٦- ما بقي و ما رحل..

65 14 16
                                    

( ها قد مضت سنة، يوم بعد يوم اجتمعت الأيام ليمر عام كامل، و كل يوم أسمع نفس الجملة:

- اصبري.. تحملي.. لا تحزني... كل شيء سيكون بخير..
من السهل أن تنصح الناس بالصبر و أنت لا تشعر بآلامهم، أن تخبرهم بأن يتحملوا و أنت لا ترى جراحهم، الأيام عادية بالنسبة إليكم، لكن أنا من بقيت أعدُّ الثواني و الدقائق ليمرَّ ذلك اليوم علَّ اليوم الذي يليه يكون أفضل، علني القى صغاري مرة أخرى، و حين تغيب الشمس و ينام الجميع بعمق و اطمئنان و أنا أراقبهم كخفاش وحيد، و حين أتأكد من أنهم لا يشعرون بي أبدا، بأن كلماتهم مجرد تصبيرة و مواساة، حينها أبدأ بجمع آخر ذكرياتهم معي، ملابسهم التي احتفظت بها بعيدا عن أعين أبيهم، أضعها على صدري و أشتم عبيرها لأتخدر بفعلها و أنام و دموعي على وجهي، لأستيقظ في منام قصير و هما بجانبي مرة أخرى..

من السهل أن تنصح الناس بالصبر و أنت لا تشعر بآلامهم، أن تخبرهم بأن يتحملوا و أنت لا ترى جراحهم، الأيام عادية بالنسبة إليكم، لكن أنا من بقيت أعدُّ الثواني و الدقائق ليمرَّ ذلك اليوم علَّ اليوم الذي يليه يكون أفضل، علني القى صغاري مرة أخرى، و حين تغ...

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

بعد حادثة اختفاء والدي بسنة باتت أسرتنا أكثر تشتتا و ضياعا و أصبحت ظروفنا اصعب، فمع مرور الوقت نسينا رفاق أبي الذين حاولوا إعالتنا ماديا و يئسوا من عودته فتخلوا عنا، اضطررنا لبيع المنزل و الانتقال وسط استهجان الناس لنا بأننا تخلينا عن آخر أمل لنا بعودته ببيعنا منزله و تركنا جدتي في منزلها الرث القديم، لكن لا خيار آخر فنحن بحاجة لأن نعيش أيضاً...

أنا اسمي آسيا، ابنة العم جمعة الكبرى، هل تذكرونه؟ لعلي أكون أنانية بقولي بأنني أول ضحية لاختفاء أبي، كنت عرضة لقسوة أخي و عنفه، و ضحية لتقلبات مزاج والدتي و حدتها، لا ننسى ألمي النفسي و قلقي بسبب اختفاء والدي المفاجئ و تقلُّبِ حالنا الصادم من النِّعمِ و الدلال إلى الحرمان و الإذلال، فنحن من كنا نملك كل سُبُلِ الراحة و الاستقرار فقدنا كل شيء بين ليلة و ضحاها بعدما فقدنا أبي العزيز..
و في النهاية اصبحت أنا التضحية التي قدمتها امي ليعيش باقي إخوتي بسلام، أنا فتاة جميلة جدا، أشاد الناس بأسرهم لجمالي مما جعلني ألفت الأنظار، تقدمت عائلة غنية لطلب يدي لكنني رفضت لأنني كنت صغيرة و خفت منهم، لكن أمي اقتنعت حين عرضوا عليها مبلغا كبيرا من المال..
(ستعتادين، إنها مسألة وقت لا أكثر..) و بهذا الكلام استسلمت..

تم تزويجي لتلك العائلة مقابل مبلغ أعالت عائلتي الفقيرة لفترة، لن أتحدث عن الجحيم الذي عشته مع زوجي بل الجحيم الذي عشته بعده، حدث خلاف بيننا و حصلت على طلاقٍ تقليدي، حرمني زوجي من رؤية طفليَّ الجميلين، كانا ولداً و بنتاً، آخر مرة رأيتهما حين بدلت ملابسهما ليأخذهما عمهما لحديقة الألعاب، و حين جرَّني زوجي لبيت أبي ليرميني هناك "سرقت" ملابسهما المتسخة كما قالوا عني..

حاولنا التفاهم كثيرا لكن لا فائدة، كانوا عائلة قوية و عنيدة و نحن فقراء مساكين، مع مرور الوقت تغيرت معاملة إخوتي لي نحو الأفضل فهم جميعا يشعرون بالمسؤولية تجاه ما أصابني لكن ندمهم لم يرجع إليَّ اطفالي، مررت بلحظات ضعفٍ كثيرة لكنني لم أستسلم و دعوت الله بأن يعوضني بخيره، دعوته طويلاً..

بعد مرور خمس سنين على ذلك تزوجت مرة أخرى من ابن عائلة طيبة جدا، أحبوني و احترموني و لم يحرموني من شيء، رزقت بطفلٍ جميل أولَيته محبتي و اهتمامي، و أخيرا حملت مرة اخرى بتوأم، انه الشهر السابع و أنا متشوقة لرؤيتهما، الحمد لله الذي عوضني خيرا بلطفه و كرمه، بزوج صالح و عائلة مستقرة، أرجوكم ادعو لي بأن يكون توأمي بنتين.. )...

هذه كانت آخر جملة سمعتها من آسيا في آخر اتصال بيننا، تعرضت آسيا لحادث و سقطت من شرفة منزلها من الطابق الثاني، و بعد غيبوبة دامت أقل من أسبوع توفيت هي و صغارها...

هذه كانت آخر جملة سمعتها من آسيا في آخر اتصال بيننا، تعرضت آسيا لحادث و سقطت من شرفة منزلها من الطابق الثاني، و بعد غيبوبة دامت أقل من أسبوع توفيت هي و صغارها

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

نعم.. رحلت آسيا و دُفِنت مع طفليها اللذين حملتهما في بطنها، و الآخرين اللذين حفظتهما في قلبها، و آخرَ يتيم الأم، لعلَّها اختفت من الوجود لكن ثمرة معاناتها لم تختفي، و أنات ألمها الذي كابدتها كل ليلة في شوقها لأطفالها تعزف في ذاكرة إخوتها باستمرار، و ملابس أبنائها الذي احتفظت بها بجانب سريرها ما زالت على حالها.. و الغصة التي شعرت بها و هي تروي لنا مشاعرها المشتتة محفورة في عقولنا.. هناك ما أخذته معها، و هنا ما أبقته لنا..

(و سلوى المظلوم ان هناك آخرة يحاسب فيها الجميع على أفعالهم و يعوض فيها عن مواجعه..)

ما لن يكتمل..حيث تعيش القصص. اكتشف الآن