لم أعلم أن صوت القطار قد يكون محببًا لقلبي لهذا الحد....السادسة والنصف صباحًا بالمحطة.. بوابات القطار تُفتح، أقبض على يد حقيبة ظهري وأسرع لداخل القطار.
خمس دقائق فقط حتى تُغلق الأبواب ويحتل صوت القطار الطقس الصافي.. عيناي تجول بكل مكان داخل المقصورة، لا أنتظر قدوم أحد، أو هكذا أخبر نفسي.
الابتسامة احتلت شفاهي وأنا أتمسك بالمقبض المعلق بأطراف أصابعي، وبيدي الأخرى لا زلت أقبض على يد حقيبتي، وأشحت بناظريّ بعيدًا بعدما عثرتُ على مرادي.
إنها تنهيدة خفية، مؤكد هي رد فعل على المناظر الخلابة التي تصورها شبابيك القطار.. إنها تضع السهول الخضراء والجبال البديعة داخل إطار متحرك بديع.
سماعات الرأس، كنزة شتوية واسعة على الأغلب باللون الأسود أو الأزرق الداكن، ربما درجات مختلفة من الأزرق أيضًا، ونادرًا ألوان أخرى. دائمًا بيده لوحات كبيرة ومساطر عديدة.. شعر مرتب ملامح هادئة، وعينان ساحرتان تنتمي لعالم آخر.
لم نتحدث قط.. كنت قلقة من إزعاجه. لم تلتقي أعيننا حتى رغم وقوفه لجواري كل يوم بالصباح.
صوت القطار أصبح مرتبطًا به.
ربما كانت تلك المرات فحسب، شيء لا يذكر...
بمرة سقطت مفاتيحه من جيب كنزته، وأحسب أنه يرفع صوت الموسيقى بسماعات أذنه فهو لم يلحظ صوت المفاتيح وهي ترتطم بالأرض بصخب، ولم ينتبه إليها بتاتًا.. وربما قد مضى ألف عام وأنا أفكر أعليّ التقاطها لأجله؟ ربما سيلاحظها قريبًا؟ لكن لم تبدو عليه أي علامة لملاحظة ما فقد.
قلقتُ لفكرة مغادرته قبل أن يلحظ الأمر، وبلحظة خالية من التفكير التقطت المفاتيح وقربتها إليه بصمت تام. لم أرفع عيني لوجهه، لكني لاحظت الارتباك الطفيف المصاحب لتفقده جيوبه ثم الإماءة اللطيفة الممتنة بعد أخذه المفاتيح من بين يدي برفق.
لم يتفوه أحدنا بكلمة.
وعاد كلانا لانتظار وصول القطار كأن شيئًا لم يكن. أنا أراقب الشبابيك الجميلة، وهو؟ لا أعلم ماذا يفعل، فأنا أراقب الشبابيك الجميلة عن كثب.ثم هناك تلك المرات.
بيوم مزدحم، لا يوجد أي مقبض معلق شاغر، وقد وصلتُ متأخرة قليلًا، رغم ذلك وصلت لمكاني المعتاد بالمقصورة -مكاننا- وحين وصلتُ كنت أبحث عن مقبض لأتمسك به، عادة يتحرك القطار بسلاسة لكنها عادتي التي لا أستطيع التخلي عنها ولا يمكنني ترك يديّ فارغة. يجب التمسك بأي شيء!
ربما بدوت حمقاء وأنا أتمسك بإطار أحد الشبابيك. من ثمّ شعرتُ به يتحرك من جواري، يبتعد مقدار خطوتين ربما تاركًا مقبضًا حرًا.
وكاد المقبض يُسرق منه، ما كان عليه تركه بمثل هذا الزحام!!
وبلحظة ما لم أكن قادرة على استيعابها حتى، أمسك بذراعي ورفعها تجاه المقبض لأتشبث به بسرعة، ثم عاد يبتعد مقدار الخطوتين بعد أن عاد أدراجه.
نظرتُ تجاهه لكنه بدا مشغولًا بتنظيم لوحه الضخمة بهذا الزحام، أردتُ شكره لكن.. ماذا إن أربكته وتسببت بإفساد تلك اللوح المهمة -على ما يبدو-، بالنهاية، قررت المحافظة على الهدوء.بصباح يوم آخر تمكن فيه البرد مني، لم أستطع الوقوف بمكاني المعتاد لألمٍ في جسدي.. وهو كان يقف بمكاننا المعتاد، قبالتي. ولون كنزته كان يشبه أوراق أشجار الخريف البنية.. بيده كتاب يقرأه اليوم، يخفي وجهه خلف صفحاته. كان جميلًا بجوار إطار نافذة القطار.
باليوم الذي يليه كان يجلس بمجلسي الذي جلستُ فيه أمس.. ارتبكت قليلًا ربما.. لكني جلست لجواره على أي حال، حينها قدّم إلي بصمت علكة!
تلامست أناملنا وأنا أقبلها منه.. واستخرج من جيبه واحدة أخرى ليفتحها ويضعها في فمه، لم يحمل أي لوح بهذا اليوم، لكنه عقد ذراعيه فوق صدره وظننت أنه منغلق بسبب تلك الجلسة، ليس علي التحدث إذن. فتحت العلكة وتناولتها بصمت وأنا أتابع المشاهد البديعة المتحركة عبر نافذة الزجاج اللامع.وتلك المرة التى كان يكتب فيها بسرعة بكتاب له ثم وجدته يرجّ قلمه بقوة ويحاول معاودة الكتابة به، حينها مددتُ له قلمًا.
بصمت.منذ يومين، وللمرة الأولى لم يجيء بسماعه رأسه، هذا اليوم بسماعات أذن صغيرة، وقبعة شتوية من الصوف، ربما هذا التغيير بالسماعات لأجل أن يتناسب أكثر مع هذه القبعة، وقد أحسن الاختيار.
ظننتُ يومها أنني واهمة لكنه كان يقف أقرب من المعتاد.. وشعرت بتوتر يُثقل الهواء المحيط بنا.
مد يده بإحدى سماعات الأذن تجاهي وتلاشى التوتر بثوان قليلة، وضعتُ السماعات بأذني وهو يحتفظ بالأخرى بأذنه. وكانت هناك موسيقى فقط... لا كلمات، لا شيء... فقط موسيقى.
ولم أفهم. ربما الكلمات كانت لتكون إشارة ما. لكن للموسيقى لغة أيضًا، وأنا لستُ على دراية بها. حينها فقط أحسست بالألفة والسعادة.تنهيدة أخرى... السهول الخضراء مع الجبال والسماء والسحب... جميل للغاية.
قرّب إليّ ورقة مطوية استلمتها فورًا ثم غادر مبتعدًا قُرب الباب قبل محطة النزول بفترة أطول من التى اعتاد عليها بكل مرة.
فتحتُ الورقة المطوية عدة مرات وابتسمت... لم خطه يشبه خطي؟
"مرحبًا؟" كانت مكتوبة بعد فض الطية الأولى،
وأكملت فتح المطوية.
"أيمكننا اللقاء بالمحطة التالية؟"
أهذه دعوة للنزول؟ أم أنها تعبير له معنى ضمني؟ أيود لقائي الآن؟ ماذا يريد؟ هل سنتحدث؟
صوت توقف القطار، وقد اختفى عن ناظري بين الحشود التي تنتظر فتح الباب..
أسرعت دون تفكير زائد.. فُتح الباب وتدفق الناس عبره وقد فقدته عيناي. تسارعت ضربات قلبي وتلاحقت أنفاسي وارتعشت أطرافي.
ثم هدأ كل شيء حين وجدت نفسي أقف أمامه، أعيننا تلاقت للمرة الأولى وكأنه لا وجود لأي عالم خارج حدود عينيه.
لم أسمع سوى صوت أنفاسي المختلط بصوت أفكاري حتى اقتحمه صوته.
"مرحبًا؟" قالها بابتسامة صغيرة.
ابتهج وجهي بوضوح.. إذن، أهكذا يكون صوته؟.
.
.تايكون~
أنت تقرأ
وراء الغمام||Beyond The Clouds
Randomمجرد كتاب بين آلاف الكتب، لكنه يخفي بين طياته ضحكات، صراخ، أحلام، وآلام.. ربما تجد حياتك الخاصة يتم ذِكرها بصفحات الكتاب، أو ربما هي مجرد حياتي الخاصة. أسرار لا يعرفها سوى مكنونات القلب سيتم الإفصاح عنها ها هنا... وأسرار أخرى سيحوم حولها غمام الن...