ورع ولا علاقة له بما يفعله البعض في الحكومة، كما أنّه دائم التبرّع للكنيسة وكان تحمّل آنذاك نفقات شراء ثريّات جديدة جميلة وهائلة الحجم تزين سقف الكنيسة. ووبّختني قائلةً إنّي لو كنتُ أذهب إلى
الكنيسة لرأيتُ ذلك بأم عيني. قلتُ لها إن التبرع لا يلغي مسؤولياته وتاريخه ولا يمحو أفعاله. والمبالغ التي يتبرع بها لاشيء يذكر مقارنة بالبذخ الذي يعيشون فيه وما ينفقونه . ثم لماذا لا يجيء هو
بنفسه إلى الكنيسة ليصلّي وليكفر عن ذنوبه؟ قلت لها إن هذا قد يثبت الإشاعة التي ترددت عن أنّه كان قد أسلم، هو وميشيل عفلق.
رددت على حنه بعصبيه
«لا بالله؟ ليش ماتروح إنت للكنيسة وتكفر عن ذنوبك؟»
«أنا ما عندي ذنوب وما إنْ أذيت أحد.
«هاي شلون حجي هذا؟ ما يكفي ما تئذي أحد. لازم تكمّل واجبك »
كنتُ أذهب إلى الكنيسة في الأعياد والمناسبات فقط ، وكانت حنة قد فقدت الأمل منذ عقود في أن أَحَمِل يوم الرب، كما جاء في الوصايا العشر، لكنها كانت تنتهز كل فرصة عابرة لتذكيري بأني مقصر في واجباتي الدينية. ولم يشفع لي، أو يقنعها، قولي لها مازحاً، أكثر من مرة، بأنّها تذهب بالنيابة عني. وبما أنّها تذهب كل
يوم فهي تصلي بما يعادل سبعة أشخاص، ويحق لها أن تنتخب ستة آخرين تصلّي بالنيابة عنهم. كانت تنظر إلى بطرف عينيها عندما أتفوه بأقوال كهذه ثم تهز رأسها وتعود إلى صمتها . كان الحكم بالإعدام على طارق عزيز وآخرين قد صدر قبل خمسة أيام لدوره في التصفيات والإعدامات والتهجير. دارت
جدالات حادّة وصاخبة على الفضائيات وصفحات الجرائد حول الهدف من الحكم، خصوصاً وأنه كان مريضاً ومسنّاً ونفى أن تكون
له أي علاقة بالمذابح التي اقترفها رفاقه ضد الأكراد والشيعة، لآنه كان، كما قال، دبلوماسياً ومسؤولا عن ، العلاقات الخارجية وحسب . في المرة الأولى التي دار فيها النقاش بيني وبين مها ولؤي، لم يتطور الأمر إلى صِدام. قالت هي إنّ المسألة برمتها مهزلة وأنهم بدلاً
من حل مشاكل الناس مشغولون بإعدام المسنين الأبرياء. سألني لؤي عن رأيي، فأجبته بأنّ هذه المحاكمات فيها تخبّط منذ البداية وأنها
فاقدة للشرعية لأنها أُكُلَت تحت الاحتلال وكان يجب الانتظار وعدم التسرع . حتى صدام ما كان يجب أن يُعدَم، بل كان يجب أن يظل في السجن ليتعذب. لكن طارق عزيز كان مشتركا مع الآخرين وكان ينظر للبعثيين وما قاموا به سألتني مها بنبرة حادة بعض الشيء: «يعني مو ميعدٍمونه لأنّه مسحي؟
فقلتُ: عيني الموضوع أعقد من مسيحي ومسلم. موضوع سياسة ومصالح، مو دين . "
لم تقل مها يومها شيئاً، لكن بدا واضحاً أن كلامي لم يعجبها، فوضعت يدها على خدها وغطت فمها كأنها تحاول حبس الكلمات. أما أمس فلم تحبس كلماتها حين خضنا في الموضوع من جديد بعد أن سمعنا خبراً جديداً ونحن نشرب الشاي. ذكر المذيع بأن رئيس الجمهورية، الطالباني، صرّح بأنّه لن يصادق على قرار الإعدام وبانه يحترم عزيزا لانه مسيحي . وأضاف المذيع بأن الفاتيكان يحاول التدخّل والتوسط للإفراج عنه. فهزّت مها رأسها، ثم قالت: مو همه نفسهم بجماعة حزب الدعوة هجمو عَلينو بالقنابل اليدوية بالمستنصرية بالتسعة وسبعين يريدون يقتلونه لأنّه مسيحي؟
مو همّه إرهابيين؟ أشو منو المُجرم اللي ، لازم ينعدم؟ همه لو هو؟ هسة آخر زمان الإرهابيين يجون يحاكمون ويجد مُثقّف؟ هاي دولة القانون؟
أضاف زوجها : فيا قانون هذا عيني؟ همّه كلهم مجرمين وحراميّة. فيسمّوها دولة الفانون، مو القانون. " ثم جاء صوت ابن طارق عزيز على الهاتف ليقول للمذيع إن الحكم على والده قرار سياسي. وناشد المجتمع الدولى التدخّل لإطلاق سراحه لأنه بريء ويشكو من متاعب صحية . تذكّرت العنجهية التي كان عزيز يتحدّث بها في الماضي عندما
كان يظهر في المؤتمرات الصحفية ودخان السيجار الكوبي الذي كان ينفثه، تشبّهاً بسيده القائد. وتذكرت كيف أنّه هدد أحد الصحفيين البريطانيين ذات مرة بالقتل. لكنّي قررت أن أهدّئ الأمور وألا أقول
شيئاً فيكفي الرجل أن يظل في السجن. لكن مها صعدت من حرارة الجو عندما قالت: ولو كان من جماعتهم ما كان عدّموه، بل طبعاً، لأنه مسيحي
، دمه رخيص فأجبتها بهدوء وليش اللي انعدمز قبله شجانو؟ كلِهم أسلام. هذا أول وآخر مسيحي ينُحكم إعدام. عيني يعدمونه بكل مكان بلا مَحْكَمة ومحدّ يحجي. الكنايس كله ُتِحِترق والناس تتُهجّر ويذبحون بينا يمُنّه يسره . مو بس كنايس تنحرق بنتي. الجوامع اللي انحرقت أكثر بكثير، والأسلام اللي انقتلو عشرات الآلاف.
أنت تقرأ
يا مريم
General Fictionرؤيتان متناقضتان لشخصيتين من عائلة عراقية مسيحية٬ تجمعهما ظروف البلد تحت سقف واحد في بغداد. يوسف٬ رجل وحيد في خريف العمر٬ يرفض أن يترك البيت الذي بناه٬ وعاش فيه نصف قرن٬ ليهاجر. يظل متشبثا بخيوط الأمل وبذكريات ماض سعيد حيّ في ذاكرته. مها٬ شابة عصف ا...