التاريخ

255 20 6
                                    

كنتُ أحمل ذلك الجسد الصغير الذي يرتجف بسبب البكاء العنيف الذي تملكه ليبدو الأمر كما لو أنه خائف من شيء لا أستطيع رؤيته. لم أتجرأ على اتخاذ الخطوة الواحدة فلست سوى طفلة لا تفقه في أي شيء غير اللعب والمرح مع الأطفال من عمرها، وبالرغم من ذلك كنت أعلم جيدا أنه يجب الشعور بالحزن عندما تناهى إلى مسامعي صدى الصرخات الصادرة من وراء باب تلك الغرفة المليئة بمعدات قاسية وحديدية تبدو كوحوش، والتي لا تعدو كونها معدات طبية غريبة. لكنني لم أراعي لها كثيرا إذ ركزتُ كل اهتمامي على تلك الصرخات المليئة بالألم والصادرة عن المرأة التي لا تعدو كونها والدتي.

اعتقد الجميع أن الأمر يتعلق بصرخات ألم الولادة، لكنني كنت مدركة أتم الإدراك أنها تنادي باسم والدي الذي اختفى وجهه انطلاقا من تلك اللحظة...واختفتْ معه كل الذكريات الجميلة.

ـــــ

ـ إييرا... إييرا، هل أنت بخير عزيزتي؟

رفعتُ رأسي بهدوء من على الطاولة لأكتشف أنني قد غرقت في نوم سريع. أطلقتُ تنهيدة مليئة بالراحة حين أدركتُ أن تلك اللحظة المخيفة التي ترددت عبر عقلي لم تكن سوى كابوسا مخيفا آخر.

انتابتني مشاعر الطمأنينة والراحة حين رأيتُ وجهه إيفانا المُشرق وابتسامتها الدافئة.

أخذتُ نفسا عميقا أتوسل نبضات قلبي التي وصلت لذروة خفقانها قبل قليل بأن تخفف من سرعتها، ومن ثم وجدتُ نفسي أتساءل مجددا عن التأثير الاستثنائي الذي يُخلفه هذا الحلم بداخلي. حاولتُ إخفاء نبرة الإرتجاف من صوتي عندما قلت بهدوء:

ـ إنه نفس الكابوس يتكرر مجددا.

وكعادتها في كل مرة أعاني الكابوس السيء نفسه، تقوم إيفانا بإخفاء القناع الأسود الذي يغطي الربع الأيمن من وجهي بواسطة خصلات شعري السوداء قائلة بالصوت الذي يجعلني أعتقد أنني أتحدث مع والدتي:

ـ تبدين متعبة بشكل لا يصدق إييرا، هيا اذهبي واستريحي في البيت، سأحاول البحث عن أحد من زملائك في الصف وسأرسل لك الدرس.

طبعتْ ملامح الامتنان وجهي، واستطردتُ بصوت خافت:

ـ شكرا لك جزيلا إيفانا... لا أعرف ماذا كنتُ سأفعل لولاك.

ابتسمتْ إيفانا بهدوء حين رفعتُ بجسدي بنفس يكاد ينقطع، وتمنيتُ لو أنني لم أتجرأ على النهوض، إذ سرعان ما حاصرتني نظرات الملفيكيين التي تنبعث منها طاقة شريرة ومهلكة. نظراتٌ كألسنة اللهب الملتهبة، تتسلل بلا رحمة إلى أعماق الروح، وتحمل معها نيران الشر والظلام. كل حركة في أعينيهم كانت تنطلق كسهم مشع يترك آثاراً حارقة في قلبي، وكأن كل نظرة تحمل في طياتها لغزاً من الشر المظلم، ينبعث بلا هوادة ليلتهم كل ما في طريقه. ومن حسن حظهم، فهم لم يكونوا بحاجة للتحدث كثيرا للتعبير عن مدى الحقد والكره الذي يحتفظون به لنا فنظراتهم كفيلة بهذه المهمة.

موردينو:مدينة النور و الظلام ( الجزء الأول)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن