لم أستطع العودة إلى الشيخ في اليوم التالي كما كنت أنوي. شغلني أمر مفاجئ واضطررت للسفر إلى الحجاز لإنهاء بعض الأعمال. بالكاد مرَّ الأسبوع حتى أعلن المنادي فرض الحظر على الجميع في أنحاء البلاد.
عدتُ إلى كتبي وكتابتي، أنتظر انتهاء هذه الطامة. مضى شهرٌ وعليها حتى طال عليّ الأمد. وكم كانت فرحتي عندما سمعت بإلغاء جزئية حظر السفر. انطلقت على الفور إلى أرض نجد، فالشوق لمعرفة بقية القصة أفقدني صبري. لكني فوجئت بخبر وفاة الشيخ بعد رحيلي بأيام قليلة.
عاتبتُ أحد أبنائه قائلاً: "لماذا لم تُبلغوني؟"
اعتذر قائلاً: "لقد شغلنا أمر العزاء، ثم جاء المرض والحظر الذي أصاب الجميع، ولم ننتهِ حتى الآن من ترتيب أمتعة والدي."
لم أُرِد أن أثقل عليهم أكثر. ترحمتُ على الشيخ ودعوتُ له بالمغفرة، ثم ودعتهم وعدت إلى النزل الذي نزلتُ فيه. وكما يقولون: "رجعتُ بخفي حنين". تشابكت في ذهني الأفكار واختلطت المشاعر مع هذه الأخبار.
لم يعد لديَّ عمل في منطقة نجد، جهزت أمتعتي ودفعت حساب النزل الذي قطنت فيه الأيام الثلاثة الماضية، وقدمت لهم بعض الملاحظات لتحسين جودة الخدمة. تقبلوها بابتسامات عريضة وصدور رحبة، وشكروني على ذلك، إلا أني أدرك أنهم سيضربون بها عرض الحائط فورَ خروجي من الباب.
بينما كنت مشغولاً بترتيب حقائبي في السيارة، سمعتُ أحداً يناديني، فالتفتُ نحوه. لقد كان أصغر أبناء الشيخ النجدي يركض نحوي. توقف عندي وبدأ يلتقط أنفاسه، ثم قال: "ما بك مستعجل للذهاب هكذا؟ لم تبقَ هنا سوى يومين".
صححت له: "ثلاثة أيام". ثم أضفت: "في الواقع أنه لم يعد لديَّ شيء يبقيني هنا. زيارتي كانت لأجل والدك رحمه الله، ولم أكن أعلم بوفاته قبل مجيئي".
أجاب بنبرة متأسفة: "صحيح، لم ينتشر خبر وفاته بسبب منع التجمعات، وكان العزاء خفيفاً وسريعاً كموته رحمه الله. فقد نام ليلته تلك، ولم يستيقظ بعدها. وقال لنا قبل أن يذهب إلى فراشه: 'لا تنسوا صلاتكم وأحكموا مبادئكم، فإنها حصن حصين لا تستطيع سموم أعدائكم اقتحامها'."
صمت قليلاً، ثم أضاف معتذراً: "آسف لقد أطلتُ في الحديث قليلاً. تفضل، هذا كتاب والدي. فقد طلب مني بعد آخر زيارة لك أن أعطيك إياه مع هذا الكيس الصغير إن عدت، قائلاً إنه قد لا يراك قريباً."
دمعت عينه رغم محاولته المريرة لكبحها.
وهل ألومه؟ إنها الرحمة التي زُرِعت في قلوبنا. أخذتُ منه الكتاب، وكان يبدو كدفتر أو مذكرة مهترئة بلا عنوان. أما الكيس، فكان يحتوي على شعرة الفرس، لكنني وجدت فيه أيضاً قطعة معدنية مصممة بشكل غريب لم أستطع معرفة ماهيتها في ذلك الوقت. ربتُّ على كتفهِ شاكراً له على تسليم الأمانة. ودعني بابتسامة وهو ذاهب، وقال: "تذكر، إنه ليس بكتاب سحر أو شعوذة".
لم أفهم ما يقصد حينها، لأني لم أتصفحه حتى عدت إلى منزلي. كانت مفاجأة غير متوقعة، فقد ظننت فعلاً أنها طلاسم وشعوذة.
قلّبتُ جميع الصفحات ولم أفهم شيئاً. وكعادتي، قررت أن أسلك أقصر الطرق وأسهلها لمعرفة ماهية هذه الرسوم. فاتصلت بالفتى في اليوم التالي، وسألته عن تلك الطلاسم.
أجابني قائلاً: "لا أدري أيضاً."
فقلت له متعجباً: "إذاً كيف كنت متأكداً أنها ليست سحراً أو شعوذة؟"
ضحك بخفة وقال: "لقد أخبرتك بما أخبرني به والدي عندما تفاجأت بدوري لما رأيت تلك الرسومات. وأنت تعلم أن والدي رجل عبادة وتقوى، وليس له في تلك الأمور لا جمل ولا ناقة."
وافقتُ على قوله، وأنهيتُ المكالمة. بعد التمعن والتفكير في تلك الرموز، بدت لي وكأنها مألوفة، بقيتُ أياماً أحاول أن أتذكر أين رأيتها سطرها الأول كان:
وطبعاً دائماً ما أصل لحاجتي إذا تمثلتُ بقول الشاعر:
لا تعجلنَّ لأمرٍ أنت طالبُهُ
..............فقَلَّما يدركُ المطلوبَ ذو العَجلِ
فذو التأني مصيبٌ في مقاصدهِ
..................وذو التَّعجلِ لا يخلو من الزللِ
اكتشفتُ معاني تلك الرموز، وسأدون كل ما تفرغت من الكتاب في بضعة أسطر هنا. حتى أني اعتدت على أشكالها وبدأت أقرأها كما تقرأ أنت هذه الأحرف الآن.
أنت تقرأ
الرحلة المخفية
Aventuraاجتمعنا مرة في مجلس شيخٍ نجدي قد نقش الدهر على جبينه الأعوام وابيَضَّت شعر لمَّته لتخالف الأيام، فنشر سراً من أسراره وحكى قصة من أخباره تضاد المألوف وتخالف العرف والمعروف