( أنت تعيش بالماضي )
إنت تعَيّش , بالماضي عمو!
قالتها مها لي بعصبية وهي تترك غرفة الجلوس بعد جدالنا الحاد. ارتبك لؤي، زوجها، واحمرّ وجهه وهو يناديها بصوت عال طالباً منها أن تعود: لاهاي وين مها؟ تعالي! مها!
لكنها كانت قد بدأت ترتقي بسرعة الدرج المفضي إلى الطابق العلوي. اعتذر مني وهو ينظر بعينين حزينتين وقال بصوت بلله الخجل سامحها عَمّو. إنْتَ تُعْرَف هي شكد تُحِبّك وتحترَمك. بَس مو بيدها، أعصابها كلش تعبانة ."
قبل أن أفكّر بما يمكن أن أقوله، أخذ صوت نشيجها المتقطع ينهمر على أسماعنا من الطابق العلوي. فتمتمت:
يلا مو مُشكلة. ما صار شئ. يالله، روح هدي أعصابها وطيب من خاطرها نهض زوجها من الكنبة الرمادية التي كانا يجلسان عليها واقترب من كرسيّ الذي كان أمام التلفزيون مباشرة، انحنى ليقبّل رأسي وهو
يضع راحته على كتفي قائلاً: «إلعفو، واحسبها عليّ، قبل أن يتركني
ويرتقي الدرج بهدوء إلى الطابق العلوي .بقيتُ جالساً لوحدي أمام شاشة التلفزيون التي تلاطمت في قلبها أصوات المذيع وضيفه في جدال صاخب. لكنّي لم أعد أسمع أصواتهم بوضوح. وجوههم أصبحت ضبابية وكادت تتلاشى. كنت
أسمع جملة واحدة تتردد كلماتها ببطء داخل رأسي :
«إنت عيش بالماضي. لم أنم جيّداً وبقيتُ أتقلّب في الظلام وأنا أقلّب الحكم الجائر الذي أصدرته مها بحقي. كرّرتُ السؤال على نفسي بصمت : هل
أعيش، حقاً، في الماضي؟ وكنت أجيب عليه بأسئلة أخرى. كيف لا يعيش من كان بعمري، في الماضي، ولو بعض الشيء؟
أنا في العقد الثامن من عمر صار معظمه في عداد الماضي ولم يبق منه الكثير. أما هي، فما زالت في بدايات العشرينيات وما زال المستقبل كله أمامها، مهما بدا الحاضر قاتماً. قلبها طيّب، ونواياها أطيب،
ولكنها لم تزل صغيرة، مثل ماضيها. وسيأتي اليوم الذي يكبر فيه ماضيها، فتبدأ هي الأخرى بزيارته وبتمضية ساعاتها في ربوعه، حتى لو كان بائساً، لأنها ستنتقي منه أحلاه وستندمل جراحها. ثم هل
مات الماضي أساساً كي لا أعيش فيه؟ أليس الماضي مستمرا وحي بشكل ما، يتعايش
مع الحاضر ويحترب معه ؟ أم أنّه محبوس في
الصور المؤطرة المعلقة على جدران الذاكرة التي تمتد آلاف الأمتار، وتلك المعلقة على جدران البيت والمحفوظة في الألبومات؟ ألم تقف هي طويلاً أمام الصور المعلقة وتسألني أكثر من مرّة عمّن يقف
داخل أطرها من أفراد العائلة؟ وإلى أين أخذتهم الحياة، أو كيف،
ومتى، اختطفهم الموت؟ ألم تطلب مني أن أحكي لها الحكايات التي تختزنها الصور؟ كنت دائماً أستجيب بحماسة وألوّنها بالتفاصيل وأتبع الخيوط التي تصلها بصور أخرى أحياناً، أو تلك التي تصلها بحكايات أخرى لم تلتقطها عين الكاميرا. حكايات معلّقة في ذاكرتي بآهات وابتسامات، وأخرى محفوظة في ارشيف يحرسه القلب. هل أهرب فعلا من الحاضر إلى ملجأ الماضي، كما اتهمتني هي؟ وما العيب في ذلك، حتى لو كان صحيحاً، إذا كان الحاضر
مفخخاً ومليئاً بالانفجارات والقتل والبشاعة؟ ربما كان الماضي مثل حديقة البيت التي أحبها وأعتني بها كما لو كانت ابنتي. أهرب إليها من ضجيج الدنيا وبشاعتها. إنها فردوسي في قلب الجحيم أو المنطقة
الحكم الذاتي، كما أسميها أحياناً. سأدافع عنها لأنها، هي والبيت، آخر ما تبقى لي. يجب أن أسامحها، فزمانها غير زماني، وشبابها غير شبابي . هي فتحت عينيها الخضراوين على الحروب والحصار وذاقت طعم القحط والقتل والتشرّد مبكّراً. أما أنا فقد عشت أزمنة الخير وما أزال أتذكرها وأصدّق بأنها حقيقة.
نهضتُ في السادسة والنصف، كعادتي منذ سنين طويلة، بلا منبه، منذ اصبحت مثانتي أفضل مُنَبّه طبيعي يجبرني على الاستيقاظ وزيارة الحمام أكثر من مرة، وقفتُ أمام المرآة في الحمّام الذي يحاذي غرفتي. غسّلتُ وجهي و يحلقتُ ذقني. لم ادندن آغنية من أغاني المحببة كما كنت أفعل عادة، لأنني كنت أحاول تذكر تفاصيل
أنت تقرأ
يا مريم
General Fictionرؤيتان متناقضتان لشخصيتين من عائلة عراقية مسيحية٬ تجمعهما ظروف البلد تحت سقف واحد في بغداد. يوسف٬ رجل وحيد في خريف العمر٬ يرفض أن يترك البيت الذي بناه٬ وعاش فيه نصف قرن٬ ليهاجر. يظل متشبثا بخيوط الأمل وبذكريات ماض سعيد حيّ في ذاكرته. مها٬ شابة عصف ا...