إلى سقف السرداب وقالت هذا فقلت لها وأنا أقرص خدها: «هذا؟ شنو هذا؟ فقالت بوا ہوا بو! ولمعت عيناها، ثم أعادت إصبعها إلى فمها. فقلت لها «لا ، مو بوبو لا تخافين هذا مطر مطر قوي هسة يخلص ويروح باح! اتسعت حدقتا عينيها وكأنها تفكر بما قلته . ثم نظرت إلى أمها التي أكدت لها، الأخرى: «أني مطر، هذا مطر .. فبدأت تكرّر وراء أمها «مَتَر، متر» دون أن حبيبي ، يختفي الخوف كليّاً من عينيها. وظلت طوال الأيام التي قضيناها في السرداب تردّد كلما اشتد القصف : «مَتَر ، مَتَر . » كأن تلك الأحرف الثلاثة مظلة تحتمي بها من تلك الغيوم بشرية الصنع، التي ظلت تزخ بقطرات مختلفة الأحجام على بغداد ومدن العراق لأسابيع طويلة .
أخذت حنة بعض الكليجة والسمبوسك وفطائر الجبنة في أكياس لنأكلها في الملجأ وكنت أشتري بعض الشوكولاتة عندما كان صاحب المحل يغتنم ساعات السلام بين موجات الغارات ويفتح المحل. وكان غزو الكويت قد أدخل أنواعاً من الشوكولاتة لم أكن قد ذقتها منذ سنين طويلة مثل الكادبري البريطانية والفليك. قرأت على غلافها الورقي وأنا أنهي واحدة لذيذة بالبندق والزبيب مستورد خصيصاً للكويت فأدركت بأنها منهوبة مثلما قرأت على علبة الجبنة التي اشتريتها من السوق بعد شهرين مساعدات من الدانمارك للشعب العراقي . » لم تكن ضربات الأمريكان جراحية كما كانوا يدعون في الأخبار، بل كانت كما ظلت حنة تردد «عامي شامي . » فأخطأوا في قصف بناية بريد العلوية القريبة منا ثلاث مرّات ودمروا عمارات بالقرب منها قبل أن يصيبوها . ولم أفهم ما شأن مكتب بريد العلوية
بالكويت التي كانوا يريدون تحريرها . قال أحد الرجال في الملجأ، والذي كان دائم التدخين خارج باب السرداب، وكان دائماً يتطوع للإجابة على كل سؤال بدون سبب : علمود يقطعون الاتصالات وي الجيش بالكويت . ( لكنني ، وكنت أنزعج منه أساساً، لم أقتنع . يعني قابل الجيش فيتصل بالكويت من هذا البريد؟ هاي شلون حكي الله يخليك؟» وفي اليوم الذي تلا ضرب بريد العلوية، قرّرت أن أمشي لأشاهد بنفسي ما حدث وعند اقترابي من الفروع القريبة من البناية شاهدت مئات الأوراق مبعثرة على الأرض وبعضها معلق بسعف النخيل. وعندما وقفت لأقرأ ما عليها تبين بأنها كانت فواتير هاتف وأوراق من معاملات رسمية مبعثرة في كل مكان .
بعد أسبوع من البقاء في الملجأ لم تبق قطرة ماء واحدة في خزانات الماء على سطح البناية وأُغلق الحمام الوحيد الذي كان يستخدمه الجميع ممن لم تكن بيوتهم قريبة من السرداب. أصبح الوضع حرجاً واقتنعت حنّة بضرورة العودة إلى البيت فعدنا إليه. كانت واحدة من المدافع المضادة للطائرات على سطح بناية مجاورة وكان صوت إطلاقاتها مرعب هو الآخر يكاد يصم الآذان، فلم يبق فرق بين السرداب والبيت .
عندما عدنا إلى البيت كان علينا تنظيف الثلاجة والمجمدة وإلقاء ما تلف من المأكولات فيهما بسبب انقطاع الكهرباء منذ اللحظة الأولى. كانت حنة ستلقي باللحم الذي كان في المجمدة في الزبل بسبب الصوم الكبير. لكنّي قلت لها يومها: «حرام بابا. كل شي مسدود وأكل ماكو. اطبخينو ناكلو أحسن . » تجادلنا وكانت مصادفة ربانية أن القس كان قد مشى من الكنيسة القريبة إلى بيوت المسيحيين
أنت تقرأ
يا مريم
General Fictionرؤيتان متناقضتان لشخصيتين من عائلة عراقية مسيحية٬ تجمعهما ظروف البلد تحت سقف واحد في بغداد. يوسف٬ رجل وحيد في خريف العمر٬ يرفض أن يترك البيت الذي بناه٬ وعاش فيه نصف قرن٬ ليهاجر. يظل متشبثا بخيوط الأمل وبذكريات ماض سعيد حيّ في ذاكرته. مها٬ شابة عصف ا...