٣/ طعم لسمكه اخرى

6K 142 3
                                    


توطدت أواصر الصداقة بين بريل ومديرها جيمس كارنيش. قالت بريل تحادث لورين بلطف وحنان:
" يريد جيمس مقابلتك يا لورين, هل لديك مانع لعلاقتي به؟".
" أماه , أنني سعيدة جدا( وقبلتها فوق خدها) يمكنك التمتع بوقتك معه قدر المستطاع ولكنني أرجو أن تعطيني مهلة كافية يوم تودين أن أخرج من البيت وأستأجر غرفة لي".
" لا تكوني غليظة التفكير . فأنت ستبقين دائما معي ومكانك الطبيعي هنا".
كانت لورين واثقة من أنها , يوما ما , ستخرج من حياة والدتها ويتوجب عليها مغادرة المنزل, شعورها بالوحدة بدأ يضايقها أكثر بعد قطع علاقتها بهوغ, كل شخص حولها له صديق... وهي تبقى كل مساء وحيدة. الساعات التعليمية في الكلية التقنية مساء كل أثنين تسليها, والعمل هو منفذها الوحيد لتشغل لياليها في التحضير أو التصليح.
في تشرين الأول( أكتوبر) تغير موعد صفها المسائي لأسبوع واحد, صعدت بالمصعد الى الطابق الثالث وحاولت أن تتذكر رقم غرفتها. حملت دفتر التسجيل لصفها من المكتب ومشت في الممر الطويل الى داخل الغرف علها تتعرف الى تلاميذها , نظرت الى داخل احدى الغرف ودهشت لرؤية جان داربي واقفا ويحاضر في تلاميذ أحد الصفوف, هل هو خيالها الذي أوحى لها بشكله؟ أنه يلاحقها في كل مكان كالشبح ... أعادت الكرة ونظرت من جديد وتأكدت انه هو بشحمه ولحمه, أنه حقيقة يعلم في هذه الكلية التقنية , لقد كتب على اللوح : اللغة الأنكليزية, ارتبكت , كيف يمكنه أن يعلم التلاميذ وهو صحافي؟ أنه يتعدى على المهنة. أرادت أن تقتحم عليه الغرفة وتعلن للجميع كذبه وعدم كفاءته...
ارتفع غضبها ولكنها أكملت مشوارها عبر الغرف حتى وجدت تلاميذها في غرفة في نهاية الممر, اعتذرت لهم عن تأخرها وبدأت في تعليمهم , كانت أفكارها مشتتة بين محاضرتها وبين التفكير في جان داربي الذي كان يعلم في غرفة مجاورة , ربما يكون المسؤولون في الكلية قد ارتبطوا معه ليعلم قسما من الوقت عن حسن نية, وهم يجهلون عدم كفاءته ومقدرته , فهو صحافي غير قدير على تمييز اللغة الجيدة من اللغة الرديئة التي يطبعها كل يوم في جريدته.
بعد الحصة, فوجئت لورين به في المكتب يضع دفتر التسجيل لصفه في أحد جوارير المكتب , لم يخطر ببالها أنها ستلتقيه بعد الحصة, أرادت أن تركض هاربة منه حتى لا تتعرف اليه ولكنه بكل برودة أعصاب نظر اليها نظرة العارف وكأنها لم تقبض عليه بالجرم المشهود, بل بدا طبيعيا وهادئا كعادته.
بدأت ضربات قلبها تسرع وشعرت بعد فترة كأنها توقفت لفترة رهيبة وهو يقول لها بلطف:
" أهلا يا آنسة فارس".
" مساء الخير يا سيد داربي "
تنحى لها قليلا وأفسح لها المجال لتضع دفتر التسجيل لصفها في الجارور ثم التقت نظراتهما لفترة دون أن يعرفا ماذا يفعلان, وأخيرا خرق جان جدار الصمت بينهما قائلا:
" هل ترغبين أن أوصلك بسيارتي الى البيت؟".
لم يشرح لها أسباب وجوده بالكليه أو يعتذر عن انتحاله شخصية المعلم المحترم... فقط دعاها لمرافقته, أرادت أن ترفض ولكنها في آخر لحظة غيرت رأيها.
" نعم , شكرا".
رفع حاجبيه مستغربا قبولها ولكن السرور بدا عليه, غادرا المكتب ونزلا السلالم صامتين ثم مشيا الى مرآب السيارات حيث دخلت سيارته دون أن تبادله كلمة واحدة, بقيا صامتين طوال الطريق الى المنزل. أوقف سيارته أمام المدخل وللحال فتحت لورين الباب ونزلت منه في نفس الوقت الذي نزل جان أيضا, أخرجت لورين مفتاح المنزل وفتحت الباب الخارجي, تبعها جان الى غرفة الجلوس حيث قال:
" حسنا يا آنسة فارس, صمتك كان معبرا للغاية, تكلمي , ماذا يزعجك؟ أي جريمة أقترفت الآن؟".
" جريمة؟ نعم, هذا صحيح يا سيد داربي (بدأت عيناها تشعان والأنفعالات تجتاحها, رمقته بنظرة قاسية حادة وأكملت) أريد ان أعرف هل يعمل المسؤولين في الكلية أنك دخيل على مهنة التعليم ولا تملك المؤهلات لهذا العمل؟ ربما وافقوا على اعطائك هذه الوظيفة عن حسن نية وصدق... أنت صحافي يكسب قوته في كتابة توافه واشاعات وأقاويل حقيرة , ولا تملك المقدرة لتعليم اللغة الأنكليزية الصحيحة".
أمسك بها بقسوة وهزها, رفع حاجبيه مستنكرا ما سمع, والأبتهاج والسخرية أخذا يتصارعان في نظرات عينيه وهو يقول :
" عملي الأساسي في الحياة أن أعدي الغالبية من السكان بالقراءة السهلة, وبنظرك عملي يسيء الى اللغة الأنكليزية لأن المستوى الذي أكتب فيه لا يتعدى التافه من الكلمات...".
" حتما, هذا عملك".
حاولت أن تتحداه وتتجاهل الغضب الذي برز في عينيه كما يبرز النمر فجأة من وسط الغابة.
" وماذا ستفعلين ؟ هل ستخبرين المسؤولين عني وتعلنين عدم جدارتي بالوظيفة؟".
حاولت أن تتصدى لتحديه ولكن عينيها انخفضتا تحت سطوة عينيه , أنزل حاجبيه وتكلم بصوت بطيء وهادىء:
"أنت حمقاء درجة أولى ولا أستطيع أن أصفك بنعت أفضل من ذلك....".
نظرت اليه مستغربة تهجمه عليها ورأت سخريته في ابتسامة خبيثة, قال:
" حسنا يا آنسة فارس , اذهبي الى المسؤولين وأفعلي ما يحلو لك وأنا بانتظارك, يسرني أن أسمع رأي المسؤولين في الكلية حين يستمعون لقصتك المشينة".
بدأ جان يصعد السلالم باتجاه غرفته ولكنه توقف في منتصف الطريق وعاد:
" كلا, لقد غيرت رأيي , سأوفر عليك تلك المشقة".
" هل ستخبرهم أنت بنفسك وتستقيل من عملك؟".
" لا, لن أستقيل بل سأخبرك شيئا آخر, قفي أمامي يا آنسة فارس.( أمسك بها بقسوة وجذبها لتقف تحت الأضواء في غرفة الجلوس) هنا حيث أستطيع أن أرى ردة الفعل ترتسم في تعابير وجهك".
ارتبكت من تشدقه وهي ترى سروره الظاهر في وجهه .
" أنا يا عزيزتي آنسة فارس أملك مؤهلات تفوق مؤهلاتك..".
حاولت لورين أن تفتح فمها لتعترض ولكنه رفع يده وأكمل:
" اصمتي أرجوك فأنا لم أنته بعد من كلامي.( زاد عبوسها وهو يكمل حديثة بتأن واضح) لمعلوماتك الخاصة , أنا أحمل اجازة جامعية ولو رغبت لوضعت بالقرب من اسمي : ماجيستير في الأدب من جامعة أكسفورد , تخرجت بامتياز درجة أولى, ولدي قبول لمتابعة تحصيلي العالي لو رغبت ( ابتسم بخبث) نعم كنت واثقا أن الدماء ستصعد الى وجنتيك حين أخبرك , ولذلك أردت أن أشاهد ردة فعلك حين أخبرك وأراقب ارتباك الخجل يكسو وجهك كما تفعلين الآن".
مشى قريبا منها ويداه في جيوبه , حاولت أن تتمتم معتذرة ولكنه لم يسمح لها بذلك.
" عليك أن تسترجعي كل اتهام تفوهت به ضدي , وكل أهانة رميتني بها منذ وطأت قدماي عتبة الدار, الحقيقة, أريد أن أجعلك تجثين على قدمي وتطلبين السماح".
فتحت لورين من جديد فمها في محاولة للأعتذار ولكنها لم تتفوه بأكثر من :
" ولكن .... لكن... لماذا؟".
"لماذا؟ لماذا في رأيك أخبر العالم بأسره عن شهادتي العالية؟ ما دمت في مهنة الصحافة حيث الخبر أهم من أي شيء آخر... تحصيلي العلمي لا يهم قدر ما تهم خبرتي , لا أريد أن أتباهى وأزدهي بتحصيلي الجامعي أمام زملائي في العمل, سيعتقدون أنني عنيد ورأسي ناشف اذ أترك المناصب العلمية الرفيعة وأكتفي بالعمل بالصحافة(ضحك ساخرا) هذا من سخرية القدر وغير معقول , وكما قلت أنت بنفسك, أن أحمل مؤهلات علمية رفيعة وأعمل في مهنة الصحافة...".
أصبحت لورين في موقف لا تحسد عليه , لقد نجح جان في السيطرة على نوع العلاقة التي باتت تربطهما, كانت ذليلة خجلة وتتمنى لو تنشق الأرض لتبتلعها.
" ولكن... ولكن لماذا عملت في الصحافة؟".
" لماذا اخترت الصحافة؟ ولماذا لم أتابع حياتي العملية في وظيفة تتطلب مؤهلات علمية كمؤهلاتي؟ سأخبرك بالتفصيل".
أخرج سيكارة وأشعلها بيد متوترة, وببطء أكيد سحب نفسا عميقا منها قبل أن يتابع حديثه, كانت لورين تابع حركاته وسكناته وهي لا تصدق ماتسمع.
" بعد تخرجي مباشرة التحقت بسلك التعليم يا آنستي , اعتقدت أن ذلك سيكون مفاجأة لك , بقيت أعلم سنتين أصارع الصبية الأشرار غير المطيعين وسييئي الخلق ولم أحتمل أكثر, لم أحتمل الجو الصارم في المدرسة التقليدية والنظام المحافظ , ومن المفارقات التاريخية أنني لم أحتمل نظرة الزملاء الضيقة أمثالك يا آنسة فارس, وهي تضيق في مواد التعليم المقررة أكثر مما ينبغي , المعلمون أمثالك يرفضون الهواء النظيف والآراء الجديدة أن تتناول مواد التعليم أو وسائل وطرق التعليم , يوما ما يا آنسة فارس (نفخ دخان سيكارته في الهواء) سأعطيك درسا في كيفية تدريس اللغة الأنكليزية الحديثة... أي طرق ووسائل التعليم في الحقبة الأخيرة من القرن العشرين. يمكنك الحضور الى الكلية التقنية في الأسبوع المقبل والأستماع الى محاضرتي التي سألقيها على تلاميذ المدرسة الليلية وربما تستفيدين من بعض المعلومات أو الأرشادات الهامة, ليس فقط لتحسين معلوماتك في اللغة , بل أيضا لتحسين وسائل وطرق تدريسك".
انهى جملته الأخيرة وقفز بسرعة ذاهبا الى غرفته, تاركا خلفه فتاة مشدوهة متحجرة تسمرت في مكانها لا تعي ما حصل لها.
في غرفة الطعام في المدرسة التقت لورين صديقتها آن وسألتها"
|" كيف حال قلبك؟".
" قلبي؟ أنه في مكانه ويضرب ضربات منتظمة ... لقد أخفتني...".
" ربما كان علي أن أسأل عن مغامراتك... كيف تسير؟".
" لقد أثرت فضولي وهذا سيء جدا للقلب ... أخبريني أي مغامرة تقصدين ومع من؟".
" غرامك مع جان داربي بالطبع!".
ضحكت آن كثيرا وقالت:
" لا يمكنك أن تكوني جادة , لا يجمعنا حب ما بالرغم من الشائعات التي تدور حولنا".
" ولكنه أخبرني أنكما متفاهمان".
عبست آن بعد أن سمعت تعليق لورين وقالت:
"أنني أعرف ماذا يقصد ولكنني لست متأكدة أننا متفاهمان كما يقول".
" اذن أنتما صديقان؟".
" لا , لسنا صديقين!".
" ولماذا يصر على أن ترافقيه في مواعيده؟".
" الحقيقة بدأت أشك في هذا الأمر , ربما يستغلني كطعم ليصطاد سمكة أخرى".
" تقصدين مارغو فرنش..".
" ربما... ربما...".
" هل يريد من وجودك معه أن يحمل مارغو على الغيرة منك؟".
" ربما... ربما...".
نظرت آن اليها نظرة تنم عن أنها غبية حتما , ثم تابعت:
" أنت تعرفين يا لورين أنني سأرافقه غدا الى معرض السمعيات في لندن , سأكون في موضع حرج للغاية, لا أعرف أذا كنت صديقة هوغ أو رفيقة جان, الرجلان سيقتتلان للفوز بالفتاة اللعوب مارغو وفي النهاية سيكون الرجل المغلوب من نصيبي...".
" وهل لديك مانع؟".
" مانع؟ لا يا صديقتي فأنا أستمتع بوقتي كما أنني محصنة ضد الغيرة وأنا في عمري ... أنا لم أكن راغبة أبدا في الزواج ولذلك أفضل العلاقة السهلة والشاب الوسيم لأمضي برفقته ساعات مسلية ليس الا... لم تكن لدي أهداف للزواج في يوم من الأيام , لا تهتمي لأمري, لقد اشتريت للمناسبة بدلة جديدة لأنافس بها مارغو في الأناقة ... بالمناسبة , لماذا لا تحذين حذوي وتشترين لنفسك ثيابا جديدة؟ خذي نصيحتي ولا تجعلي من نفسك الفتاة الرثة الثياب والمحافظة المتزمتة... ستندمين بقية عمرك... علينا أن نقلد مارغو ونعتني بأناقتنا ... وأنا صادقة في نصيحتي لك".
" ربما من الأفضل أن أعمل بنصيحتك".
" هذا أفضل , أسرعي, سأتأكد من تنفيذك هذا الوعد".
وفي المساء التقت لورين بجيمس كارنيش في المطبخ, رجل نحيل شعره رمادي وجهه بشوش ومرح, شخصيته مرنة وسهل التعامل مع الآخرين ,وربما يكبر والدتها بسنوات قليلة, أمسك بيدي لورين بحنان وطلب منها أن تقبله على وجنتيه كما قبلها هو على وجنتيها , أبعدها عنه قليلا ومدح جمالها وأنوثتها وأثنى على أخلاقها وعقلها ثم وضع ذراعه حول كتفي بريل وقال:
" فتاة رائعة, كم أنت فخورة بها!".
عندما غادرا البيت كانت السعادة بادية جليا في وجهيهما مما جعل لورين تحزن على نفسها, خوفا من أن تذبل وتذوي في أوج شبابها .
وصلت آن أولا الى البيت , اليوم هو السبت موعد العرض , دخلت غرفة الطعام لترى لورين بدلتها الجديدة الزرقاء.
" أنظري يا لورين الى بدلتي الجديدة , لقد اشتريت أيضا قفازات وحذاء وحقيبة يد . لن أرتاح قبل أن أراك اشتريت لنفسك أثوابا جديدة, (ونظرت الى شعر لورين) لماذا لا تسدلينه بدلا من عقصه في هذا الشريط الى الوراء؟ اتركيه ينساب كالشلال على كتفيك".
" لماذا يا آن؟ لا أحتاج أن أبدو جميلة لأي رجل!".
وصلت بعد ذلك مارغو وتبعها هوغ , صعدوا جميعهم الى غرفة جان وسمعت لورين ضحكاتهم ومناقشاتهم وأصوات كؤوسهم وتسامرهم . بقيوا حوالي نصف ساعة ثم نزلوا ووجهتهم المعرض في لندن , كانت لورين تراقبهم مغمومة , نزلت مارغو وهي ترتدي قبعة بيضاء كبيرة فوق طقم أبيض وأخضر, كانت تمسك بهوغ يدا بيد, ثم نزلت آن وتبعها جان, كان يحمل كتابا بيده, تقدم من لورين وقال:
" هذا كتاب يتناول وسائل تعليم اللغة الأنكليزية الحديثة, أقرأيه يا آنسة فارس ومتى انتهيت منه أعيديه الي".
أمسكته لورين بتأن , كأنها تستلم ماسة ثمينة وشكرته, ابتسم لها ابتسامة خبيثة وغادر المنزل.
وفي طريقهم الى السيارة كانت مارغو متأبطة ذراع هوغ من جهة وجان من جهة أخرى , بينما آن تتبعهم واجمة.
شعرت لورين بغصة, تزمتها يجعلها بعيدة عن الصداقة , تصرفات مارغو معيبة ولك، آن بالرغم من عدم موافقتها على تصرفات مارغو, تبدو سعيدة في رفقة جان.
نزلت لورين بعد الظهر الى السوق, سحبت معظم مدخراتها وهرعت تجوب المخازن بحثا عن الأثواب الجديدة.
يوم الأحد رغبت لورين أن تنفرد بنفسها بعد الغداء لتقوم بنزهة في الحديقة العامة, أخبرت والدتها بذلك , قالت بريل:
" كم أنت أنيقة يا حبيبتي في ثيابك الجديدة , هذا البطلون الأحمر يليق بك وكذلك الجاكيت الصوفي, من أين أشتريتها وبكم؟".|" لقد صرفت الكثير من حساب التوفير , أقنعتني صديقتي آن بضرورة تجديد ثيابي".
" لا بأس , عما قريب يزداد حساب توفيرك من جديد".
فتح جان باب غرفته ويبدو أنه سمع ما دار بينهما من حديث.
" وداعا يا ماما , تمتعي بوقتك مع جيمس!".
خرجت وأغلقت الباب.
كانت الحديقة العامة شبه فارغة , صعدت لورين التلة وهي تتنفس ملء رئتيها من الهواء النظيف وتقول في نفسها ... ما أجمل الحرية, عبت من الهواء النظيف ما طاب لها وحتى الثمالة , كما قلبت ناظريها في المناظر الخلابة حولها والعشب الذي غطى الأرض ببساطه الأخضر.
مرت طائرة فوقها تهدر وتصرخ كأنها تقول لها: أنت وحيدة... وحيدة, وضعت لورين يديها في جيوبها وضربت الأرض برجليها , كان عليها أن تواجه الحقيقة وتعيش معها, وهي تحب رجلا ولا أمل من حبه, لن تفوز به أبدا لأن منافساتها الجميلات لن يتركن لها المجال, ستعتاد أن تكون الخاسرة في معركتها مع الرجل فهي لا تملك من المؤهلات الأنثوية ما يؤملها بالفوز.
نهاية شهر تشرين الأول ( أكتوبر) والطقس دافىء نسبيا , والشمس بعد الظهر خفيفة الحرارة, تمددت لورين تحت شجرة كبيرة خالية من الأورا بعد أن تساقطت في فصل الخريف, ولكن أغصانها تطاولت عاليا الى السماء, تمددت على بطنها وأرجحت رجليها في الهواء كما يفعل الصغار, ثم وضعت ذراعيها تحت رأسها كوسادة ونامت فترة طويلة في هدوء وسكينة.
سمعت وقع أقدام تقترب منها بقوة وعزم. كانت الأقدام تقترب تدريجيا من موضعها , كادت تصرخ عندما توقفت الأقدام عن متابعة السير قربها لأنها لا تريد أزعاجا من أحد.
" آنسة فارس؟".
حركت رأسها نحو الصوت وأت الرجلين الكبيرتين والبنطلون العادي والكنزة ذات الياقة العالية يطل عنها رأس حاد دون أن يبتسم.
" أليس هذا يوما جميلا يا آنسة؟".
هزت رأسها موافقة.
" ودافئا؟".
ارتجفت ثم هزت رأسها من جديد.
هل تستطيع أن تطرده لتبقى في وحدتها الهانئة ؟ هل من الممكن أن يترك لها صفاء ذهنها ويكف عن تعذيبها ؟ أن يتركها وشأنها؟".
جلس قربها على العشب , ابتعدت عنه بعصبية والتقطت بعض أوراق الشجر من على الأرض وسحقتها بشدة واضطراب , عقد لسانها ولم تقو على الحركة داخل فمها, أحست بضعفها واستكانتها أكثر من أي وقت مضى, هي لا تجرؤ على التعامل مع الجنس الآخر وخاصة مع هذا الرجل, ليس عندها ما يسحره أو يجذبه... لا تستطيع أن تحدثه حديثا مرحا لتجعله يضحك معها , هي لا تعرف الثرثرة ولا يمكنها أن تغازله بنظرة وتجعله يتمنى ان يلمسها أو يعانقها .. أنها فاشلة كأمرأة ... فاشلة في اجتذاب الرجل اليها ... لا يمكنها أن تعطيه أي شيء , وهو حتما يعرف كل ذلك فلماذا لا يتركها ويرحل عنها؟ سمعت حركة قربها , جزعت وجمدت في مكانها , التفتت اليه , كان قد تمدد كليا فوق الآرض بالقرب منها, بقيا على هذه الحال فترة طويلة.
" ماذا تقصد؟".
استدارت لتواجهه وقد فتحت عينيها الواسعتين :
" هل نحن متخاصمان؟".
" لا , لا يوجد لدي ما أقوله".
" حسنا , دعيني أفتش عن موضوع للحديث, عادة لا ينقصني الكلام, ( حك رأسه عمدا) آه , هل ألقيت نظرة على الكتاب الذي أعرتك أياه البارحة؟".
" نعم, لقد قرأته".
رفع رأسه مستغربا:
" هل أنتهيت من قراءته ؟".
" نعم, لم يكن لدي ما أفعله!".
" بقيت لوحدك كل النهار؟".
" نزلت الى السوق لبعض الوقت".
بقيا صامتين فترة طويلة.
" ما رأيك في الكتاب؟".
" أحببته كثيرا".
" حسنا , يجب أن نناقشه سويا من يوم من الأيام".
كانت لورين متأكدة من أنه لا يقصد ما يقول ولا يمكنه أن يفي بوعده, كيف تناقشه رأيه في هذا الكتاب اذا كان لا يسمح لها حتى بدخول حديقته كما أخبرها بنفسه؟ هل من الممكن أن تكون حديقته بعيدة جدا عن متناولها ؟ هل هي جنة عدن الموعودة؟.
ران الصمت بينهما من جديد وبقيت لورين بالقرب منه , قال :
" جاء دورك في الكلام".
أدارت رأسها وقالت:
" أوه( ضحكت) حسنا , كيف أمضيت وقتك في المعرض السمعي؟".
" شكرا, لقد تمتعنا كثيرا ولكن آن تعبت من كثرة المشي وأحست أن رجليها قد انعدم الأحساس بهما من شدة التعب".
ضحكت لورين:
" نعم _ هذه هي آن (صمتت قليلا ثم سألت من جديد) ومارغو؟".
" مارغو تستمتع بكل شيء , لديها مقدرة فائقة على العطاء وفي هذه الحياة ينال الأنسان بقدر ما يعطي...".
قالت لورين في نفسها...." هذا صحيح ... أنا لا أعطي شيئا ولذلك لا أحصل على أي شيء بالمقابل".
قال جان:
"في منتصف الطريق تبادلنا الصديقات...".
ضحكت لورين كثيرا . سألها جان عن السبب...
" كما يتبادلون الزوجات؟".
"آه , نعم ( استدار ليواجهها بقربه أكثر من ذي قبل) هل تروق لك هذه الفكرة؟
" تعني تبادل الزوجات؟( هزت رأسها .نفيا) بالطبع لا ".
وعندما تتزوجين ستخافين على زوجك لنهاية العمر؟".
"بالطبع اذا كان رجلا طيبا . ولكن بالنسبة الي لن تكون لدي مشكلة من هذا النوع, لأنني واثقة من عدم الزواج, فأنا لا أملك المؤهلات الضرورية المرغوبة في الزوجة".
وقف جان للحال وقال بنزق:
" حان وقت العودة".
أمسك بيدها وساعدها على النهوض وتمشيا نزولا الى أسفل التلة, أوقفها جان ووضع يديه على كتفيها برفق وحنان وخافت لورين وأحتارت بانتظار ما سيفعل ... نظر الى وجهها الخالي من المساحيق ثم مر بيده الى خلف عنقها وبسرعة حل الشريط الذي يربط شعرها , وللحال انسدل على كتفيها وخديها , حاولت أن تبعده الى الخلف بيد مرتجفة ولكنه منعها من ذلك قائلا :
" لا , أتركيه مسترسلا هكذا الى الأبد".
وضع الشريط في جيبه.
" أرجوك أعطني الشريط".
" لا . من غير المعقول أن تفسدي شكلك على هذا النحو...".
أكملا نزولهما بهدوء" قال:
" أنت لست ثرثارة".
" اذا كنت لا تسر برفقتي يمكنك أن ترحل, أنا لم أدعك لمرافقتي, أنني آسفة , فأنا لا أستطيع أن أسحرك بحديثي مثل مارغو".
لم يجب بكلمة واحدة بل أحست لورين طيف ابتسامة خفيفة تعلو شفتيه.
" هل نسيت أنني مملة ومعلمة مدرسة محترمة ومتزمتة؟".
أغلق جان فمها بيده, كادت أن تعضه ولكنها أفلتت منه وركضت هاربة.
وعندما وصلت الى البيت فتشت عن شريط جديد عقصت به شعرها الى الخلف واستراحت قليلا فوق سريرها تحاول أن تستعيد رباطة جأشها وتوازنها , ماذا حصل لها؟ لماذا هي مرتبكة تشعر بتوتر لم تعرفه من قبل؟ اين هدوء أعصابها وراحة بالها؟
مشت في الممر تريد السلالم لتنزل الى غرفة الجلوس, كان جان قد وصل أيضا الى الممر , مرت أمامه باتجاه السلالم فما كان منه الا أن سحب الشريط من شعرها بسرعة فائقة وعاد شعرها مسترسلا فوق كتفيها , التفتت اليه والشرر يتطاير من عينيها وقالت:
" أعطني الشريط".
" لا. أنها جائزة لي(قال ساخرا) لن أدعك تعقدي شرائط في شعرك من جديد".
" سأجمعه الى الخلف بواسطة الدبابيس".
" سأسحبها واحدا واحدا من شعرك".
" وهل سأقف أمامك وأتركك تفعل ذلك؟".
" لا تستطيعين منعي... لدي وسائلي الخاصة( وأكمل بلطف وخبث) ومن قال أننا سنقف؟".
ضحك ضحكة خبيثة أشعلت نار الغضب في كيانها , وخرج الأمر من يدها فجمعت قبضة يدها وشرعت تضربه على صدره بقسوة. أمسك بيديها وأبعدها عن صدره وهو يقهقه , أرادت أن تستعمل أسنانها أو رجليها أو حتى أظافرها ... حاولت الأفلات من قبضته الفولاذية , وكلما زادت من صراعها ضده كلما أحكم قبضته حولها أكثر من السابق وبدأت دموعها تتساقط...
توقفت عن الصراع , وتركها على الفور, تمتمت معتذرة ثم أكملت سيرها الى الطابق السفلي, لقد تخطت العتبة ودخلت الى بحر من الأمواج العاتية, خافت من لهيب عواطفها وأحاسيسها الجديدة, لقد حرك جان كوامنها بشكل لم تعهده من قبل, وتركها ودخل غرفته وهو يحمل شريط شعرها في يده.

روايات احلام/ عبير : لا احد ســــواكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن