ذكرى بائسة

9 0 0
                                    


عن أيّ ألم يتحدّث؟! هل هناك فصولٌ لا أعلمها حقًّا عن حياة من أنجباني؟! هل أخفى والدي عنّي حقائق كان ينبغي عليّ معرفتها لكنّه أراد منّي تجنّبها لكيلا أكون ضحيّة للألم؟!

وسمعتُ كلاي يتابع الحديث وفي صوته تردّدٌ واضح:

- لقد كانت والدتك تريد ... تريد ....

سكت، وتابع بنبرة حائرة:

- لا أعلم كيف سأقولها، ولا أدري كيف سيتقبّل قلبك الحقيقة الموجعة!!!

زادت سرعة نبضات قلبي، ولم أهتم وقتها بما سيقوله رغم توتّري وخوفي مما سأسمعه. وطلبت منه المتابعة، ووعدته على مضض بأنّي سأكون صابرًا! وتابع بنبرة مليئة بالتّردّد:

- تريد ... قتلك .... يا أحمد!

شعرتُ بأنّ العالم كلّه قد هبط على رأسي وحطّمني، ثم ابتلعتني الأرض إلى سجّين، في الأرض السّابعة. وعادت بي الذّاكرة إلى ليلة الأمس، حيث مكالمته مع تلك السيّدة؛ أيعقل أنّها كانت والدتي؟! صرختُ بعد أن ذرفت عيناي الدّمع:

- إنّك تكذب! كيف لي أن أصدّق مثل هذه الخرافات؟ كيف للأم أن تقرّر قتل فلذّة كبدها؟

وأردفتُ بعد لحظات بصوت منفعل:

- هل كانت السيدة، التي أمرتك في مكالمة البارحة، بقتلي، هي والدتي؟!

كانت ردّة فعله مستفزة كعادته، إذ أنّه عاد إلى صمته، وأشاح بنظراته إلى الأفق البعيد، إلى نجمة تلمع في السّماء. كانت هي النّجمة الوحيدة اللافتة بين مئات النّجوم فوقنا.

وكنتُ أتألّم في داخلي؛ إنّ ندوب فؤادي كثيرة وجروح روحي غفيرة لا تلتئمُ. وانتظرته، فطال انتظاري. وطلبتُ منه أن يخبرني بالكثير، ولا يتركني في حيرتي وألمي! وذرفت دمعة من عيني!

أجابني وكأنّه يعاتبني:

- أخبرتك بأّلا تتعجّل على ألمك، لكنّك أبيْت.

قمت بالرّد عليه وفي داخلي كبرياء عميق:

- ومن قال لك بأنّني تألّمتُ؟ تابع حديثك.

ضحك، وقال:

- استعد لما سأقوله لك، صدقني، ستتخلّى عن كبريائك رغمًا عنك!

وعاد إلى صمته المزعج. وبعد دقائق، قطع كلاي صمته، قائلًا:

- لقد كانت والدتك فيما مضى مدمنة مخدّرات، وكان أيضًا والدك مدمنًا لكنّه كان يستطيع أحيانًا السّيطرة على انفعالاته. وفي لحظة ما، وقعا في المعاشرة الحرام، في وقت كانا قد غابا فيه عن وعيهما بسبب هذه الآفة. وبعد مرور ...

توقّف عن متابعة حديثه حينما سمع صوت أنفاسي المتسارعة من فرط الصدمة الموجعة. يا الله، إنّ عقلي لا يحتمل سماع مثل هذه المواقف؛ أيعقل أنّني نتاج لحظة محرّمة وابن مدمنيْ مخدّرات؟! أكاد أجن! ربّي، ثبّت عقلي في مكانه واحفظ وعيي من التّلاشي؛ أريد استيعاب ما حصل لكي يرتاح عقلي.

زفر كلاي، وتابع الكلام:

- وبعد مرور زمن، تفاجأت والدتك بأنّها حامل بك! كانت تظن بأنّها عقيم؛ لأجل ذلك لم تغتم لما حصل بينها وبين والدك في وقت الفعل المحرّم. لقد جُنّتْ بسبب الحمل؛ كادت تريد إجهاضك لولا تدخّل والدك الذي منعها. أخبرها بأنّ الجنين في الشّهر الرّابع، حيث أنّها لم تشعر بوجودك في بطنها إلّا حين نُفخت فيك الرّوح في ذلك الشّهر!

وأردف بنبرة تعجّب وإجلال:

- يا لعجيب أقدار الله!!!

وعادت نبرته طبيعية وهو يتابع سرد الماضي:

- وأخبرها والدك بأنّه سيتدبّر أمر الولادة، وسيتصرّف بشأن الجنين في حينه. واقترح عليها بأن تقوم بتأجير شقّة تقيم فيها بعيدًا عن أعين النّاس، وعن نظر عائلتها التي لم تكن تسأل عنها أو تهتم بها إطلاقًا، وهم منشغلون أصلا بتجارة المخدرات. وعندما جاء يوم ولادتك، ذهب والدك مع والدتك إلى مكان يعرفه، يوجد فيه نساء يقمن بعملية الولادة التّقليديّة، مقابل مبالغ ماليّة. وحصل ما حصل!

كنتُ واجمًا مصدومًا وأنا أستمع إلى تلك الذّكريات البائسة. لم أعلّق على شيء، استسلمتُ لقدري، خضعتُ لقضائي بيأس. لا شيء يمكنني فعله حيال حياتي. أنا مجرّد نكرة، مجرّد شيء حقير خرج إلى الدّنيا في لحظة انعتاق عن الوعي من قبل رجل وامرأة لم يكونا مسؤولان عن تصرّفهما!

تابع كلاي:

- وبعد يومان، لم تتحمّل والدتك بكاءك العالي، فحاولتْ خنقك بواسطة الوسادة الصّوفيّة. ولحسن حظّك أنّ والدك كان في تلك اللحظة تحديدًا، في طريقه إلى الشّقّة المستأجرة ليطمئن عليك. وحينما دخل، رأى والدتك تفعل بك ما فعلت، فطاش عقله، وانقض عليها، فصفعها بقوه، وصرخ عليها لكنّها لم تلزم الصّمت، ردّت على والدك بصوت أعلى، ففقد والدك رشده كُلّه، فقام بضربها حتّى أغمي عليها. لقد ضربها بكل شيء سقطت عيناه عليه. تركها بدمها وهو يسيل حول رأسها، ثم اتسع تدفق الدّم إلى منتصف جسدها الخامد على الأرض!

لم أحتمل سماع هذه القصّة، فوضعت كفّاي على رأسي. أشعر بأنّ عقلي سيقفز من رأسي. سأتمسّك به؛ لا أريد أن أصبح مجنونًا أو مختلًّا. سأبقى ممسكًا برأسي ريثما ينتهي كلاي من سرده. هكذا سأكون في أمان من الجنون!

أوْصِدْ البابَ جيّدًاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن