نسخة منه داخل الغرفة على الجدار إلى اليمين من الباب وتحت نقطة الكهرباء وتحت قدح الماء هذا بنصف متر، جثمت «السُنْكَر » القديمة، ماكنة الخياطة التي تعمل بمدوسة القدم، والتي كانت قد كدحت
عليها لسنوات قبل أن يعمل البقية. أصرّت على الاحتفاظ بها رغم أنها لا تعمل , ولم تستخدمها منذ عشرات السنين. كانت قد استغلت حافاتها كمساحة إضافية تضع عليها التماثيل الصغيرة. في الزاوية
القريبة من «السنْكَر، كانت هناك خزانة الملابس الخشبية وبجانبها طاولة تواليت ومرآة كبيرة، وباستثناء فرشاة سعر متووسطة الحجم عليها كفشة شعر بيضاء وبعض الماشات بجانبها، كان بقية سطح
الطاولة خالياً من كل ما له علاقة بجسدها. كان مكرّساً لروحها فتكدست بعض كتب الصلاة التي كانت رفيقتها في أيامها، وتبعثرت حولها تلك الصور الصغيرة التي كانت توزعها الكنيسة. بعضها بحجم بطاقات المعايدة أو أصغر، للعذراء وحدها، أو مع المسيح، ومار يوسف ومريم المجدلية وبعض القديسين. كما كانت هناك
بعض الصور التي , تؤرّخ لمناسبات مقدسة أرواح أحبتها. لأولاد وبنات إخوتها وأخواتها أثناء طقوس المناولة الأولى أو العماد وقد وضعت صورهم مع صور القديسين والقديسات وكأنهم يحمونهم وتوسّط الطاولة صندوق صغير من الخشب، أعرف بأنها اشترته
من إيطاليا وكانت تضع فيه مسابح الصلاة المختلفة، وصليبها «الحي» الذهبي الذي كانت تضعه حول رقبتها، وتؤمن بأنّه يحوي قطعة صغيرة من صليب المسيح. إلى اليسار من طاولة التواليت كان الجدار مليئاً بصور رجالات الكنيسة. واحدة للبابا يوحنا بولص الثاني يرتدي ملابس البابا البيضاء ويبتسم . وتحتها صورة البطريرك بولص
شيخو الثانى، الذي كان بطريرك الكلدان في العالم والذي كان مساوياً للبابا في المنزلة، لكن حنّة وضعت صورته تحت السابق. وتحتها صورة العمانوئيل بيداويد الذي انتخب بطريركاً بعد وفاة شيخو وقد كتب تحت صورته: غبطة عمانوئيل بيداويد، المثلث الرحمة، بطريرك بابل على الكلدان في العالم. وتحت صور البابا والبطاركة كانت صورة اصغر لها وهي أمام صرح الفاتيكان ترتدي معطفاً أسود ثقيلا. كانت دائماً تستذكر حتّها هناك. أعجبتها روما كثيراً لكنّها كانت دائماً تتحسر على القدس ، التي زارتها عام 1966. وكانت تظل تقول كلما دار نقاش حول فلسطين على التلفزيون أو في الجلسات : « شوكت ترجع القُدُس حتى نكدر نروح لكنيسة القيامة؟»
بالإضافة إلى كل الذكريات والصور، كانت حنّة قد عادت من القدس بصليبين . واحد صغير موشوم على باطن ساعدها ونقش تحته
» 1967 سنة حجها. اختفى هذا الصليب الصغير معها تحت تراب القبر الذي ترقد فيه. أما الآخر، وهو أكبر بكثير ومن خشب الزيتون، فما زال معلقاً، وحده، على الجدار الذي يواجه السرير. فتحتُ أحد الشبابيك لأسمح لنسمة هواء نقي بأن تدخل. وقررت أن أبقيه مفتوحا بالرغم من برودة الجو التي تسللت مع الهواء
المنعش. خطر في بالي وأنا أخرج من الغرفة وأغلق بابها، بأنّ روح حنّة قد تشتاق إلى غرفتها وتزورها اليوم . سأغلق الشباك عصراً قبل أن أذهب إلى الكنيسة .
تذكرتُ سخونة جدالي مع مها وأنا أعد الشاي. بالرغم من أنها تعدّت حدود الاحترام المتبادل التي كانت مرسومة بوضوح بيننا بنبرتها وانفعالها واستخفافها بآرائي، إلا أنني لا أريد لها ألا تشعر بالراحة هنا، خصوصاً وأنها الأشهر الأخيرة قبل سفرهما، هي
وزوجها، بالرغم من حبّي للعزلة والوحدة واعتيادي عليهما، إلا أن وجودهما أضفى حيوية وروحا نديه على البيت الكبير الذي تيبست ضلوعه، فهي الكثير من أعباء البيت ولؤي لا وزوجها يخفّفان عنى
يقصّر أبداً في المساعدة . ولا يمكن أن أنكر بأن طبخها جيد جداً. لا يمكن أن يرقى إلى مواهب حنّة طبعاً، لكنّي أتلذذ بما تجود به بعد ان كنت قد مللت من اللفات والسلطات التي أعملها، أو من الأكلات
البسيطة التي لا أعرف غيرها جلستُ إلى طاولة المطبخ أحتسي الشاي وأفكر بمخرج من
الجو المحتقن والطعم المر الذي تركه جدال الليلة الماضية ضحكتُ في سرّي ساخراً من الحقيقة التي خطرت في بالي. البعثيون ما زالوا يسبّبون المشاكل حتى وهم في غيابهم السجون . المضحك المبكي أن يكون طارق عزيز هو السبب في كل هذا. كانت هذه المرّة الثانية التي يسبّب فيها حزازات عائلية، فقد كان
سبّب جدالا حادّاً مشابهاً من قبل في نهايات الثمانينيات، بيني وبين حنة، عندما قالت لي ذات يوم إنها شاهدت زوجته تبكي طوال القداس في الكنيسة يوم الأحد، أضافت بأنها تواظب على الحضور
كل أحد وتظل تذرف الدموع من بداية القداس حتى نهايته. فقلت لها يومها لعلها تعرف ما يفعله زوجها. فاعترضت حنّة قائلة إنّه إنسان
أنت تقرأ
يا مريم
General Fictionرؤيتان متناقضتان لشخصيتين من عائلة عراقية مسيحية٬ تجمعهما ظروف البلد تحت سقف واحد في بغداد. يوسف٬ رجل وحيد في خريف العمر٬ يرفض أن يترك البيت الذي بناه٬ وعاش فيه نصف قرن٬ ليهاجر. يظل متشبثا بخيوط الأمل وبذكريات ماض سعيد حيّ في ذاكرته. مها٬ شابة عصف ا...