة مشابهة :
" تفاجئينني ؟!! ... لقد تسببتِ في احراجي حين اقتحم عليّ المتخلف أخاها المكتب معلنًا رفضه للدعوة المفاجئة التي لا أعلم أنا عنها شيئًا "
احتدت نظرات إيمان لتردد بصوت غاضب.. مرتفع :
" ولما يرفض ؟!! .. وما دخله هو إن شاء الله ؟!! .. هل كنت دعوته هو دون أن أدري ؟!! "
جز صخر على أسنانه بغيظ من تصرفات أمه التي تضعه دائمًا  في موضع الغر الذي لا يدرك شيئًا بينما استطردت إيمان دون توقف :
" أخاها هذا لا يرحم ولا يترك رحمة ربه تنزل ، أنا أريد رغدة في محيطنا قدر الإمكان حتى تألفنا في أسرع وقت .. أريدها أن تتعود عليك وعلينا جميعًا .. لا أفهم ما الجرم العظيم الذي ارتكبته ! "
اقترب منها صخر ثم تمتم لها بهدوء يخالف ما يدور في صدره من مشاعر متباينة أبرزها الغيظ :
" يا أمي بالله عليكِ المرة القادمة أخبريني قبل أن تتصرفين في أي شيء يخص أمر ارتباطي حتى أكون على بينة بما يدور .. والله لقد استنزفت مع جاسم كل طاقات الصبر والحلم الذي أملكهم وأنا أوضح له إنني لم أتخطاه وأنكِ أنتِ  من دعوتي رغدة على الغذاء "
رفعت إيمان حاجبًا مستنكرًا  ثم أعطته ظهرها مكملة عملها دون أن ترد عليه لكن همهماتها الساخطة على جاسم المستفز وصلته واضحة و جلية فترك لها المكان ولسانه لا يتوقف عن السباب ...
بعد عدة دقائق كانت رغدة تدخل هي ووصال إلى بيت المنصوري فتمتمت وصال بمشاغبة و هي تتطلع حولها :
" المنزل لطيف .. ذكريني أن أجعل جاسم يبتاع لي مثل هذا الكرسي الهزاز "
نظرت لها رغدة متفاجئة من عينيها التي لا تغفل شيئًا لتقاطعهم إيمان التي خرجت بسرعة تستقبلهن بحفاوة كان لرغدة الجزء الأكبر منها إذ عانقتها بحرارة قائلة ببشاشة :
" يا ألف مرحبًا بعروس ابني الحلوة "
فتوردت رغدة خاصةً  مع ظهور صخر الذي نزل من على الدرج بوجه هادئ يشاهد ترحيب أمه الحار برغدة والذي يختلف شكلاً وتفصيلاً عن ترحيبها البارد بناردين حين كان يدعوها إلى منزلهم في بعض الأحيان ..!
انتبه حين تمتمت وصال بشقاوة محببة تداري به حرجها :
" أعذريني سيدتي لقد أتيت دون دعوة لكني ....... "
قاطعتها إيمان هاتفة باستنكار :
" أي قول هذا ؟!! ... عيب يا ابنتي هذا بيت الحاج محمد المنصوري المفتوح لكل الناس هل سيغلق الآن أبوابه في وجه أهلنا ! "
ابتسمت لها وصال بحرج بسيط بينما ظلت رغدة على صمتها لتجذبهم إيمان إلى الداخل قائلة بمودة :
" سننتظر سندس إلى أن تعود من السوق بعد عدة دقائق وبعدها سنتناول وجبتنا سويًا .. لقد ذهبت مع بِشر وهم على وشك الوصول بعد قليل "
ابتسمت الفتيات بتفهم ثم جلسن ليوجه صخر أخيرًا حديثه إلى رغدة سائلاً  باهتمام مفاجئ وكأنه انتبه الى هذا الشيء حديثًا :
" ألم تعودي للجامعة بعد ؟!! "
هزت رغدة رأسها نفيًا ثم قالت باختصار :
" ليس بعد "
قطب صخر بضيق سائلاً  من جديد و إن تخللت نبرته بعض الحيرة :
" لكن لماذا ؟!! .... لقد اقتربت امتحاناتك "
كتمت رغدة ضيقها ثم همهمت بصوت هش :
" لست مستعدة لمقابلة أحد الآن "
حل الوجوم ملامحه بينما أمسكت إيمان بكف وصال قائلة بنبرة مقصودة وهي تسحبها معها بشكل مفضوح :
" تعالي معي وساعديني قليلاً .. أخبريني أولاً هل لديكِ خبرة في المطبخ أم أنكِ  مثل بنات هذه الأيام ؟!! "
تابعت رغدة اختفائهن داخل المطبخ بينما حدق فيها صخر بشيء من .... الضيق !
ليته يستطيع تحديد مشاعره تجاهها .. !
لأول مرة يعجز عن فهم نفسه ..
فمن جهة لأول مرة تستطيع فتاة استفزاز أقصى نزع الحماية والتملك لديه ومن جهة أخرى هو لا يمقت شيئًا بقدر التردد والضعف !
ورغدة ما شاء الله مثال حي للضعف والهشاشة ..
كتم زفرة ضيق حينما بدأ عقله يأخذه لتلك المشاعر الحسية الغير مستحبة التي تتولد لديه ببطء شديد تجاهها ..
فتارة يتذكر ملمس شعرها الناعم والثابت موضعه حد الاستفزاز وكأنه يتحدى الهواء في بعثرته ..
وتارة تلفحه نسمة هواء تذكره بعطرها الخفيف جدًا والذي لم يلاحظه إلا حينما أخفاها بين أضلعه وهي تهمس باسمه وكأن فيه نجاتها ..
وتارة أخرى يعيد عقله لمحات بسيطة للغاية كانت رغدة فيهم أقرب إليه من أنفاسه .. كتلك اللحظة التي قفزت فيها على حجره وتلك اللحظة التي همست له فيها ( معك و ليس بدونك ) ..!
تنحنح صخر بشكل مفاجئ فاجفل من تجلس أمامه وتحاول لعب دور الهادئة رغم نظراتها المشتتة التي تفضحها ..
" متى ستعودين إلى الجامعة ؟!! "
ألقى سؤاله بهدوء مخالف تمامًا لما يشعر به في هذه اللحظة وهو يحاول قدر إمكانه غض بصره عنها حتى لا يستعيد المزيد من الذكريات الحسية ( الغير مرغوب فيها ) بينهما ..
" لا أعلم ... لم أقرر بعد "
" هل برأيك الاختباء خلف جدران غرفتك سيبعد عنك الأذى ؟!! "
في لحظة ارتكزت حدقتيها عليه مما أربك جلسته فشتم نفسه سرًا لتهمهم رغدة بصوت حانق :
" أنا لا أختبئ من أحد .. كما لا أعتقد أنني مخطئة حينما أخاف من إلحاق الأذى بي يا صخر "
وها قد عادت تلك ( الصخر ) خاصتها لتعبث بمركز اتزانه مرة أخرى فيجد نفسه يتمتم دون تركيز وهو يتذكر كل ما تعرضت له بسببه :
" من سيفكر مجرد التفكير في المساس بكِ سأجعله يتمنى الموت ولا يطاله "
تفاجئت رغدة من عنف وحرارة كلماته ..
هل يمكنها أن تطمع في مجرد التفكير بأنها تحتل حيزًا و لو صغيرًا من اهتماماته ؟!
ناظرته بعينين يملئها مزيج غير معتاد من الصدمة والامتنان وخيط رفيع من .... الانبهار !
لماذا تنظر إليه هكذا وكأنها لم تجد من يحميها يومًا ؟!!
ارتبك صخر من جديد أمام ابتسامة رائعة تشكلت ببطء على ملامح وجهها وكأنها تكافئه بها على جملته ..
أنقذه وشتت أفكاره التي تتمحور حولها بشكل مستفز لأعصابه صوت جلبة تبعه دخول بِشر وسندس اللذان كانا يتناقشا حول شيء ما ..
و ما أن رأتها سندس حتى أسرعت واقتربت منها ثم قبلتها قائلة بصوت خافت :
" أخيرًا  التقينا ... أتعلمين الذهاب إلى الجامعة ممل جدًا من دونك لهذا تخلفت عن الحضور اليوم وذهبت إلى السوق لشراء بعض أغراض الزفاف .. عامةً لا تقلقي لقد طبعت لكِ كل المحاضرات التي فاتتك "
ابتسمت رغدة متعجبة من ثرثرة سندس الغريبة على طبعها ليقاطعهن بِشر ويلقي التحية عليها ثم يسألها باهتمام صادق :
"  كيف حالك الآن ؟!! .. تبدين أفضل بكثير "
ابتسمت له رغدة ابتسامة حلوة ضايقت المحدق بصمت فكاد أن ينهرها هاتفًا بكل صبيانية أن تلك الابتسامة تخصه وحده ثم ولتغيظه أكثر ردت على بِشر بمودة وكأنها تعرفه منذ سنوات :
" أنا بخير .. تجاوزت ما حدث وسأعود إلى الجامعة عما قريب "
بادلها بِشر الابتسامة ولمحت في عينيه دعم ومؤازرة لم تفهم معناهم أول الأمر لكنه تمتم لها بصوت ودود للغاية :
" رائع .. أنا أعلم أن ما حدث معك صعب لكني واثق أنكِ  سترمين بكل شيء وراء ظهرك وستجتازين عامك بنجاح .. فأنتِ أقوى مما تبدين عليه "
اتسعت ابتسامتها له أكثر رغم علمها بأنه يجاملها لكنه كان احساس غريب لم تشعر به مسبقًا ..
وكأنها طفلة تتلقى المديح والجهر بالثقة للمرة الأولى !
غريب .. أنها حقًا تجرب شعور المرة الأولى من كل شيء منذ أن خطت قدمها لهذا البيت ..!
جز صخر على أسنانه بضيق بينما عضت سندس على شفتها السفلية بغيرة التقطها بِشر فرفع حاجبيه بعجب ليقطع المشهد دخول إيمان ووصال اللتين انسجمن وتبادلن الضحكات وكأنهن يعرفن بعضهن منذ زمن ..
نادتهم إيمان ليلتفوا حول المائدة فألقت سندس التحية على وصال وأومأ لها بِشر باحترام ليلتفوا جميعًا حول إيمان التي همهمت بسعادة طاغية :
" الحمد لله الذي مد في عمري حتى رأيتكم مجتمعين حولي بهذا الشكل "
ابتسموا لها جميعًا داعيين لها بالعمر المديد وبعد لحظات كان الجميع  يكتم ابتسامته حين لاحظوا اهتمام إيمان المبالغ فيه برغدة فهي تكاد تحشر الطعام حشرًا في حلقها وما أن ينتهي طبقها حتى تملئه إليها من جديد ..
" لقد كنت محقًا .. رغدة سرقت مكانتي في قلبكِ يا خالتي "
ألقاها بِشر بمسكنة فنظر له صخر بطرف عينه باستخفاف بينما تمتمت إيمان بصوت مشاكس :
" لا تتدلل يا ابن قلبي .. أنت تدرك أن مكانك لن يحتله أحدًا  "
ابتسم لها بِشر ثم أكمل مشاكسته قائلاً  بمرح :
" واضح بدليل أن طبقي فارغ منذ دقائق دون أن تلاحظي عكس عادتكِ معي "
" وهل فقدت ذراعك ؟!! ... الطعام أمامك ،ضع لنفسك "
ألقاها صخر باستخفاف لتتسع عيناه بمفاجأة حين أخذت سندس طبق بِشر ووضعت به المزيد من الطعام ثم أعادته أمامه من جديد قائلة ببساطة :
" وها قد امتلأ الطبق .. توقفا عن النقار "
نظر لها بِشر نظرة مفعمة بالمشاعر وقد تفاجئ بدوره من تبدلها معه في الفترة الأخيرة تحديدًا منذ وفاة خالد وكأنها قد وعيت بدورها إلى عاصفة الموت التي تهب في لحظة خاطفة ودون سابق إنذار ..
شاكسها صخر قائلاً  بصبيانية :
" وماذا عن طبقي ؟!! "
التفتت إليه بِشر ثم همهم بمكر وهو يشير بعينيه إلى رغدة التي تشاهدهم بصمت :
" دع خطيبتك تملأه لك "
توردت رغدة وارتبكت حين نظر صخر إليها فدفنت وجهها في طبقها فكتمت وصال ضحكتها وقلدتها ونكست وجهها لتنقذها إيمان حين قالت لرغدة بصوت حنون :
" هل تريدين المزيد من محشي ورق العنب حبيبتي ؟!! "
" لا .. بالله عليكِ كفى "
ألقتها رغدة بذعر وقد امتلأت معدتها عن آخرها فكتم صخر ضحكته بينما قال لها بِشر بمشاكسة :
" لا تقلقي هكذا ، ستعتادين على دلال خالتي عما قريب ... أراهن أنكِ  ستكتسبين ما لا يقل عن عشر كيلوجرامات في أول أسبوعين بعد الزفاف "
ضحكت إيمان ثم قالت له بتوبيخ زائف وهي تهم بوضع المزيد في طبق رغدة :
" توقف عن مشاكستها يا بِشر .. و عنادًا بك سأدللها أكثر "
" لا يا خالتي أرجوكِ  .. والله شبعت "
ضحكت إيمان وتركتها أخيرًا لحالها ثم فعلت المثل مع وصال حتى ملئت بطونهم جميعًا بالطعام وقلوبهم بالود والمحبة ..
بعد انتهاء الوجبة جلسوا جميعًا لتقترح إيمان وهي توجه نظراتها إلى لأولادها وبِشر ورغدة :
" ما رأيكما أن نقيم زفافًا مشترك لأتخلص منكم جميعًا  في يوم واحد ؟! "
كتم بِشر ضحكته مدركًا ألاعيب خالته التي تورط الجميع حرفيًا بزفاف سريع حتى لا تترك فرصة التراجع لأحد من أولادها بينما رمى صخر نظرة خاطفة نحو رغدة ثم عاد إلى أمه التي وجهت حديثها الى رغدة قائلة :
" وبالمناسبة عليكِ أن تبدأي في اختيار الأثاث ولون الدهان وما إلى ذلك حتى نقوم بتجهيز جناحكما في أسرع وقت "
  أومأت لها رغدة في الوقت الذي كانت فيه وصال تكتم صوت هاتفها للمرة العاشرة تقريبًا فيما تهمهم بصوت مستنكر خافت للغاية وكأنها ترى جاسم أمامها :
" أنا لم أرى في حياتي إصرار كهذا ... يا رجل الهاتف يكاد يستغيث من رسائلك .. اعتقني لوجه الله "
عضت وصال على شفتيها بعنف مكبوت حين قرأت آخر ما كتب ..
( قسمًا بالله يا وصال لو لم تخرجن من هذا المنزل الآن لآتي وأجلبكن بنفسي وأنتِ  تعلمين معنى هذا الأمر .. لذا يستحسن أن تقلقي على كرامتكِ وكرامتها وتجلبينها في الحال "
زفرت وصال بضيق ثم ردت عليه ونهضت تعتذر من الجميع وتستأذنهم الرحيل رغم رفض إيمان وتمسكها بهن لكنها أصرت على الذهاب لتهمس بعدها إلى رغدة بصوت خافت مولول :
" أخاكِ  يقول إنه سيأتي لأخذنا لو لم نرحل الآن "
" لا هيا بنا "
قالتها رغدة وهي تسرع الخطى نحو الخارج ليناديها صخر فتضطر إلى التوقف مرغمة بينما سبقتها وصال إلى السيارة وهي تتشاجر مع جاسم عبر الهاتف بصوت خافت ..
" هل هناك مشكلة ؟!! "
نظرت إليه رغدة ثم هزت رأسها نفيًا فيما تقول بخفوت :
" لا .. لقد تأخر الوقت فقط "
وصل إلى صخر صوت تمتمات وصال ففهم أن جاسم من يرغب بعودتهن فأخفى ضيقه بمهارة ثم قال بصوت هادئ :
" أنا سأوصل سندس إلى الجامعة غدًا وأريد أن أراكِ  هناك "
زفرت رغدة ثم كادت أن ترد عليه بالرفض من جديد فيقاطعها قائلاً  بلهجة لينة لا يعلم لما لا تظهر إلا في حضرتها :
" يا هريرة أنا أعلم أن البعض ما زال يتحدث عن ما حدث وما تعرضنا له سويًا .. لكن صدقيني اختبائك بهذا الشكل يعزز كلامهم بل ويترك لهم الفرصة لأصباغ الأمر بخيالاتهم الخاصة وفي النهاية أنتِ من ستتأذين أكثر "
لم يكن يدرك صخر أن حديثه بأكمله لم يصل للواقفة أمامه التي تاه منها تركيزها بشكل تام عقب وصفه لها بالهريرة من جديد .. !
رباه لكم تحب هذا الوصف منه ..
وتحب تلك اللحظات الخاطفة التي يذل فيها لسانه فيهديها تلك الكلمة دون وعي تام من صاحبها ..
أتراها تؤثر فيه كما يؤثر فيها ؟!!!
" هل تسمعينني ؟!! "
انتبهت له رغدة فتوردت وكأنه قرأ أفكارها نحوه للتو لتتنحنح وتسأله بصوت حاولت اصباغ الرزانة والعقل عليه :
" هل تريد مني العودة غدًا إلى الجامعة ؟!! "
لا إله إلا الله .. لا إنه يتحدث معها عن الأمر لأنه يشعر بالفراغ !
" أجل يا رغدة "
ألقاها بابتسامة صفراء فتهز رغدة رأسها بموافقة فيما تتراجع عن موقفها كطقس معتاد لديها بدأ يدرك وجوده :
" حسنًا  ... كما تشاء "
لتتركه وتتبع ابنة عمها فيلاحقها صخر بنظراته ويضرب كفًا بكف قائلاً  بيأس من حالتها :
" أقسم بالله ابتليت بقزمة هبلاء "
************
( أأخبرتكِ يومًا أنكِ ظلي ؟!!
أأخبرتكِ أنكِ نور دربي ؟!!
سرًا لم يسعه قلبي
بالطبع لم أخبركِ ..!
أأخبرتكِ أن خصلاتكِ المهملة شغفي ؟!!
أن بريق عينيكِ ولهي
وواحات قلبكِ مسكني
مؤكد لم أخبرِك ..!
أأخبرتكِ أنكِ دفئ شتائي ؟!!
أنكِ ربيع أيامي ..
وأنكِ خريف أحزاني
ليتني أخبرِك ..!
فلتخبريني أنتِ عن سركِ ..
عن ساكن وميض عينكِ ..
عن عشقكِ الغير مألوف ..
عن نبض قلبكِ الملهوف ..
أيا عشقًا اخفيه بين الحروف )
" ماذا تكتب ؟؟؟ "
صوت صغيرته التي ركضت وحشرت نفسها بين ساقيه جعله يبتسم لا إراديًا ثم مال و قبّل رأسها مستنشقًا رائحتها العطرة مثلها فيما يقول بصوت حنون وهو يطوي الورقة ويضعها في جيبه :
" كيف مر يومك في الروضة يا لولو ؟!! "
ابتسمت له لمار ثم رفعت نفسها وجلست على ساقه قائلةً بصوت طفولي عذب :
" لقد لونت التنين بالأخضر وأعجب معلمتي ، ولعبت بالصلصال وصنعت منه قطة مثل التي تركض وراءها جدتي كل يوم حتى تبتعد عن منزلنا "
ضحك معتصم بخفة ثم أراح ظهره للوراء آخذها إياها بحضنه لتكمل لامار ثرثرتها قائلة بصوت مرتفع :
" لقد طلبت مني المعلمة أن ارسم صورة لك أنت و أمي كواجب منزلي و سآخذ الرسمة معي غدًا ... هل ستساعدني ؟!! "
" بالطبع حبيبتي "
أصدرت لامار هتافًا فرحًا ثم عانقته سائلة ببراءة :
" أبي ..  هل يمكن أن نعيش أنا وأنت وأمي معًا من جديد ؟!! "
للحظة اغتم وجه معتصم وشعر بالذنب ينهشه فاعتدل وجلس مقابلاً لابنته فيما يعيد عليها حديثه السابق قائلاً  بحنان شديد :
" حبيبتي ألم نتكلم في هذا الأمر سابقًا ؟!! .. أنا وأمك نحبك كثيرًا ولكننا لا نستطيع البقاء معًا "
" لكن لماذا ؟!! .. كل أصدقائي يعيشون مع آبائهم وأمهاتهم في بيت واحد .. لما لا نكون مثلهم ؟!! "
زفر معتصم محاولاً إيضاح الصورة بشكل أكبر لها فهمهم بصوت لين :
" حبيبتي والدتك لا تعيش في مدينتنا ، كما أنها تزوجت من العم عبدالله .. أليس كذلك ؟!! "
قطبت لامار ثم قالت بصوت ضائق و مشوش :
" إذًا  العم عبدالله هو زوج أمي وليس أنت وسأضطر إلى رسمه هو معها "
ابتسم معتصم من منطقها ثم عانقها قائلاً  بصوت خافت وهو يبدأ بدغدغتها :
" الآن أنا بابا .. بابا الذي يحب لامار أكثر من روحه .. ارسمي بابا ولامار سويًا "
ضحكت لامار وبطفوليتها نسيت الأمر لكن معتصم لم يكن يدرك أن والدته تتابع حديثهما عن بُعد وتهمهم لنفسها بإصرار :
" يجب أن يتزوج .. الفتاة بحاجة إلى أم "
لتعض شفتيها بعد ذلك متمتمةً بصوت خفيض :
" منها لله من سحرت عقله وخربت بيته .. عساها لا ترى الفرح أبدًا  "
عادت بتركيزها من جديد تجاه ابنها وقرأت زيف ابتسامته في عينيه فتنهدت بثقل وداخلها لا يزال يبحث عن طريقة لنيل مغفرته ..
حسنًا هي ليست نادمة على ما فعلت لكنها لم تكن لتفعل ذلك إلا من أجل صالحه ..
تهجم وجهها وهي تتذكر حالات هيامه المقززة بأبنة الحسب والنسب التي كانت تستغل ضعفه تجاهها وتتدلل عليه وكأنه خُلق لتلبية أوامرها ..
كانت تبقيه ساهداً طوال الليل معها على الهاتف بعد عودته من عمله و تلتف حوله كحية ناعمة فتبقيه يدور في فلكها هي فقط غير مباليًا  لما يدور حوله طالما لا يمسها ..
رباه كم كانت مستفزة .. فاشلة
لا تجيد تحضير الطعام ولا غسل الملابس ولا أي شيء غير التسكع والميوعة !
تحركت بخفة نحو غرفتها وفتحت إحدى الإدراج تحدق في سرها الصغير ..
علبة دواء وصفه الطبيب لها في أوقات محددة كما حذرها من الإفراط فيه حتى لا يؤثر على قلبها وكفاءته ..
ذلك العقار الذي كان الحل الأخير والأمثل لها حينما فشلت كل حلولها في إبعاد سحر المشعوذة عن ابنها الذي كان يمشي وراء قلبه كالأبله ولا يستمع لها !
بحق الله لقد كانت تسرقه منها حرفيًا وأمام عينيها ..
خبئت نجيبة العُلبة في موضعها القديم وهي تسترجع تلك اللحظات التي اجتمعت فيها مع والد المحروسة لقاء وأخبرته صراحة أن ابنته لا تصلح لا لأبنها ولا لها ككنة ..
يومها شعرت لأول مرة بالقلق جراء نظرة مأمون الذي تحول من قمة الرقي لقمة التجبر في التعامل عندما مست صغيرته المدللة بكلماتها ليقف في النهاية ويخبرها بكل عنفوان أن الخطبة لاغية وأن هناك المئات ممن يطلبون ود ابنته ويتمنون رضاها فنظرت له وقتها باستهزاء متعمد مكذبة إياه بنظراتها فينهض مأمون ويطردها من منزله بتهذيب أمام نظرات لقاء المصعوقة مما يحدث و المتابعة عن بُعد بعد أن أمرها والدها بالدخول إلى غرفتها ..
انتفضت نجيبة حين اقتحمت لامار غرفتها فيما تقول بانطلاق :
" أين وضعتي ألواني يا جدتي ؟!! .. بابا سيرسم معي "
نهضت نجيبة وتحركت معها ثم أخرجت لها أدواتها وأعطتها إياهم ثم لحقتها موضع جلوس معتصم لتقول بصوت حنون محاولة كسب وده من جديد مدركةً أنه لولا قلبها الضعيف لأخذ ابنته واستقل في بيت بمفرده :
" هل أحضر لكما العشاء ؟!! "
" شكرًا .. لست جائع "
انقبض قلب نجيبة كما يحدث في كل مرة يغلق فيها ابنها أبوابه في وجهها ثم استدارت بوجه ممتقع وهي تدعو على من خربت علاقتها بابنها من جديد .
*******
( صباح اليوم التالي .. الجامعة )
تغض النظر عن كل ما حولها بتماسك تُحسد عليه ..
تتجاهل الرد على أية أسئلة تخص ما حدث معها وتتقبل عبارات المواساة بابتسامة هادئة اقرب للفتور !
ترى الفضول يكاد يقفز من أعين زملائها خاصة وخاتم خطبها يكاد يضوي أمام أعينهم النهمة لأي مادة للثرثرة ..
ابتسمت بفخر من نفسها وهي تكتشف في نفسها جوانب جديدة وتعترف لنفسها أيضًا  أن الأمر لم يكن بكل تلك الصعوبة التي تخيلتها ..
هي فقط لحظات الدخول الاولى التي أرهبتها ثم بعد ذلك تلاشى خوفها تدريجيًا بمرور الوقت وانغمست في محاضراتها وتحصيل ما فاتها ..
" الحمد لله .. اليوم مر على خير "
تمتمت بها سندس وهي تجلس جوارها فوق مقعد أمام بوابة الجامعة  فنظرت لها رغدة بانتباه لتبتسم لها سندس قائلة بتشجيع :
" لقد أجدتِ  إيقاف المتطفلين عند حدهم .. للحظة لم أتعرف عليكِ يا فتاة .. من أين لكِ  بهذه القوة المفاجئة ؟!! "
ابتسمت رغدة دون رد وعقلها لا ينفك بتوقع رد فعل صخر ما أن يعرف بأنها ليست تلك الضعيفة الجبانة التي كان يتحدث عنها البارحة وأنها تُجيد الأخذ بثأرها لكنها لا تميل للشجار والقسوة ..
" لماذا تبتسمين كالبلهاء هكذا ؟!! "
ألقت سندس سؤالها ضاحكة فلململت رغدة شفتيها بنزق و قالت بتهكم لا يخلو من العجب :
" منذ متى وأنتِ  منفتحة في الحديث هكذا ومقبلة على الحياة يا سندس ؟!! .. أنتِ  في العادة أقرب إلى أرملة أربعينية تكره الرجال "
اهدتها سندس ابتسامة صفراء وهي تكاد تخرج لها لسانها بطفولية فتعجبت رغدة أكثر لتسألها بنبرة أكثر جدية :
" لا ، حقًا .. ما الذي يحدث معكِ ؟!! "
زفرت سندس ثم قالت بتلقائية :
" لا أعلم .. كل ما في الأمر أنني شعرت فجأة أن الوقت يمر بي ولا يزيدني إلا مرارة ، و كأن عقارب الساعة توقفت عند حادث معين ولم تتزحزح من وقتها ، لم أكن راضية لكني لم أرغب بالتحرك وتغيير وضعي "
صمتت قليلاً ثم استطردت بملامح حزينة :
" إلى أن توفي خالد بهذا الشكل المفاجئ .. شعرت أن وفاته صفعة لي لأستيقظ وأعلم أن العالم لن ينتظرني لأعرف قيمة ما أملكه ، كما أنني........ "
صمتت فحثتها رغدة حتى تكمل ليخرج صوتها بعد عدة لحظات بنبرة بها بعض الضعف :
" بت أستعيد مشاهد من حياتي السابقة مع بِشر في الآونة الأخيرة .. مشاهد معادة لي لكني أراها بزاوية مختلفة .. أشعر كما لو أن عقلي قد كان يحجب بعض الإشارات من الغضب "
لتضيف في النهاية و هي تواجه نفسها بتلك الجملة مسموعة لأول مرة :
" أنا أخطأت كما أخطأ بِشر .. تهورت وسرت خلف حقير لا يريد لي غير الأذى فتأذيت ثم ألقيت الذنب كله على بِشر "
نظرت سندس لعيني رغدة ثم فضفضت بصوت يكاد يُسمع :
" أنا أحب بِشر يا رغدة ولن أحتمل خسارته أبدًا  .. أتعلمين رغم أنه لم يكن يقترب مني منذ الحادث إلا أنني كنت أشعر بوجوده دائمًا  حولي ، كنت أدرك أنه لم يبتعد رغم صراخي المستمر في وجهه حتى يختفي من حياتي "
ضحكت و دمعة تفر من عينها دون أن تدرك حتى :
" كنت أصرخ بأعلى صوتي وأنا لدي يقين كامل أن أذنه تضيف كلمة ( لا ) قبل ارحل .. كنت أدرك أنه لن يعطيني ظهره أبدًا  مهما تطرفت لذلك حين شعرت أن اليأس بدأ يزحف إليه ارتعبت وتكركب عالمي فوجدت نفسي أركض إليه هو بالأخص رغم أنني لا أنفك و قول إنه هو مصدر وجعي "
" رباه .. أنتِ  تعشقينه "
همست بها رغدة بانبهار فنظرت لها سندس بانتباه وكأنها قد كانت نسيت وجودها تمامًا فضحكت بخفة و مسحت وجهها ثم همهمت بمكر :
" و أنتِ  ! .. بتِ تتوردين كلما رأيتِ  أخي أو أتت سيرته في الكلام "
ابتسمت رغدة ببعض الاستهزاء فيما ظهرت المرارة جلية في نبرتها وهي تقول :
" تتكلمين وكأنكِ لا تعلمين سبب ارتباطنا الحقيقي يا سندس "
كادت سندس أن ترد عليها لكن صوت كريه كصاحبه اقتحم جلستهم مهمهمًا بسماجة :
" انظروا من عاد إلينا ! "
التفتت الفتاتين وقطبن تلقائياً ما أن رأين وجه لؤي الذي غمز لرغدة قائلاً  بوقاحة جمة :
" عودة حميدة يا دمية .. لقد سمعت أنكِ ارتبطتِ وجئت لتهنئتك .. أنا لم أصدق للحظة ما قيل وكُتب عنكِ ، لكن خاتم الخطبة هذا يقول عكس ذلك "
لم ترد رغدة عليه وتجاهلته كعادتها بينما تمتمت من بين أسنانها :
" أنت لن تتوقف إلا بعد أن ..... "
قاطعها لؤي قائلاً  بصوت لا مبالي :
" هل تحدثت معك أيتها المعاقة أم أنكِ  تشعرين بالغيرة لأن صديقتكِ من أعجبتني وليس أنتِ  ؟!! "
" من دعوت بالمعاقة ؟!! ... ومن تلك التي أعجبتك يا ابن عزام ؟!!! "
والصوت المتحفز خلفه جعله يلتفت ليجد أمامه هيئة  قد تبدو لوهلة عابثة من الخارج بذلك المعطف الجلدي الاسود وذلك الشعر الطويل المجموع للخلف كذيل حصان صغير لكن العينين الغاضبتين كانتا أبعد ما تكون عن العبث أو الضعف لذلك لم يجد لؤي أي فرصة للتعرف على من يقف قبالته إذ باغته بِشر بلكمة أقل ما يُقال عنها أنها وحشية جعلته يسقط أرضًا فتشهق رغدة وتنهض سندس مصدومة من حضوره المفاجئ بينما كان بِشر في عالم آخر فيميل ويكيل للؤي اللكمات وكلمة معاقة تضرب ثباته بسوط الجنون :
" بماذا دعوتها ؟!! .. أخبرني هيا "
اجتمع بعض المارة من الطلبة يفرقون بينهم بينما توقفت سيارة صخر فينزل منها ويركض تجاه التجمهر الذي لمح رغدة وسندس يقفن عنده ليجد بِشر ممسكًا بابن عزام ويكيل له اللكمات بلا توقف فيبعده عنه بحدة محاولاً فهم ما يدور غافلاً تمامًا عن عينين ناقمتين تراقبه عن بُعد ويهمهم صاحبها لمن يجاوره :
" ها قد جاء "
" هل ستطلق عليه الآن ؟!! "
فتلتمع العينان بالمزيد من الكره ويتمتم صاحبها بهسيس :
" لا .. ليس الآن ، ليس قبل أن يمر بما مررت به أولاً  ، سأجعله يتذوق معنى الفقد بشكل مباغت وبعدها قد أقتله وقد أتركه ليقتل هو نفسه .. هو الآن لا يزال تحت تأثير ما فعله به السيد عزام وينتظر الضربة الجديدة في أي وقت لذا سأتركه حتى يطمئن تمامًا و بعدها قسمًا  بمن في سابع سماء لأحرق قلبه على من يحب "
" والسيد عزام ؟!! "
ابتسامة مستهزئة ارتسمت على وجه الغريب الذي همهم وعيناه لا تفارق هيئة صخر :
" السيد عزام يحارب الآن لإنقاذ نفسه من السجن ولا يعي لشيء "
عم الصمت للحظات ثم خرجت حروفه مدعمة بالكره والسخط :
" أما هذا .. فسأجعله يودع أحبابه قريبًا جدًا "

عدو في المرآة  .. الجزء الثاني من سلسلة قلوب تحت المجهر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن