مقابلة عمل

31 3 0
                                    


حاولت "إيناس" التغلب على توترها وهي تدلف إلى تلك البناية الفاخرة حيث تنتظرها مقابلة عمل هي في أمس الحاجة إليه. وقد وقفت في انتظار المصعد ليقلها إلى الدور الثالث وهي تأخذ شهيقا عميقا وتزفره بهدوء.
إستقبلتها سكرتيرة متأنقة بابتسامة روتينية فاترة وأعطتها استمارة طلب التوظيف لتملأها ثم أشاحت بوجهها عائدة إلى الهواتف التي لم تتوقف عن الرنين.
دارت عيني "إيناس" في ردهة الاستقبال المزدحمة ثم توقفت عند مقعد في زاوية قصيّة منها، فاتجهت إليه وهي تدير بصرها متأملة المكان الذي يشي بالفخامة، تلك الديكورات الأنيقة واللوحات السريالية التي تتناسق بشدة مع البساط البديع الذي أجزم عقلها أنه بالتأكيد حرير إيراني.
إنكمشت في جلستها وهي تتفقد المتقدمين الآخرين لتصيب حلقها غصّة حين وجدت أن أكبرهم يصغرها بعشر سنوات على الأقل.
بدأت بملئ الاستمارة وهي تدعو الله في داخلها أن تنال تلك الوظيفة؛ فظروفها المعيشية حاليا تمر بأحلك أوقاتها، وشركة الاتصالات الجديدة تلك يبدو مستقبلها واعدا.
كان المتقدمون الذين سبقوها في الحضور يدخلون ويخرجون تباعا، بعضهم ممتقعي الوجه والبعض الآخر تعلو ملامحهم سيماء الراحة، فزاد هذا من توترها وتمنت أن يأتي دورها وينتهي الأمر حتى تتخلص من ذلك القلق الذي جعل أمعائها تتقلص ألما.
السكرتيرة: دلوأتي يا جماعة موعد الكوفي بريك.. ومستر "أحمد" مش حيعمل أي إنترڤيوهات لمدة ساعة.. اللي حابب يشرب حاجة يتفضل في كافيتيريا الستاف وينتظر واللي مرتبط بمواعيد يتفضل عندي لتأجيل موعد الإنترڤيو لبكره.
سرت الهمهمات بين الجميع وتدافع بعضهم إلى مكتب الاستقبال يستفسرون عن شئونهم بينما لمحت "إيناس" أحد الموظفين في زيهم الموحد يخرج من غرفة جانبية متجها للرواق إلى جوارها، فاستوقفته لتسأل: لو سمحت.. هي كافيتيريا الستاف منين؟
الموظف بابتسامة ودود: تعالي معايا.. أنا رايح أشرب قهوه أحسن خلاااص دماغي وِرمِت م العملا.
ضحكت وهي تسير إلى جواره قائلة: حرام عليك.. ده العملا كلهم ناس كيوووت.
الموظف: أيوه أيوه كيوت جداااا.. في منتهي الكايتته هههههه.
شرع الموظف يحيي زملائه وزميلاته المتوجهين فرادى وجماعات للاستراحة الواقعة في نهاية الرواق لتطلق "إيناس" شهقة انبهار حين دخلتها وهي تتطلع إلى النوافذ الزجاجية العريضة والشرفة الواسعة المطلة على أروع مشهد لكوبري ستانلي.
إستقبل العاملين بالاستراحة الجميع بابتسامات مُرحِبة وتعالت أصوات قرعات الأكواب والأطباق مختلطة بالمزاح والضحكات، فابتسمت وهي تقول لمرافقها: الشركه دي مدلعه الموظفين بتوعها آخر دلع.
الموظف: طيب قوليلي حتشربي إيه وزي الشاطرة كده تطلعي تلحقيلنا كرسيين في التراس عشان ممنوع التدخين جوه.
إيناس: إنت عرفت منين إني بشرب سجاير!!؟!!
الموظف: ههههه أنا كنت بتكلم عني أنا.. إنجزي حتشربي إييييه؟
إيناس: قهوه مظبوووووط.
الموظف: طيب يلا بسسسرعه.. كرسيين حلوين على أي ترابيزه بره واستنيني.
سارت الهويني وهي تجول ببصرها في المكان، تتطلع إلى البوفيه العامر بأصناف الكعك والمخبوزات وماكينات المياه الغازية، والعمال الباسمين الذين يُعِدّون المشروبات الساخنة، ثم خرجت إلى الشرفة الفسيحة التي تناثر على طاولاتها الموظفين، يتكلمون ويمزحون في صخب معتدل، فاختارت مكان بجوار سور الشرفة وجلست ترنو إلى البحر في شرود.
الموظف: طيب أنا لو فضلت أراقبك وانتي سرحانه في ملكوت تاني كده.. القهوة حتبرد.
قال هذا وهو يجلس قبالتها ويضع أمامها كوب القهوة مبتسما.
ضحكت وهي تشكره قائلة: وبتراقبني ليه بأه؟ إبتسم بغموض وقال وهو يمد يده بالسلام: عماد محمدي .. سوبرڤايزُر كاستمر سيرڤيس A.
بادلته المصافحة وهي تسأل: يعني إيه A دي؟
عماد: ماهو فيه قسمين كاستمر سيرڤيس.. A اللي بيتعاملو مع العملاء فيس تو فيس.. غالبا مديري الشركات وأصحاب المنشآت الاستثمارية والسياحية وكده.. و B دول ياعيني اللي بيطلع عينهم في الرد ع التليفونات..وانتي؟
أجابت: إيناس فاروق.. إنترڤيو كاستمر سيرڤيس هههه.
عماد: وليه حتعملي في نفسك كده يابنتي.. إنتي لسه صغيرة ع الهم ده.
ضحكت قائلة: ماهو ده لو كنت شايفاه هم.. إنما في رأيي إنه فن.
عماد: ده حيبأه التريند الجديد للديبارتمنت عندنا.. الكاستمر سيرڤيس فن مش عَنّ عَنّ.
إيناس: هههههه إنت بتتريق.. طيب صدقني دي الحقيقة.
هَمّ بالرد عليها لولا اقتراب شخص من الطاولة محييا إياهما وجلس إلى جوار "عماد" الذي بادر بتقديم أحدهما إلى لآخر قائلا: مستر أحمد جاد.. مدير شركتنا العظيم.. إيناس.. صديقتي وجايه الإنترڤيو النهارده.
أحمد: أهلا بيكي يا إيناس.
إيناس: إتشرفت بحضرتك يا مستر أحمد.
أحمد: عملت إيه مع مندوب شركة أمريكانا يا عماد؟
عماد: ده عيل سئييييل ورخم بجد.. وفاكر إنه حيفضل يقولنا لأ كده أتعاقد مع اتصالات.. لأ حتعاقد مع وي.. إنه بيلوي دراعنا يعني.
أحمد: بص يا عماد.. م الاخر كده أنا مش عايز العميل ده يروح مننا.. أنا عارف إنه رخم.. ده كلمني في الفون مره كان نفسي أسبّله واقفل السكه فوشه.. بس حاول.. أنا عارف إنك أدها وأدود.
عماد: ححاول يباشا.. ولو معرفتش إن شاء الله نوسه تعرف.
ضحك ثلاثتهم والتفت "أحمد" متفحصا "إيناس" وهو يخاطب "عماد" مبتسما: للدرجة دي واثق إنها حتتقبل؟ ولا عشان صديقتك يعني فاكرني بتاع واسطة وكلام من ده؟؟ لا يا حبيبي.. الصحوبية حاجة والشغل حاجة تانية.
حاولت "إيناس" إخفاء توترها فردت قائلة بمزاح: لا يا مستر أحمد.. أنا ألف شركة تتمناني.. خصوصا إتصالات أو وي.. بصوت مندوب شركة أمريكانا.
ضحكا لدعابتها فاستطرد عماد: وهو انا يعني لو كنت بتاع واسطة ولا متخيل إن ليك فالكلام ده.. كنت سبت الصدفة كده تعرفك بنوسه؟ أكيد كنت جيت قولتلك إن فيه حد تبعي جاي الإنترڤيو.
أحمد: أفحمتني يا عماد هههههه.. ع العموم أنا اتشرفت بمعرفتك يا إيناس.. وإن شاء الله تنوري ستاف شركتنا المتواضعة.
إيناس: ميرسي ليك يا مستر أحمد.
أحمد: السهره عندك ولا عندي النهارده يا عماد؟
عماد: عند شرييييف يا ريس.
أحمد: يوووووه.. حيصدعنا بأه بحكايات الهانم بتاعته.
عماد ضاحكا: ماهو كده كده مصدعنا بيها.. فأي مكان وفي كل وقت.. فمش فارقه بأه.
أحمد: على رأيك..إتفقنا يا معلم.. أشوفك بالليل بأه.
نهض محييا "إيناس" بابتسامة وهزة رأس، فردتهم إليه ثم التفتت إلى عماد سائلة: هي إيه حكاية نوسه وصديقتي والجو ده؟
إبتسم قائلا: حركة جدعنة مني.. توصية بسيطة وجاتلك على طبق من دهب.. إيه مش عاجبك؟
إيناس: لا عاجبني طبعا..بس ليه؟
إعتدل "عماد" في جلسته مشعلا سيجارة وقال في جدية: هزاري بخصوص إن التعامل مع الناس فَن كان فعلا هزار.. لأني مقتنع بالمبدأ ده حقيقي، ومقتنع كمان إن موظف خدمة العملا لازم يكون عنده سينس كده في فهم الناس.. وانا مابأيتش سوبرڤايزر عشان المدير صاحبي.. إنما عشان عندي السينس ده.. سميه فراسة.. حدس.. فهلوة.. المهم إني عارف إنك حتكوني Agent شاطرة.
إبتسمت "إيناس" خجلا وأجابته وهي تشعل سيجارة بدورها قائلة: أولا ميرسي ع الكومپليمو اللطيف ده.. ثانيا ميرسي أكتر على حركة الجدعنة.
عماد مبتسما: لا ميرسي على ديڤوار.
إيناس ضاحكة: أوووه.. تو پاغل فغانسيه.. تغي بيان.
عماد: ههههه لاااا.. أنا أخري في الفرنساوي بونچور وأورڤوار وچوتام وبس.. وطبعا چوتام هي أهمهم.
إيناس: آاااه قولتلي بأه.. شكلك كده مقطع السمكة وديلها هههههه.
عماد: أهي دي بأه قضية فلسفية عميقة ضروري نناقشها مع بعض ههههه.
إيناس: وماله يباشا.. ناقش براحتك.
عماد: ليه الراجل لما يبأه شبح في نفسه كده بيتقال مقطع السمكة وديلها؟ إيه علاقة السمك بالموضوع يعني؟ واشمعنى الديل مش فاهم هههههه
ضحكت "إيناس" وهَمّت بالرد حين قاطعها نداء إلى جوارهما.
: نوووووووسه.. مش ممكن.. إيه الصدفة الجميلة دي؟
إلتفتا سويا إلى مصدر الصوت ليجدا فتاة تتوجه إلى "إيناس" فاتحة ذراعيها عن آخرهمها لمعانقتها، فنهضت الأخيرة تعانقها قائلة: روووكا.. مش ممكن.. إنتي بتعملي إيه هنا؟
روكا: جاية للإنترڤيوهات بتاعة النهاردة.. وانتي؟
إيناس: هههه برضو لنفس السبب.. إستني أعرفك.. مستر عماد.. سوبرڤايزُر كاستمر سيرڤيس.. رقية.. جارتي وصحبتي.
نهض عماد مادا يده لمصافحة "رقية" التي خطفت بصره بجمالها الشرقي وبشرتها السمراء الرائقة وعينيها العسليتين.
عماد: من غير مستر ولا حاجه.. أهلا بيكي يا رقية.. بالتوفيق إن شاء الله.
أخفضت "رقية" عينيها في خفر وحياء وهي تجيبه: شكرا لحضرتك.
سرح "عماد" في هيئتها الساحرة وسيماء الخجل على محياها قليلا، ثم استفاق من شروده وعاد إلى مرحه ملتفتا إلى "إيناس" قائلا: حسيبكو بأه تقعدو مع بعض.. بريكي خلص ولازم ارجع المفرمة.
إيناس: ههههه.. تمام..ربنا يعينك.
عماد: حتطمنيني بعد ما تخلصي الإنترڤيو؟
إبتسمت مجيبة: لو انت حابب.
عماد: عارفه مكان مكتبي صح؟
هزت رأسها أن نعم وابتسامتها تتسع فاستطرد هو: يبأه مستنيكي.

حَــكَــايــا الــحــيــاةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن