كانت الإبل الثلاث تكفينا تماماً؛ إذ كانت الناقة الثالثة محمّلة بكل أمتعتنا. لم نترك شيئاً للصدفة، فاشترينا مياهاً إضافية وحمّلنا الناقة بقدر ما استطاعت حمله من الماء والمؤن. كنا ندرك أن الصحراء لا ترحم، وأن أي خطأ قد يكلفنا حياتنا.
قررت أن ننتظر حتى شروق الشمس كما طلب منا لننطلق في رحلتنا المحفوفة بالمخاطر، لكن صالح كان مُصِرًّا على أن نتحرك باتجاه الغرب معتمدين على البوصلة لتحديد الاتجاه.
"الرجل أعطانا مسار واضح، ليه كل هذه الفلسفة؟" قلتُ له بنبرة يمتزج بالاستغراب والجدية.
أجاب صالح بثقة: "يا صاحبي، الأمر واضح كوضوح الشمس. الرجل كتب لك رسالة بلغة قديمة، وهذا يعني أنه ما يدري بوجود اختراع اسمه البوصلة."
نظرت إليه بابتسامة ساخرة وقلت: "طيب يا أبو المعرفة، أولاً هي ليست لغة بل خط، ثانياً لو ودَّك فتوكل على الله. أما أنا سأتبع المسار مع شروق الشمس، وخذ معك الناقة الثالثة، واضح أنك بتضيع."
ضحك الشيخ قليلاً وهو يتذكر تلك اللحظة، ثم أردف قائلاً: "كنت أتحدث من باب السخرية، إذ لم أتوقع أن يفعل صالح ذلك بالفعل. لكنه أخذ الأمر على محمل الجِد والتحدي فأخذ الناقة الثالثة قائلاً إنه سينتظرني في تلك الخيمة إذا لم أستطع اللحاق به. كنت أريد إيقافه، ولكني لم أفعل. لا أدري لما لم أفعل ذلك... انطلق صالح معتمداً على بوصلته مع غروب الشمس، بينما بقيت أنا أنتظر حتى شروقها لأتبعه."
كانت ليلةً طويلةً وصعبة، أقرُّ بذلك. جلستُ وحدي، غارقاً في أفكاري، مشوشاً وقلقاً على صالح. كنت أرغب في اللحاق به في أقرب فرصة. وما إن صليت الفجر وتبيّن الخيط الأسود من الخيط الأبيض، حتى انطلقت كسبعٍ يتبع فريسته.
سرت لساعات تحت شمس الصحراء القاسية، والشمس تزداد ارتفاعاً وحرارةً. شعرت أنني بدأت أحترق من شدة لهيبها. لسوء الحظ، لم أستطع رؤية شيء بوضوح بسبب الموجات الحرارية التي كانت تضلل رؤيتي. حاولت جاهداً العثور على آثار صالح أو ناقة ثالثة في الرمال، لكن الرمال الناعمة والمتحركة كانت تخفي الآثار بسرعة.
أوقفت الناقة عند إحدى الصخور البارزة. كانت كبيرة وكأنها نصبٌ تذكاري في وسط هذا الفراغ اللامتناهي. نصبتُ خيمتي الصغيرة التي أحضرتها معي، وشربت القليل من الماء بحذر خوفاً من أن تنفد مني قبل أن أجد صالح. صليت الظهر، ثم اضطجعت داخل الخيمة، وأغمضت عيني منتظراً أن تنخفض درجة الحرارة لأكمل مسيرتي.
ولكنني استيقظت على شيء مختلف تماماً... كان البرد القارس يعصف بجسدي. خرجت من الخيمة مسرعاً، لأفاجأ بأن الظلام قد حلَّ وغربت الشمس. شعرت بصدمة كبيرة، كيف نمت كل تلك الساعات بلا أن أشعر؟ كيف فاتني الوقت هكذا؟ البرد كان شديداً لدرجة أنني لم أستطع حتى الوضوء بالماء، فتيممت وقضيت صلواتي الفائتة جمعاً وقصراً. لم أستطع تحديد الاتجاهات في هذا الظلام الدامس، فجلست أراقب النجوم متمنياً لو أنني تعلمت علم الفلك لأستدل بها.
عدت إلى خيمتي، رتبت أمتعتي، وبدأت أذكر الله حتى بدأ شروق الشمس. شعرت أن اللحظة التي أنتظرها قد جاءت. ركبت الناقة، حمّلت كل متاعي، وشددت السير هذه المرة بأسرع ما يمكن، مصممًا على أن ألحق بصالح.
الحرارة بدأت تشتد من جديد، واقترب وقت الظهيرة. شعرت بالتعب الشديد وأخذت أرى أمواج الحرارة تتراقص أمامي. ثم فجأة، لمحت خيمة قائمة في نهاية الأفق. كان منظرها غريباً، وكأنه سراب، لكن أملي في العثور على صالح دفعني لمواصلة السير.
اقتربت من الخيمة وأنا على وشك الإعياء من لهيب الشمس. عندما وصلت، فوجئت برجل يخرج من الخيمة، يلبس ثياباً فاخرة، ويتبعه بضعة رجال. كانت ملامح الرجل تشير إلى شخصية قوية ونافذة.
سمعته يقول لأحدهم وهو يركب ناقته: "ابعث بأهل بيتي إلى العراق، وخذ معهم ما يُصلِحهم. وأكتب لي كتاباً إلى سابور تُبلِّغه بذلك."
غادر الرجل مع قومه بسرعة، تاركاً الخيمة خلفهم. وبينما كنت في حيرة من أمري، خرج رجل آخر من الخيمة ونادى باسمي: "يا عبدالله، أقبِل وعَجِّل!" ثم دخل مجدداً.
شعرت بالدهشة والحيرة تملآن كياني. ما الذي يفعله كل هؤلاء في وسط الصحراء؟ كيف يعرفون اسمي؟ هذا ليس سراباً...!
تقدمت نحو الخيمة ببطء، وقلبي ينبض بقوة. دخلت إليها متوقعاً أي شيء، ولكن ما رأيته داخل الخيمة كان أبعد من أي خيال...
كحكح الشيخ وسعل، ثم صمت برهة وكأنه يستجمع قواه للحديث عن تلك اللحظة العجيبة، ثم قال بصوت متهدج: "لن تصدق يا ولدي ما رأيت في تلك الخيمة... كان شيئاً لم يُخلَق مثله في البلاد..."
أنت تقرأ
الرحلة المخفية
Adventureاجتمعنا مرة في مجلس شيخٍ نجدي قد نقش الدهر على جبينه الأعوام وابيَضَّت شعر لمَّته لتخالف الأيام، فنشر سراً من أسراره وحكى قصة من أخباره تضاد المألوف وتخالف العرف والمعروف