بارت 2

612 16 2
                                    

الحلم الذي رأيته. أخرجت , طقم أسناني من القدح المليء بالماء وأعدته إلى فمي وثبتّه فيه . تساقطت أسناني منذ سنوات وكنت انزعج من الطقم لفترة طويلة قبل أن أعتاد عليه. كنت أعزي نفسي ببقاء
شعري الأبيض قويا . كل شيء ولا الصلع. لكني كنت أصلع في الحلم. هذا التفصيل المهم بحد ذاته يجعل الحلم أقرب إلى كابوس. كان البيت هو هو، بكل تفاصيله، لكنّه كان قد تحول إلى متحف، وكل غرفة فيه قاعة، الأسرة والكراسي محاطة بالحبال وعلامات تمنع الزوار من الاقتراب أو اللمس. وكنت أعمل دليلاً
أشرح تاريخ كل غرفة، ومن كان يسكن فيها، وإلى أين هاجروا. سمعت صوت همهمات وضحك لكن دون أن أرى أحداً. خرجتُ من قاعة إلى أخرى بحثاً عن الزوار لكن القاعات كانت فارغة. سمعتُ صوت رجل آخر ورأيته يمشي في الممر مع مجموعة من الزوار وهو يشرح لهم تفاصيل , خاطئة عن البيت. اقتربتُ منهم
وهتفتُ بصوت عال: هذا بيتي وأنا الدليل! لكن لا أحد سمعني أو أبه لوجودي. نظرتُ إلى المرآة فرأ أني أصلع . مشطتُ شعري وحمدت الله ثانية على احتفاظي بشعري . فتحتُ عينيّ وحدّقتُ فيهما وآنا أقرّب وجهي من المرآة. فارتفع الحاجبان الرماديان الكثيفان قليلاً وضاقت المسافة بين التجاعيد التي كتبها العمر على جبيني. ابتعدت عن المرآة وجففتُ وجهي وجبيني مرة اخيره في طريقي من الحمام إلى المطبخ كي أعدّ الشاي، وقمت أمام التقويم المعلّق على جدار الممر كما كنت أفعل كل صباح. وهي عادة قديمة لم أقلع عنها حتى بعد أن تقاعدث وجّلت أيامي من
المواعيد وقلّت مشاغلي وواجباتي. فقد اعتدتُ أن أتف دائماً اليوم الفائت بقلم الرصاص المعلّق بخيط من نفس المسمار
الذي يثبت التقويم على الجدار ويعلن، بذلك، بداية يوم جديد. نظرتُ إلى الصورة الخاصة بالشهر على التقويم: مصطبة خالية وقد جلست عليها، وعلى الأرض الحجرية تحتها، أوراق مصفرة انتزعها
الخريف من شجرة لا يظهر إلا جذعها. تحت الصورة، كان اليوم الباقي هو الأحد، آخر يوم من تشرين الأول من عام 2010. كنت قد كتبتُ على المربع الصغير الخاص , بذلك اليوم بقلم الرصاص (وفاة حنه) إشارة إلى اسم شقيقتي التي فارقت الحياة قبل سبع
سنوات في صباح مثل هذا، مع أنني لا يمكن أن أنسى التاريخ . ذهبتُ إلى الكنيسة قبل شهر وطلبتُ من الكاهن تقديم قداس عن راحة نفسها في ذكرى وفاتها، وتبرّعتُ للكنيسة بمبلغ إضافي. لن يكون القدّاس في كنيسة الراهبات التي كانت بيتها الثاني والتي صلت
فيها كل صباح، لعقود طويلة، لأنها أغلقت أبوابها أمام المصلّين مؤخراً لأسباب أمنية، بل في كنيسة
(أم الطاق) ، كما كانت تسمّى . الكنيسة التي تذهب إليها مها وزوجها كل أحد، لأنه سرياني. لن
تزعل حنّة لأن القداس سيكون في كنيسة السريان وليس في ( كنيستنا ) كما كانت تسمّي كنائس الكلدان. فالفرق بسيط جداً لا يتعدّى لغة القداس التي تتشابه ويمكن فهم بعض مفرداتها والاثنتان كاثوليكيتان .
والأهم هو أن كل الصلوات ستصل إلى الله في نهاية الأمر، مهما كانت اللغة أو المذهب.
ها هي سبع سنوات قد مرّت بسرعة منذ ذلك الصبا.
كانت حنّة ستتعجّب منها لو كانت على قيد الحياة، إذ فاقت كل ما سبقها وفاقت حتى الشهور السبعة الأخيرة من حياتها بعد الحرب الأخيرة

كانت دائماً تصحو قبلي وتعد الشاي لنا . تشرب استكانين مع فطورها البسيط: كسرة خبز وقليل من الجبنة، البيضاء أو الصفراء، إن توفرت، وملعقة من مربى المشمش أو التين الذي كانت تحبه وتصنعه هي بيدها. ثم تترك الشاي فوق كتلي الماء على نار هادئة
جداً كي لا يبرد، ولأشربه عندما أستيقظ، ثم تذهب إلى الكنيسة مشياً. كان إيقاع مشيها قد أصبح بطيئاً جدّاً في السنوات الأخيرة واضطرت إلى التأني والتوتر على العكّاز. لكنها كانت ترفض أن توقظني لأوصلها بالسيارة وترفض أن تستمع إلى نصائحي لها بأن تذهب إلى الكنيسة مرّة واحدة فقط يوم الأحد، بدلاً من الذهاب كل يوم . كانت عنيدة للغاية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بطقوسها .عندما دخلتُ المطبخ ذلك الصباح لم تكن حنّة قد أعدّت الشاي. كان قوري الشاي مقلوبا في المشبك بجنب المغسلة كما كان في الليلة الماضية بعد أن شربنا الشاي في المساء. قلتُ لنفسي إنها ربما تكون متوسّكة. صببتُ الماء في الكتلي ووضعته على العين اليمنى في الفرن بعد أن أشعلت نارها بعود ثقاب. وضعت ملعقتين
كبيرتين من الشاي في القوري ووضعت قطرات ماء فوقها، ثم غطيته ووضعته فوق الكتلي بانتظار أن يغلي الماء كي أصبّه على الشاي . خرجتُ من المطبخ وذهبتُ باتجاه غرفتها التي كانت في نهاية الممر.
قبل الباب المؤدي إلى الحديقة الخلفية. كان بابها مغلقاً. ناديتها وأنا أطرق الباب ثلاث مرّات: احنة، جنّة، يا حنّة . لم تجب. أدرتُ مقبض الباب بهدوء وفتحته محاولا ألا أصدر صوتاً، فوجدتها نائمة
في سريرها. كانت الستائر مسدلة، لكن شمس الصباح كانت قد تسللت من أطراف الستائر ومن الفسح التي ظلّت بينها. عبرتُ عتبة

يا مريمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن