٢٠٠٣ - مدينة الدماممنتصف شهر ديسمبر، منتصف الليل، وسط المزرعة الضخمة اللي تبعد عن قلب الدمام كيلومترات قليلة، على حدود البحر بمسافة قريبة امتدّت أسوارها اللي تحاوطها أشجار النخيل العالية، يتوسّطها البيت الخشبي بتصميمه الراقي
انتثرت ألعاب الأطفال على الأرض، وشاشة التلفزيون الصغيرة اللي تعرض أفلام الكرتون للأطفال اللي استسلموا للنوم
مشت جميلة بهدوء بين كومة الألعاب، قفلت التلفزيون والتفتت وكتمت أنفاسها بعد ما داست على الدُمية اللي ارتفع صوتها تغني
أخذتها بسرعه وهي تحاول تسكّرها وعينها على سرير الأطفال اللي تحركوا بإنزعاج
بكت الطفلة وتقدمت أمها تهدّيها: حنين البكّايه ليش تبكين؟
خفّ صوتها و التفتت لبنتها الثانية اللي هادية عكس اختها التوأم البكّاية
وبابتسامه: وتيني؟ وتين قلبي ما تبكي
التفتت لولد اختها صاحب الست سنوات اللي نايم بينهم
قربت تمسح على راسه وانسدحت بعد ما تلحّفت وغفت بتعب
انتشر صوت الهدوء عدا صوت عقارب الساعة
تمرّ ساعات الليل بكل صمت وسكينة
ساعة
ساعتين
كسر هالهدوء صوت الارتطام يتبعه شرارة انتشر لهبها بكل زاوية
وسط الصالة اللي كساها الدُخان اللي تسرّب أسفل باب الغرفة
تحركت جميلة من حسّت بالحرارة وفتحت عيونها
ارتجف قلبها وصرخت تنادي أخوانها: شدّاد ، عايشه!
ما وصلها ردّ وفزّت لبناتها التوأم تشيلهم بخوف، والتفتت حولها تدور الطفل الصغير واللي كان فراشه فارغ
ركضت برا الغرفة شايله التوأم وتنادي: عايشة!
كحّت بكتمه وحضنت توأمها والتفتت تمشي للباب بصعوبة
تحاول تنقذ بناتها بأي طريقة، تراجعت من حسّت بالباب ينفتح ويدخل أخوها شدّاد المرتعب
تراجع شدّاد بخوف وهو يشوف النار تاكل كل شيء قدامها
و صرخت جميلة تمدّ التوأم لشدّاد: خذهم بعيد! بنادي عايشة
شدّاد شال التوأم وسط الدخان وطلع برا البيت بدون ما يلتفت وراه، ركض بين أشجار النخيل يسمع صوت الناس اللي تجمعت حول المزرعة الملتهبة ويحاولون يخمدون نيرانها
التفت شدّاد يراقب البيت من بعيد برعب، وسع عيونه اللي انعكس فيها لهب النيران وانهيار البيت الخشبي، واختل توازنه يطيح بالأرض ما تقوى رجوله تشيله
و بكت وتين الصغيرة اللي ما تبكي، وتين قلب أمها بكت
أكواب الشاي الذهبية اللي كانت شهيدة على أخر جلسة عائلية تحوّلت رمادية، بقايا روج جميلة على طرف الكوب انمحت، كوب شدّاد اللي ينساه لين ما يبرد كالعادة انسكب وتبخّر بين النيران، وارتفع صوت الدمية تغني للمرة الثانية بعد ما انهار جسد جميلة عليها، اختفى صوت الدمية وماتت عايشة.
"وأموتُ.. لا يدري أحد
هل عشتُ يومي في شقاء
أم نمتُ أحتضن الكبد
هل في عيوني دمعةٌ؟ أم نارُ حزنٍ تتقِد؟.
٢٠٢٤ - مدينة الدمام
تبدّد ظلام الليل يعلن بدايات الفجر وشروق شمس الدمام الدافية
وسط المزرعة الضخمة، انعكست أشعة الشمس على شباك الغرفة المفتوح تنوّر زواياها اللي امتلت بالصور المعلّقه على جدرانها، صورة لجسر لندن الشهير، صورة للثقب الأسود والكواكب الشمسية، وصورة للمغنية الأجنبية تايلور سويفت
والمانيكان بالزاوية اللي غطّته الأقمشة بشكل عشوائي، وبجنبه انتثرت دفاتر القصائد ورسومات الفساتين وأدوات الخياطه
مشت بين اغراضهم المتراكمة ورمت نفسها على السرير وكحّت اختها تأنّبها: وتين ما تشوفين الغبار؟
ضحكت وتين مستمتعة كالعادة على عصبية اختها التوأم
وتنهدت وهي تتأمل المكان: يمه يا حنين! متخيّله هالمكان كان فيه حريق قبل تقريباً عشرين سنة وماتت عائلة كاملة
حنين اللاهية بشنطتها تنهدت والتفتت لوتين: مع انهم رمّموا المكان بس اشتقت لبيتنا في الخبر أحلى
وتين ابتسمت تلطّف الجو: بالعكس يفتح النفس وجنبنا البحر!
حنين ضحكت باستهزاء: واثقه ان شدّاد بيخليك تطلعين له
وتين اللي قامت ترتب أدوات الخياطة اللي تستخدمهم لتصاميمها: تكفين خليه ينطم! ما بسمح له يحرمني اشوف الطبيعة وأشم ريحة البحر!
ابتسمت حنين لحب وتين للطبيعة: بنطلع، حتى لو بغيتي نزرع نعناع ونسوي أحلى شاهي منعنع عشانك
وتين ابتسمت: عمري الحنونين اللي ماخذين من اسمهم نصيب
حنين ضربتها: ماله دخل! اسمي حنين مو حنان
وتين تسنّدت على الجدار بضحكه: كله واحد
حنين بإصرار: لا! اسمي معناه الشوق و الاشتياق
وتين ابتسمت: ووتين؟
ردّت حنين: شريان القلب اللي اذا انقطع يموت الانسان، وانتِ وتين قلب حنين
وتين ضحكت وسكتت ثواني وسألت: و شدّاد؟
حنين بقرف: يعني الشديد القوي
وتين رفعت يدها وتعدّد بأصابعها: المتشدّد، الشايب، المتنمّر، العنيف، الغبي
حنين بصوت عالي: المتخلف!
ضحكت وتين وارتفعت معها ضحكات حنين المستمتعه
ورجعوا يكملون ترتيبهم لشنطتهم، قضى يومهم الأول بالمزرعة بين أغراضهم، يرددون معاني الأسماء، ويشتمون خالهم شدّاد اللي رفع الفأس وضرب الخشبة بكل قوته وتكسرت
وضرب مرة، مرتين وثلاث ورمى الفاس بتنهيده
دخل جوا البيت ينادي: وتين!
وتين تأففت بملل: ما يعرف يسكت شوي
ضحكت حنين، ونادى شدّاد: وتين
وتين طلعت له: نعم
رمى نفسه على الكنبه: خذي الحطب اللي برا ودّيه للمستودع نحتاجه للشتاء
وتين ناظرت الحطب: شدعوه تبيني اشيل كل هذا؟
قرب منها باستفزاز: ما تقوينه؟
وتين ناظرته بتحدّي متجاهله نبرة صوته المستفزه، و نظرته القاسية
أخذت الحطب الثقيل وشالته ومشت للمستودع الخارجي
دخلت المستودع و رمت الحطب بالأرض بقهر: الله يقص لسانك وش طوله
تأففت وناظرت حولها، انقبض قلبها وانكتمت أنفاسها بعد ما استوعبت بشاعة المكان، جدران سوداء، أثاث محترق، زجاج متكسّر، كتب قديمة وكتابات ورسومات طفولية، و فأر في الزاوية
كشّرت ملامحها تناظر الفار بقرف، والتفتت تمشي بين الصناديق السوداء تناظرها بفضول
انتبهت لبرواز الصورة شبه المحترق، أخذته تحاول تناظر أصحاب الصورة
ما كانت ملامحهم واضحة، لكنها تشوف أطفال بأحضان أمهاتهم
الحضن اللي تجهله وما تعرف شعوره، شردت بالصوره وتراجعت من حسّت بالفار اللي تحرّك من مكانه
وأشّرت تهدد: لا تقرب، أدوسك لين تختنق يا قبيح
التفتت من وصلها صوت حنين تناديها وطلعت من المستودع بعد ما أخذت نظره أخيره للمكان
استنشقت الهواء النقي عكس كتمة المستودع، والتفتت لحنين اللي كانت تدوّرها
حنين تقدمت تناظر باب المستودع باستغراب: وين كنتِ؟
أشرت وتين: هنا، المكان غريب
حنين مشت للباب بفضول، ونطقت وتين: ترا فيه فار، كبر راس شدّاد
ارتجفت حنين تبتعد عن الباب بصرخه وضحكت وتين
أنت تقرأ
غريب يدوّر في طرف عينها حضن ووطن
Actionما بين نسمات الشتاء والنار والحطب بين أشجار النخيل والليمون والنعناع بين صهيل الخيول وتغريد الطيور بين برودة أمواج البحر ونعومة الرمل بين أوتار العود وخيوط الإبرة أحداث حارقة، امتلت بالجفاء والعناد لكن تحمل بين سطورها وتين نابض بالحياة