الجمر البارد

1.2K 67 20
                                    

أسرعت عمدة القرية ترحب بحفاوة بالغة و تملق مقيت للرجل الضخم المتعجرف الذي اقتحم مكتبها بلا استئذان و هي تهلل

"قريتنا نورت بوجودك بيننا يمان بيه. أنه لشرف عظيم أن تختار قريتنا المتواضعة لإقامة مشروعك الضخم. لازلت لا اصدق أن جزيرتنا الصغيرة ستصبح رائدة في تعليب و تصدير الأسماك بفضلك. لا تعرف مقدار سعادة سكان الجزيرة و صياديها بمراكبك الحديثة و مصنعك الكبير و كل ما وفرته من مصادر رزق. و انا هنا رهن اشارتك لتسهيل كل الإجراءات القانونية اللازمة و تنفيذ كل طلباتك سيدي."

جلس يمان كريمي صاحب ٣٨ عاما بصمت و وقار بالغ طالما ميز حضوره الطاغي و قال بعد برهة بجمود "لا أحبذ كثرة الكلام ايتها العمدة. اخترت جزيرتكم لسبب بسيط و هو جودة الأسماك هنا و لا شيء غير ذلك"

ثم رفع رأسه و شرد في امواج البحر المتلاطمة و نفسه تحدثه بتهكم "لا شيء غير ذلك"

العمدة نادرة "طبعا طبعا سيدي كما تشاء. هاهي كل الاوراق التي طلبتها سيدي. و إن كان هناك أوامر أخرى، نحن رهن الاشارة"

تناول يمان الملف يطلع على اوراقه بصمت زاد توتر العمدة ثم قال "الربان الذي قدمته ليقود اكبر مراكب الصيد لا يبدو اختيارا موفقا. و لقد أمرت بطرده فهو على الأغلب غير متزن حسب ما بلغني"

بلغ التوتر ذروته لدى العمدة نادرة قبل أن تجيب مبررة "أنه بحار محنك و خبير، لكن السن قد كبرت و العظام وهنت لذلك ارجو منك مسامحة أي تجاوز صدر عنه فحياته لم تكن سهلة. أرجو أن تعيده لقيادة المركب فهو في أشد الحاجة الي ..."

يمان بصرامة "لا ابه لحاجته. لقد طرد و انتهى"

ابتلعت نادرة ريقها أمام الهالة المخيفة المحيطة بهذا الضخم القاسي الملامح، البارد المشاعر و اخذت ترتب الجمل في رأسها محاولة إيجاد كلمات تتواصل بها معه غير أن أصوات صراخ و عراك خارج المكتب أجبرتها على الإسراع لاستجلاء الأمر.

لم تستغرب كثيرا حال الصبية التي كانت تلقي كل ما جاء أمامها من ادوات مكتبية على رأس مساعد العمدة و هي تصرخ
"ايها الحقير الباءس، تحسب كل طائر يؤكل لحمه. لا تفكر مجرد التفكير في لمس أصابعي حتى ايها المتحرش المكرش ...خذ هذه"

عالجت سحر الرجل الذي يجاهد ليختبا خلف المكتب بينما كرشه الكبيرة تعيقه. عالجته بضربة أخيرة بكباسة الاوراق لتصيب رأسه فتدميه و يصرخ متالما فتصرخ معه العمدة نادرة قائلة

"كفى سحر! توقفي ايتها الصبية الشقية! ستقتلين مساعدي! هل هذا جزاء من يقدم لك عملا يسد حاجتك؟"

سحر بتحد و هي تلهث"الحاجة لن تغنيني عن كرامتي. و هذا الحقير، هذا الذي يدعي أنه مساعد اجتماعي يقدم الخدمة لسكان القرية، حاول التحرش بي. لكنني اقسم أن افصل أصابعه عن يده إن حاول مرة أخرى الاقتراب مني هذا المخنث"

أراد المكرش الدفاع عن نفسه من هجوم الشابة ذات الاثنين و عشرين سنة لكنها كالجمرة ملتهبة لا تقبل حوارا و لا نقاشا. فتدخلت جنان لتنهي المهزلة قائلة بتقزز

"أنه مساعدي الاجتماعي منذ عقد من الزمن يا سحر، و قد أردت مد يد العون لك و لعائلتك المعوزة عساك تكونين مساعدة مثله لكن يبدو انني اخطات. لا أمل في هذه العائلة لو لا اختك كيراز المتزنة و الرصينة لقلت انكم مجانين انت و والدك السكير"

صعدت الدماء لرأس سحر و هي تسمع كلام العمدة الجارح و تجمعت الدموع في مقلتيها رافضة البكاء و أجابت

"لا احتاج عونك ايتها العجوز العانس. انت أكثر من يحتاج العون و انا في بداية حياتي و اقسم أن أصبح نجمة لامعة حتى يغطي شعاعي بؤس هذه الجزيرة التي ووليتي عليها فغرقت في الهم"

ابتسمت العمدة بتهكم و أجابت "أضغاث احلام كاحلام امك الهاربة أو احلام والدك السكير. و الان غادري مكتبي و سيكون لنا حديث غدا ..."

سحر "لقد غادرته اصلا و لن يكون هناك غد. أنا استقيل ايتها...العمدة"

كان يمان يتابع كل ما جرى بانتباه و هو يتأمل  تفاصيل الفتاة الممشوقة القد البهية الطلعة ذات العيون الزمردية الاخاذة تتحدى الجميع ببسالة و تخرج رافعة رأسها بشموخ و لا كأنها تحتاج هذا العمل كحاجتها للهواء دون أن تتردد في رمي اخر ملف صادفها على وجه رجل الشؤون الاجتماعية المكرش أمام امتعاض و استياء العمدة و انبهار يمان.

استدارت العمدة نادرة لتواجه بحرج نظرات يمان الباردة و هي تبرر "قليل ادب. فتاة شقية اعطف عليها لحاجتها و عائلتها و لكن كما ترى يمان بيه...من شابه أباه ما ظلم!"

يمان مستفسرا "ماذا تقصدين ؟"

العمدة نادرة و هي تجلس على كرسيها بتعب "أنها ابنة الربان السكير الذي طردت من أحد مراكبك. ابنة يوسف كريم أوغلو"

رفع يمان رأسه و اشتعلت عيونه شررا و هو يقول بغضب بارز امام استفهام نادرة  "إذا هذه هي الجمرة التي كوت عائلتي"

الجمر الباردOù les histoires vivent. Découvrez maintenant