1. موعد في العيادة

8 0 0
                                    

على مدّ البصر، وآخر الأفُق، تخلّت الشمس عن أجيجها. واستأصلت تلك السّياط المتّقدة من اللهب. وتجلّت قُرصًا مثاليّا في شكله. وغلبَت عليها حُمرة دموية، يشوبها شيء من الصُّفرة، كجمرة في أوج توهّجها، لكن دون سُخونة تُغَلِفُها. وقفتُ على الرصيف المُقابل، أُرَاقبُ مبنى العيادة، والقلقُ يَعترِيني من هذا الموعِد في ساعَته الغرِيبة. نفختُ متأففًا، وطَأطأتُ رأسِي مُسْتسْلِمًا. ثُمّ ألقيتُ نَظْرةً أخيرة على ساعةِ اليد وأتبعتُها بنفسٍ أخيرٍ من السِيجارة. وأنا أهمُّ بقطع الطريق، طرأَ على بَالي الحِوار الّذِي دارَ بيني وبين ربِّ العملِ:
- أحمد، لقد تَمّ احالتُك على عُطلة مرضيّة طويلة المَدى، مع الزامك بمُراجعة طبيب نفسَانيٍّ مختصّ. إنّ حالتك تستدعي تدخُّلا خاصًّا... أنصت جيّدًا ... لا تُحاول ... لن تستطيع استئناف مُزاولتكَ للمهنة دُون تصريح خطيٍّ من الطبيب ... أرجوك توقّف ...

وتلاشت الكلماتُ وأنا قُبالة المبنى، أرمقُ لافتة العيادة: "الدكتور مصطفى الحاج أحمد أخصائي الأمراض النفسية والعصبية". كنتُ قد تلقيتُ اتصالاً منذ يومين يعلمني بإحالتي تحديدًا لهذا الطبيب وأنّ موعدي معه بتاريخ اليوم على هذه السّاعة المُتأخرةِ. دفعتُ إحدى فَرْدَتَيْ الباب وَوَلجتُ إلى داخل العيادة. كان المكان مُعتِما، تكاد تستحيل فيه الرُؤية. جُلتُ ببصري على يميني، فلمحتُ حائطا مقوّسًا بطول متر وخمسين سنتيمتر تقريبًا أو ربّما أطول قليلا، لستُ أدري. يعلُوه حائطٌ من زُّجاج وفي وسطهِ كوّة بحجم الرأس. لقد كانت نافذة الاستقبال. لكن لم يكن أحد يشغلُها. على الحائط المقابل، كانت كنبةٌ جلدية ذات لون أحمر قاني، مُنفر. وإلى جانبها، وبالقرب من المدخل، باب يُفضي إلى دورة المياه. حين دققت النظر إلى الحائط الأخير، لاحظت مدخلا مقوّسا لممر مظلم. افترضت أنه قد يؤدي إلى مكتب الطبيب، حيث أنّ قاعة الانتظار خاوية تماما. خطوتُ على مهلٍ في هذا الوُجُوم الأَسود، وأنا أمدُّ يدي اليمنى ألتمس حائط الممر، وكأنّني أخشى الوُقُوع، كطفلٍ صغير، أو ربّما الأسوأ، أن تلتهمني هذه العتمة. أبطأتُ الخُطى شيئا فشيئًا في كلّ شوطٍ أقطعه، إذ استحالت الرؤيةُ تماما. فكرتُ جدّيا في الرجوع أدراجي. وحين عَزمتُ، لمحتُ خيطًا رقيقًا من الضوء ينسلُ من حواف الباب.

وقفت بُرهة من الزمن أرمُق باب المكتب الذي كان بيّـٍـنًا أمامي بتفاصيله، رغم الظُلمة التي طَغت المكان. لم يمضي وقت طويلٌ حتى طرقتُهُ وجاءني الردّ بأن أتفضّل. فتحتُ الباب بتوجّس، ولكنّ الأخير انفتح على مصراعيه، وغمرني نورٌ ساطعٌ شديدُ الصُّفرة، وفجأة تمّ سَحْبِي بعنفٍ إلى داخل الغُرفة. وانغلق الباب من خلفي. بدأ النُورُ ينحسِرُ شيئًا فشيئًا. ووَجدتُنِي أقف قُبالة نافذةٍ زُجاجيّةٍ بقوسٍ كامل. تَتسرَّبُ منها خيوطٌ من نور الشمس لتختلط ألوانها بالزُّرقةِ القاتمةِ للغرفةِ، فتنعكس على الأرضية كسماء ليليّةٍ منقعةٍ في الدماءِ. كانت الغرفة خالية تماما سوى من مكتب فاخر من خشب الماهوغني، بلونه البنيّ المائلِ للحُمرة. وقفت مشدُوهًا لوهلة، إلى أن انتبهت إلى خيال شخص واقف بزاوية الغرفة. خاطبته مناديا: "دكتور!" فأجابني بصمت مُطبق. أخذتُ أقترب من الزاوية برويّة، فكانت صورة الخيال تكبر شيئًا، فشيئًا. وأجدني واقفًا أمام مرآة بارتفاعي تقريبا بإطار بيضاويّ مذهّب، تعتلي قاعدةً خشبية. لكن الأمر الذي أرعبني، أنّ الصورة التي كانت تعكسها المرآة لم تكن طينتي. لقد كان شخصًا آخر، بوجه نحيلٍ وممتد وعينين غائرتينِ، تٌحيط بهما هَالة من السّواد، مع أنفٍ نحيفٍ ومعقوف، وفم رقيقٍ ومُنكسر. وفجأة خاطبني هذا الكيان قائلا: أ لا ترى؟!

تملكني خوفٌ شديد، وباغتتني نوبةٌ من الهلع. أخذ صدري يرتفعُ وينخفض. صَار سحبُ الهواء أثقل فأثقل. وغالبني دُوَارٌ مروّعٌ، فقدتُ على إثرهِ توازني وسقطتُ على جَانبي. وتولّد صوتُ طنينٍ مزعج في أُذنِي. وأخذ يعلُو أكثر فأكثر، ثمّ أتبعهُ صفيرٌ حادٌ لا يُحتمل. وشيئًا فشيئًا، أصبحَتْ رُؤيتي ضَبابيةً حتّى فقدتُ الوعي تمامًا.

مخاض الهويةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن