لا أحد يعرف تاريخ الصورة بالضبط. لكن يوسف يتذكر بأنها التقطت ذات جمعة قبل أشهر قليلة من حركة رشيد عالي الكيلاني عام ١٩٤١. أي أنه كان في الثامنة من عمره. والتقطت في بيت العائلة القديم في عقد النصارى الذي كانوا يتقاسمونه مع عائلة عمه .
مر المصوّر الأرمني على الشارع بيتاً بيتاً يحاول إغراء العوائل بأن تلتقط صورة جماعية .
تردّد أبو يوسف في البداية لكن الجميع الح خصوصاً أن أخاه يوحنا وافق وبدأ ينادي زوجته وأولاده كي يجتمعوا ويستعدّوا للصورة.
اختار المصور زاوية مناسبة في باحة البيت فيها ما يكفي من الضوء وطلب منهم أن يعلقوا قطعة قماش بيضاء كبيرة على الحائط في حوش البيت لتقف العائلة أمامها كي تلتقط الصورة بعد أن استُخصِلَت الموافقة.
وبعد أن انتهى المصور التقاط صورة لعائلة يوحنا جاء دور عائلة گورگیس.
يبدو ،گورگیس، أبو يوسف جالساً بوقار في قلب الصورة، يرتدي الصاية والشماغ ملفوف حول رأسه على طريقة القادمين حديثاً من قرى الشمال.
رغم أنه كان قد هجر تلكيف وجاء إلى بغداد قبل من ثلاثة عقود إلا أنه رفض أن يغير ملابسه ويلبس أفندي مهما ألح عليه الآخرون.
وظل يرتدي هذا الزي حتى موته عام 1975 .
كانت ذراع گورگیس الیسری تطوّق عنق يوسف، ويده
اليسرى تمسك بيد ابنه الذي كان يجلس إلى يساره وكان كالعصفور، لا يكف عن الحركة أما ید گورگیس الیمنی فکانت تستقر على ركبته اليمنى بعد أن سوى شاربه مرّة أخيرة قبل أن يطلب منهم المصور أن يتوقفوا عن الحركة ويركّزوا جميعاً على العدسة. ثم سحب لوحاً من داخل الكاميرا إلى خارجها وبدأ يعد من خمسة إلى واحد. بجانب ،گورگیس، جلست زوجته نعيمة تبتسم ابتسامتها الواثقة. الصورة بالأبيض والأسود إلا أن اختفاء الألوان عنها لم يخف بريق عينيها السوداوين واتساعهما الذي طالما سحر گورگیس وشجّعه آن يعود بعد سنوات من التنقل بين بغداد والمحمرة، والعمل في الملاحة النهرية بين المدينتين مع أبناء عمومته، لكي يخطبها بعد أن كانت قد ظنّت بأن بغداد أنسته القرية ومن فيها. حذر البعض أهلها
من أن يوافقوا على تزويجها لأنهم قالوا إنّ الرجل منحوس، فقد ماتت زوجته الأولى وطفلاها غرقاً،
وها هو سيأخذ نعيمة لتغرق هي الأخرى. لكن والدها لم يأبه بهذا الكلام وكان سعيداً بتزويجها لرجل كان يثق بمعدنه لأنه يعرف أباه، خصوصاً بعد أن عملا عمراً
مع بعضهما البعض يزرعان الشعير في أرضيهما المتجاورتين بأكمله في تلكيف . بدت نعيمة سعيدة في الصورة فقد كانت «أمل» آخر العنقود، تتحرك في أحشائها بنشاط وتعلن عن وجودها وكأنها تريد أن تظهر في الصورة هي الأخرى أو أن تلعب مع سليمة، التي كانت في عامها الثاني في حضن أمها سليمة التي أصرّ گورگيس على أن
تحمل الاسم الأوّل لأشهر مغنية في العراق في تلك الأيام، ة سليمة مراد باشا أرادت نعيمة أن تضيف المزيد من ثمار بطنها، ربما لتظل تعوّض گورگیس عن زوجته الأولى وولديه اللذين ماتا أمهما قرب المحمرة في حادث يرفض گورگیس أن يستعيد تفاصيله.
لكن قلب نعيمة توقف ذات ليلة بعد العشاء وفارقت الحياة بعد سنتين من تاريخ الصورة وتركت لأكبر بناتها حنّة التي كانت تجلس بجانبها وتتشبث بذراعها اليمنى حملاً ثقيلاً فسيكون عليها أن تترك المدرسة في الخامسة عشرة من عمرها وتتفرغ للطبخ ولتربية إخوتها وأن تعمل بالخياطة خمس سنوات طوال كي لا تغرق سفينة العائلة، وكي يكمل إخوتها تعليمهم ويشقوا طريقهم في الحياة. وكان عليها، أن تقدم تضحية هي الأكبر، بنظرها، وهي التخلّي عن حلمها بأن تكون راهبة تكرّس حياتها للمسيح فكرّست حياتها للآخرين . وظلت عانساً بدلاً من أن تكون عروس المسيح الطاهرة وتلبس ثياب العذرية الأبدية البيضاء.
أنت تقرأ
يا مريم
General Fictionرؤيتان متناقضتان لشخصيتين من عائلة عراقية مسيحية٬ تجمعهما ظروف البلد تحت سقف واحد في بغداد. يوسف٬ رجل وحيد في خريف العمر٬ يرفض أن يترك البيت الذي بناه٬ وعاش فيه نصف قرن٬ ليهاجر. يظل متشبثا بخيوط الأمل وبذكريات ماض سعيد حيّ في ذاكرته. مها٬ شابة عصف ا...