انعكاس

103 8 2
                                    

   الإضاءة الخافتة بالكاد سمحت بالتمييز بين الأشكال الغامضة المتناثرة هنا وهناك. المكان بدا مألوفا بشكل غريب لكن… أين أنا؟ 

    كان الهواء مشبعا برائحة العتمة والرطوبة، ما أعطى الأجواء طابعا مقززا ومخيفا. الصمت الذي خيم على المكان لم يكن هادئا، بل كان مزعجا وخانقا للنفس. الشعور مماثل لصخرة جاثمة بكامل وزنها فوق صدره، مضيفا لانزعاجه انزعاجا. 
عند تقلص حدقتي عينيه وتكيفها مع شدة إضاءة الغرفة، أصبح محيطه أكثر وضوحا. ليس بشكل كلي، لكن عندما نظر حوله بعناية، انتبه إلى تواجد مرايا مصطفة بشكل دائري حوله. كانت تعكس صورته بشكل متعدد، مما أضفى على المكان بُعدًا غريبًا وغامضًا.
أما الجدران المحيطة به، فكانت مصنوعة من حجر أسود متين، وكانت محفورة بنقوش غامضة تشكلت على شكل رموز ورسومات غريبة. لم يتمكن من تفسير معنى هذه الرموز مهما حاول عصر دماغة لفهم أين يمكن أن يكون قد رآها من قبل.

    فوق كل واحدة من المرايا، كانت تقبع مجسمات أمكنه التعرف عليها على أنها واحدة من القطع الفنية والتحف النادرة والباهضة التي تزين أركانا مختلفة من قصر العائلة الكبير. ما الذي أتى بهذه إلى هنا؟

 تأمل مطولا وتمكن من اكتشاف أن كل مرآة تعكس صورة مختلفة عن الأخرى. وكانت الصور تظهره بوجه مختلف في كل مرة، مما أثار فيه دهشة وتساؤلات عديدة حول طبيعة المكان الذي يتواجد فيه.

    بخطوات مترددة، تقدم نحو واحدة من الصفائح الكبيرة المحيطة به. كلما جلبته خطواته أقرب، ازداد الكيان داخل الزجاج وضوحا، ليتبين في النهاية أنه لا أحد غير العجوز القاسي المدور، جده متحجر القلب واقفا بكل غطرسة وشموخ كادا أن يعوضا قصر قامته. 
العجوز بلا شك يتميز بقسوة لا تعرف الرحمة، ولا يملك أدنى مشاعر انسانية نحو الآخرين. يعبأ فقط بلهفه نحو السلطة وبناء امبراطوريته الفاسدة، يبدو أن هذا هو الهدف الوحيد الذي يدفعه للحركة.
  
  حول وجهه عن ذاك المقيت بتقزز، ليتركز نظره على التابع الذليل كما يراه هو. كان في حالة يرثى لها من الجشع يعد اكواما من الأموال الغير قانونية و يوقع أوراقا مشبوهة من شأنها أن تضاعف ثروته و تغرق قليلي الحيلة في البؤس و الحيرة.

لم يكن التالي افضلهم، لقد كانت امرأة ينهشها الطمع ترتدي ملابس فاخرة و تضع حليا بارزة.  ظاهرها الخارجي يُخدِعك ويجعلك تؤمن أنها تنتمي للطبقة الراقية، تصرفاتها اللبقة وابتسامتها العريضة تعطي انطباعًا بأنها سيدة مثالية،  لكنه يعلم حقيقتها حق العلم. ليست سوى متصنعة جشعة، تماما كزوجها.

  غمره القرف مما رآه فأشاح بوجهه مسرعا نحو جهة اخرى، لكن ما قابله لم يكن هينا البتة. اتسعت عينيه حالما لمح شقيقه الأصغر جسدًا متجهمًا يشبه الذي يعرفه إلى حد كبير، لكن روحه لم تعد كما كانت. بدا وكأن كل شيء قد سُلب منه، جسد فارغ بلا روح. 

 انتفض من مكانه بسرعة و حاول الاقتراب من شقيقه بلهفة وحنين، لكن الأصغر ارتد بخطواته للخلف نافرا من أخيه. الموقف كان مخيبا للأمال وصعبًا للغاية على الأكبر منهما، فقد تحطم قلبه بسبب هذا الرفض المؤلم.

هذا الموقف كان صعبًا للغاية على الأكبر منهما، فقد تحطم قلبه بسبب هذا الرفض المؤلم

  كان قلبه يعتصر ألما، وفيما كان يحاول استيعاب ما يرى، صادت أذنه صرخات طفل متألم. لم تكن تلك الصرخات عادية بأي حال من الأحوال، بل كانت مبحوحة ومليئة بشدة العذاب. استدار الأكبر بحالة من الذعر لمصدر الصوت ليرى جسدا صغيرا مألوفا مكبلا على سرير للمرضى. وجد نفسه يتجه لا إراديا نحو الطفل المغلول، حاولت يداه رفع القيود التي أثقلت جسد الصغير، لكنها كانت محكمة للغاية. 
أصبحت الصرخات أعلى وأقوى، وكأنها تنبعث من أعماق الظلام نفسه. استمر نحيبه المؤلم بالتصاعد، صوته يندلع كأمواج من الجحيم تجتاح كل زاوية "ارجوك ساعدني! إنه خطؤك! لا تتركني بين يديه أرجوك!". بدأ  المشهد يتلاشى بسرعة مذهلة، كأن الزمن يذوب ببطء ويختفي في غياهب الظلام. أصبحت الرؤية مشوشة ومبهمة، وساد اللون الأسود بسرعة حتى بدا أن الواقع اندمج مع الكوابيس.

أخي اللعبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن