٤- حيث نلتقي، من عالم الأرواح...

77 16 21
                                    


رأيته في منامي.. حارتنا التي سكنا بها طويلا منذ طفولتي غارقة بظلام شديد، و فجأة ظهر نور ساطع أضاء المكان.. هبَّ نسيم عليل مع اقتراب ذلك الضوء.. رأيته أبي متوهِّجاً كمصباحٍ دافئ.. رأيته يسير بجانبي نحو مسجد الحَي و خلفه عدد كبير من رجال البلدة كأنه يقودهم.. لا بل إنهم يشيعونه!!

هنا استفقت من منامي الذي دام لثوان قليلة و لساني يردد دون وعي مني: (رحمة الله عليك يا والدي..)..

إنه اليوم السابع عشر منذ أن وصلني خبر مرض والدي الشديد و أنا في بلاد الغربة، أساليب الاتصال محدودة و مكلفة جدا و بصعوبة تمكن زوجي من التواصل مع أهلي و استطعت محادثتهم، و رغم أن صوتهم لم يكن واضحا و الفوضى عمت اتصالنا القصير إلا أنني ما زلت أذكر كلمات والدي التي قالها لي مكافحا آلام جسده التي منعته من الحديث لأيام:

- اشتقت اليك يا ابنتي، لم أستطع النوم و أنا أفكر بك.. عودي لكي ارتاح..

لم أتمكن من الصمود امام تلك الكلمات المبعثرة بسبب سوء الخدمات و تركت زوجي يتولى مهمة التفاهم معهم، ذهبت إلى فراشي لألُفَّ جسدي في لحاف القهر و الإحباط مُتهَرِّبة من ألم الضمير لِكَوني سبباً في آهات أبي، و حاولت النوم لعَلِّي أصِل بروحي إليه و أجد نفسي في ذلك المنامٍ الغريب و أنا أترحم عليه دون ان ادرك، لكن زوجي طمئنني بأنه بخير و ينتظر عودتي..

أيامٌ تمضي ببطء.. عقارب الساعة أصبحت أثقل و تفكيري متوقف عند هالة الضوء تلك، و في هذا البلد اللعين حيث يجعلون الامور أصعب عليك عدنا خلال عشرة أيام لأمُرَّ أخيراً بحارة أحلامي..

استقبلني أهلي بحرارة و حفاوة و بهجة و أخبروني ان والدي مسافر لمدينة أخرى حيث يقبض راتبه و سيعود غدا مع عمي جمعة، صدقتهم ليس لأن عذرهم مقبول بل لأنني ببساطة حاولت الاقتناع بأن والدي بخير فرائحته ما زالت على الجدران و في غُرَفِ المنزل..

رغم أنني لم اجد أحذيته على رفوف الأحذية.. لم أجد ملابسه معلقة في خزانته.. و رغم انني لمحتُ اليُتْمَ على وجه اخي الصغير.. ما زال الأمر غير مقبولا، فأنا فتاة أبي المدللة.. أنا من كنت أنام بحِضنه و يحملني بذراعيه مع أنني أمٌّ لطفلتين.. أنا الوحيدة التي كنت أدفعه للبكاء حين أسافر لبلاد الغربة.. أنا وحدي من أوجعته لعدم وجودي بجانبه في لحظاته الأخيرة و هو يهذي باسمي و يراني في باقي بناته!!..

أبي سَيَحِجُّ بعد شهر، اشتريت له الكثير من الملابس لكي لا يشعر بالحر في مكة فوالدي يكره الحر، عرضت الملابس على أهلي بفخر و علَّقتها في خزانته الفارغة و أنا أغني سراب العودة للوطن بانتظار رؤية أبي..

لكن الغد حَلَّ و لم يَحِل، و رأيت البقية حائرين خائفين حول من سيوصل الخبر أو بالأحرى من سيؤكده، لكنني لم أتأكد حتى عند رؤية قبره و حين تلقيت تعازي أهل بلدتنا، لم أتأكد حتى بعد مرور ثمانية عشرة عاماً!!

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

لكن الغد حَلَّ و لم يَحِل، و رأيت البقية حائرين خائفين حول من سيوصل الخبر أو بالأحرى من سيؤكده، لكنني لم أتأكد حتى عند رؤية قبره و حين تلقيت تعازي أهل بلدتنا، لم أتأكد حتى بعد مرور ثمانية عشرة عاماً!!

رأيته في منامي.. شاحنة أبي التي كان يَكسِبُ رزقه بها، سارَ بجانبي، صدمني، أوقعني و أثارَ غباراً كثيفاً حولي.. رأيته أبي امامي و قد ارتجل من شاحنته و اقترب مني، أمسك بيدي و ساعدني على النهوض و هو يقول بألم: ( هل آلمتُ ظهرك يا ابنتي؟! سامحي آباك، لم أقصد آذيتك..)..

مات أبي ليترك خلفه عائلة مشتتة تاهت و انقسمت.. أطفالاً تعثروا و آخرين تحطموا في طاحونة الزمان لتنقطع علاقاتهم، و مِنْ بين جميع مَنْ بالكاد حافظتُ عليهم، تبقى علاقتي الأقوى بوالدي الذي لم يعد موجودا في هذا العالم، يطلبني إن تأخرت بزيارته.. يعاتب زوجي إن حدث خلاف بيننا، ينصح أطفالي إن أتعبوني، يضرب اخوتي إن آذوني، و يشكر من يحسن إلي.. و كل هذا من عالم الأرواح..

(إن أخبرتك فتاة أنك حبها الأول فلا تصدق، فما حب الفتاة الأول إلا أبوها، حُبٌّ لا يخذل، لا يهجر، و لا يذبل مهما طال الزمان..)

)

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.
ما لن يكتمل..حيث تعيش القصص. اكتشف الآن