9- الطريق الذي اعتدت عليه

35 11 13
                                    

اعتدت على مراقبته و هو يغيب.. على حفظ مشيته.. رائحة عطره.. و عدد حبات التراب التي تتطاير مع خطواته في الطرق غير المعبدة..
اعتدت على معانقة تلك الزاوية في منزلنا الصغير، تلك الزاوية التي تكونت بين جدار صخري قديم و الصفائح المعدنية حيث الجدار الخارجي لبيتنا، حفظت توقيت عودته كل يوم فبتُّ في لهفة لاستقباله من الأفق الواسع.. لاستقباله بعيني البنيتين الكبيرتين.. و حين يقترب و يلحظ لمعانهما يبتسم و يلوح لي من بعيد.. و حين يصل يفتح لي ذراعيه و يعانقني بحنانه الفياض..

اعتدت على البكاء مع كل مرة يتأهب فيها لمشوارٍ صغير، و اعتادت أمي ان تقيدني بشجرة التوت الكبيرة في فناء بيتنا لتمنعني من اللحاق بأبي و هو يغادر متجاهلاً صرخاتي

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

اعتدت على البكاء مع كل مرة يتأهب فيها لمشوارٍ صغير، و اعتادت أمي ان تقيدني بشجرة التوت الكبيرة في فناء بيتنا لتمنعني من اللحاق بأبي و هو يغادر متجاهلاً صرخاتي.. لا أدري لم كنت اصرخ؟ و لم كنت أبكي؟ أخوفاً من أن يصيبه مكروه؟ أم خوفا من تأخره؟ و ربما خوفا من أن يُطعم أسماك بركة المسجد بمفرده!!

ككل يوم آخر غادر والدي و علقت أمي معي في نوبة الصراخ تلك، و قيدتني بقماش ناعم إلى شجرة التوت، لم تكن عقداتها محكمة، و لم يكن وثاقها مشدودا.. كانت فقط تخدعني لأهدأ، و لقد اكتشفت حيلتها مؤخرا، فانتظرت إلى ان غابت عن ناظري، و تحررت من قيودي و خرجت من المنزل، و في نفسي قررت ان اتبع آثار والدي نحو المسجد..

مررت بجانب بيت جيراننا، لا أحب الخالة سوزان فهي دائما ما تضربني و تعاقبني بقسوة رغم ان والديَّ لم يسبق لهما ضربي، لكنني أحب البنات هناك، و وقفت امام الباب و أنا افكر.. الطريق طويل إلى المسجد و سأشعر بالملل، لربما كانت فكرة اصطحاب احداهن أمرا ممتعا و جيدا..

كنت احاول اقناع سَنا بمرافقتي، و حين لمحتني امها و أنا أتمشى وحدي في حر الظهر فركت أذني و صفعت رأسي و غضبت مني لكي أعود للبيت و طردتني بوقاحة..

غضبت كثيرا من تصرفها و حنقت عليها بشدة، و سمعت صوت بكاء سنا من خلف الجدار و ادركت انها عوقبت أيضا، فقررت انقاذها من أمها الشنيعة، و تسللت هذه المرة من شرخ في الجدار بين منزلنا و منزلهم و أقنعت الفتاة بمرافقتي.. في الحقيقة لم اقنعها بل امسكت بيدها و اخذتها معي...

من بين الشرخ الكبير في أعواد الخيزران تسللنا إلى الخارج، و سلكنا الطريق الذي حفظت خطوات أبي عليه، سنا تبكي من الخوف و الحيرة.. و أنا سعيدة لأنني أخيرا سأهدي أبي زيارة مفاجئة و اشكوه قسوة الخالة سوزان و أمي..

تجاوزنا حدود القرية و وصلنا إلى الشارع العام حيث السيارات تسير بأقصى سرعة، هناك قابلنا شابا كان يصلي خلف والدي و يبدو أن تعرفني.. الجميع يعرفني صراحة.. فوالدي أشهر رجل في القرية و أنا اكثر أطفالها حركة و صياحاً و شغباً، و مع اهتمام والدتي بمظهري و تسريحة شعري المميزة التي كانت تعقدها لي كأذان أرنب صغير.. كان الكل يعرفني من ظلي..

- ألست ابنة الامام؟ يا ويلي!!!! ماذا تفعلين هنا؟

- أتيت لرؤية أبي و لأطعم الأسماك..

و هكذا امسك بيدينا أنا و سنا، و أخذنا إلى المسجد حيث صلاة الظهر..

- سنا سنا لا تبكي.. سيشتري لنا والدي الحلوى..

كان الصوت الوحيد في تلك القاعة الكبيرة يصدر مني، في حين غاب الرجال في روحانية تلك الصلاة، و صمت الجميع مستشعرين حضور تلك الطاقة القوية.. كنت أنا الوحيدة التي قاطعت ذلك الهدوء، و لما سلَّم أبي و شاهد ظِلَّ شعري، و ما إن أكمل سلامه الثاني حتى ركض مسرعاً ليتأكد وسط صدمة الجميع و دهشتهم و لسان حالهم يقول:
- (ما الذي جاء بفتاتين بعمر الثالثة إلى هذا المكان البعيد؟ )
لكن والدي لم ينصدم كثيرا لأنه يعرفني.. و يعرف انه ابنته ستسلك أقسى الطرق و أقصاها لتصل إليه، و الحمد لله لم يعاقبني و لم يغضب، لكنه لم يشتري لنا الحلوى للأسف..

لمرات عديدة تبعته، في أماكن عديدة تُهْتُ و ضعت باحثةً عنه، و حتى الآن ما زلت كذلك، ما زلت اسلك نفس سبيله لينتهي بي الحال في نفس مشاكله، و اتعثر بنفس خطواته لأهوي في الحفر التي غابت عنه، و ربما ضاعت معظم أمنياتي كما ضاعت أمنياته

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

لمرات عديدة تبعته، في أماكن عديدة تُهْتُ و ضعت باحثةً عنه، و حتى الآن ما زلت كذلك، ما زلت اسلك نفس سبيله لينتهي بي الحال في نفس مشاكله، و اتعثر بنفس خطواته لأهوي في الحفر التي غابت عنه، و ربما ضاعت معظم أمنياتي كما ضاعت أمنياته.. لا أدري لِمَ لَمْ اتعلم منه طرق تفادي الأزمات؟! و لِمَ لَمْ أتعلم من أخطاءه التي لا اجد عيباً من الوقوع فيها علني انجو بطريقة أو بأخرى عكسه!!! و هو.. هل هو سعيد برؤيتي أسير على دربه؟ أم انه يخشى علي من مُرِّ الزمان كما حدث معه؟ هل سيكون سعيدا إن اجتزت العقبات التي عجز هو عنها؟ أم يريد مني أن ابني عالمي بمواد مختلفة؟
هل أنا مخطئة بامتلاك نفس أحلامه؟ هل كنت فتاة ضعيفة اختبأت في ظل أبيها، أم كنت فتاة شغوفة و معجبة كبيرة فتناسيت الاحكام و المواعظ؟!

و هل من الخطأ أن نسلك نفس سبيل كبارنا؟ أم اننا نكون مميزين بأحلامنا و آمالنا فقط؟

أنا التي لم أجد مانعاً من منح آبائنا فرحة إنجازنا أموراً لم يقدروا عليها، لربما فقدت لذة التميز، لكنني في الوقت ذاته أشعر أنني تفرَّدت بسعادتهم... و انتم.. سبيل من سلكتم؟ و من هو قدوتكم الكبرى؟! أنفسكم؟ أم أناس تعلمتم منهم المشي مثلي؟

 سبيل من سلكتم؟ و من هو قدوتكم الكبرى؟! أنفسكم؟ أم أناس تعلمتم منهم المشي مثلي؟

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.
ما لن يكتمل..حيث تعيش القصص. اكتشف الآن