بارت 3

344 16 2
                                    

الغرفة التي قلما كنت أدخلها بخطوة. كبس الزر الذي كان على الجدار إلى اليمين، لكن الضوء لم يشتعل. تذكّرتُ بأنها قالت لي أمس بأن المصباح احترق ولا بد من تغييره، ووعدتها بأن أفعل ذلك. وبّختُ نفسي على تأجيل ذلك وتعاجزي عن جلب السلم من المخزن . فلا مفرّ من ألم ركبتي حين أتسلق السلم لتغيير المصباح .
كنتُ قد تعللت بيني وبين نفسي بأن الكهرباء مقطوعة معظم الوقت ونحن نقتصد في تشغيل المولدة ونعتمد على الشموع في الليل. لكن لا فائدة في تأجيل الموضوع . ناديتها مرّة آخرى لاحقًة ! شبيكي؟
قومي! حنّة) خطوتُ يميناً نحو الشباك وأزحت الستائر إلى الجانبين، فاقتحمت الشمس فضاء الغرفة بقوة. وضعتُ يدي اليمنى أمام عيني الأحميهما من وهج الشمس. استدرتُ واقتربتُ من سريرها. كانت
نائمة على جنبها الأيسر وقد غطاها اللحاف حتى كتفيها. اقتربتُ من حافة السرير اليسرى ونظرتُ إليها عن كثب. كانت مغمضة العينين وخصلات من شعرها الفضي تنام مشرّثة على الوسادة بالقرب من
وجهها. يداها كانتا مشبوكتين بالقرب من زاوية الوسادة السفلى إلى يمين وجهها، تقبضان على مسبحة الصلاة ذات الحبات الحمر الصغيرة، التي لم تكن تفارق يدها، والتي كانت تضبط إيقاع صلواتها وأدعيتها. كانت المسبحة تنتهي بصليب فضي صغير كان ينام بالقرب من فمها. لا شك أنها قد قتلته قبل أن تنام. انحنيتُ وهززتُ كتفها برفق بيدي اليمنى مردّدا حنّة» . لم تتحرّك البتة. وأحسستُ بكتفها صلباً بعض الشيء. لاحظتُ شحوباً على خارطة وجهها المليء بالتجاعيد. كررتُ بصوت خافت: «حنّة، يا حنّة. أمسكتُ بيدها
اليمنى لأجس نبضها فبدت كأنها تتشبث بأختها اليسرى وبالمسبحة. شعرتُ ببرودة ملمسها وأحسستُ بقلبي يسقط في حفرة. وأدركتُ عندها بأنها لن تستيقظ. طوّقتُ معصمها بيدي واضعاً طرف إصبعي
على رسغها الأيمن، فلم تسمع سبابتي أي وقع لخطى الحياة. كانت الحياة قد جمعت ما تبقى من حاجياتها أثناء الليل وتركت جسد حنّة يسكنه الموت وحده بلا شريك. ها هو الله يحقق أمنيتها التي طالما ردّدتها لسنين، خصوصاً في ساعات الوجع والقرف: «أوف يا ربي! شوكت تاخذني وأخلّص وأرتاح؟»
كانت دائما تدعو للآخرين بطول العمر، لكنها تدعو لنفسها بقصره
جلستُ على حافة السرير. أردتُ أن أحتضنها مرّة أخيرة، لكنني اكتفيتُ بوضع باطن يدي اليسرى على رأسها ومقدتُ شعرها الأشيب. لم أكن ألمسها أو أقبلها إلا مرة أو اثنتين في السنة في الأعياد. وآخر مرة مسدت فيها شعرها كنت لم أزل طفلاً وكانت هي
قد ورثت بموت أمّنا عبء الاعتناء بي وبإخوتي الصغار بالرغم من صغر سنها. كانت في الخامسة عشرة عندما أجبرت على التخلّي عن حلمها بأن تكون راهبة، وكرّست ما تبقى من حياتها لكي تطعمنا وتسهر على راحتنا. وكرّست ما يتبقى أثناء ذلك، وبعد انتهاء
واجباتها، للتعبّد في البيت أو في الكنيسة . تركتُ يمناي يدها المتخشبة لأمسح الدموع التي بدأت تهطل. قبلتُ جبينها البارد وقلتُ لها وكأنها لم تزل تسمعني : الله يرحمكي في الصورة المعلقة على الجدار فوق سرير حنّة كانت مريم العذراء، الممتلئة نعمة، تتوشح بالأزرق وهي تحتضن ثمرة بطنها، انبثق عمود النور الإلهي من قلب السماء فوقها، وتحلّقت الملائكة
حولها ترفرف بأجنحة صغيرة، وبالرغم من غبطتها بيسوع، بدت عيناها وكأنهما تنظران إليّ وإلى أختي بشيء من الحزن
ظلّت دموعي تترقرق وأنا أصلّي لروحها، كما صلّت لي عمراً بأكمله «, أبانا الذي في السموات ... ثم أردفتها بـ "السلام لكِ يا مريم، الممتلئة نعمة. الرب معك. مباركة أنت في النساء، ومباركة ثمرة بطنك يسوع. يا مريم القديسة، يا والدة الله، صلّي لأجلنا نحن الخطاة، الآن، وفي ساعة موتنا، آمين .ترك القلم الرصاص يسقط من يدي. ها هو الماضي يعود ليذكرني بحنّة، وكأني كنت أقوى على نسيانها أصلاً، مشيتُ نحو غرفتها التي كنتُ قد قرّرتُ أن تظل كما كانت. فباستثناء ملابسها التي
طلبتُ من إحدى بنات أخواتي، بعد انقضاء العزاء، أن تجمعها من خزانة الملابس الصغيرة وأن تأخذها إلى الكنيسة ليوزعوها على الفقراء، بقي كل شيء كما كان عليه في حياتها . فتحتُ الباب وخطوث خطوة إلى الداخل. كانت غرفتها مظلمة وباردة كالقبر. كبستُ على الزر الذي كان على الجدار إلى اليمين، فلم ينقشع الظلام. تداضرت بأن الكهرباء مقطوعة، وحتّى لو لم تكن مقطوعة، تذكرتُ بانى لم أغيّر ذلك المصباح أبداً بما أن نورها اختفى من الغرفة فقد قرّرت ألا أغيره أبداً. وحتى عندما جاءت النسوة ممن تبقى من العائلة في بغداد وبعض الجيران ليغسلن جسدها ويمشطن شعرها ويلبسنها ملابس نظيفة تليق بسفرتها الأخيرة إلى القبر، قلت لهن إن الشمس تكفي في النهار وطلبت منهن أن يوقدن الشموع في الليل. لا بد أن مها هي التي أسدلت الستائر بعد أن نظفت الغرفة لإني كنت أبقي الستائر مفتوحة. قالت لي بعد أن

يا مريمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن