اجتمعنا مرة في مجلس شيخٍ نجدي قد نقش الدهر على جبينه الأعوام وابيَضَّت شعر لمَّته لتخالف الأيام. وقد جاوز التسعين منذ سنين، وبرغم تقدمه في السن، كانت عيناه لا تزالان تلمعان ببريق الحكمة وتجارب هذه الحقبة. رغم أن الزمن قد أثقل كاهله وقرَّب آجله، إلا أن ابتسامته الهادئة لم تفارق مجلسه يوماً.
وكما تعلمون محبتي لمجالسة الشيوخ الكبار لأجتني منهم الحكمة والثمار. فقلت بعد انقضاء نصف النهار وقد هدأ المجلس ولا تسمع أحداً يهمس: "يا شيخ!! حدثنا عن عجائب دهرك وغرائب عصرك".
فرفع الشيخ حاجبيه اللذين أثقلهما الدهر من على عينيه وقلَّب طرفه بين الحضور، ثم صمت برهة كأنه يفكر فيما يقول. ونحن صامتون نتحرى جوابه ولا ندري ما أصابه. أحاطت بنا حالة من الترقب، وتبادلنا النظرات في تعجب، كأننا نقف على أعتاب معجزة تنتظر أن تُكشف لنا.
بعد لحظات تحدث بصوته الذي شرخ فيه الزمن وأبان فيه الوهن: "إن أردتم سأحدثكم عن إحدى رحلاتي ولكنها لن تدخل أفهامكم وقد تكذبني أحلامكم. فإن شئتم أن تنقلوها عني وتحدثوا الناس أنها تخاريف صدرت منِّي فلا جناح عليكم فقد عذرت زمانكم".
فقلنا بأصوات مختلطة:
"حاشاك والذم على من عاداك".
"ما نعلم منك إلا حسن الذكر".
"أمين القول، محمود السيرة، وكريم العشيرة".
قهقه الشيخ وقال: "هذا ما قالته قريش لرسول الله قبل أن ينبئهم برسالته ويبلغهم بأمانته".
وأتبع كلامه قائلاً: "لا بأس، فقد كبر سني ورقَّ عظمي، فلم أعد آبه بكلام الصبيان ولم تعد تخدشني تهم الأقران. لذا سأقصها لكم...".
أنت تقرأ
الرحلة المخفية
Adventureاجتمعنا مرة في مجلس شيخٍ نجدي قد نقش الدهر على جبينه الأعوام وابيَضَّت شعر لمَّته لتخالف الأيام، فنشر سراً من أسراره وحكى قصة من أخباره تضاد المألوف وتخالف العرف والمعروف