[..الفصل الثامن..]

29 7 11
                                    

اقترب موعد أذان الفجر، ولم ألحظ إلا الآن أنني الوحيد الذي بقي في ذلك المجلس مع بعض أبنائه فتوقف الشيخ عن حكاياته وأشار إلى أحد أبنائه ليعينه على النهوض. كان الشيخ يتوكأ على ذراعه، وكأن الزمن قد أثقل كاهله. انسحب بهدوء ليذهب ويتوضأ.

استغل أصغر أبنائه الفرصة، واقترب مني وهمس بلهجته العامية: "تدري أن الوالد ما حدَّث بهذه القصة أحد، حتى أنا، ابنه، متفاجئ. أول مرة أسمعها منه." كانت ملامحه تحمل الدهشة والحيرة، وكأنه اكتشف سراً دفيناً عن أبيه.

ثم أضاف بنبرة مترددة، وكأنما يخشى من تأثير كلماته: "اختفى في شبابه بدون أثر، ولما عاد رفض أن يخبر أحداً عن خبره... اختفى مدة طويلة، ما أحد يعرف وين كان."

قاطعه عودة الشيخ، وماء الوضوء يقطر من لحيته المحناة، كأنها رواسب الزمن تسيل مع الماء. نظرت إلى الشيخ بنوع من الاحترام والتقدير، فهو رجل يحتفظ بداخله بأسرار قديمة لا تزال تطفو على سطح الذاكرة.

وبعد عودتنا من المسجد، قلت للشيخ: "لا بد أنك منهك يا عم، ما رأيك أن أعود إليك في وقتٍ آخر؟"

ابتسم الشيخ بأسلوبه البسيط الذي اعتدت عليه، وقال: "إني شيخٌ في المظهر، ولكن لا زلت شاباً في المخبر. سأكمل لك جزءً يسيراً حتى لا أنسى أين توقفت."

قلتُ مبتسماً: "حُباً وكرامة، فالفضول يقتلني."

أكمل الشيخ حكايته: "سرتُ في أمان الله ورعايته، كما وصف ذلك الرجل، باتجاه الشروق وقت الغروب، حتى حلَّ الظلام وتقدمت جنود البرد تقودها رياح الليل. بعد مسير طويل وشاق، رأيت سلسلة صخور تمتد كحائط، وليس حجران كما توهمت من بيان صاحب السرير. كنت مرهقاً لأني لم أنم منذ الفجر، والبرد القارس كان يأكل جسدي والرياح لا تتوقف عن الهبوب."

توقف الشيخ لحظة، وكأنه يسترجع تلك اللحظات الباردة والمرهقة. "بدأت أتقوى بنور الهلال الخافت لأجد مغارة بين تلك الصخور لأبيت ليلتي حتى تخف البرودة وتهدأ الرياح العاتية. وجدت عدة شقوق، لكنها كانت ضيقة جداً، لن أتحمل البقاء فيها أكثر من بضعة دقائق، ناهيك عن الناقة والعنقاء."

ثم أكمل وهو يتذكر تلك اللحظة بوضوح: "نزلت لأتفحص إحدى المغارات، لكنها لم تكن مناسبة أيضاً. ولما رأتني العنقاء عائداً خائباً، انفلتت وركضَت لا تلوي على شيء. قلتُ بيأس: 'يالله، هذا ما كان ينقصني الآن.'"

تابع الشيخ: "ذهبت أتَّبِع أثر الفرس الذي كاد أن يخفى بسبب الريح، وناقتي بدأت تعاند قليلاً، لا أعلم ما بها. وبعد دقائق معدودة من مسيري، وجدت منفذاً كمدخل كهف يعبر إلى الناحية الأخرى. واكتملت فرحتي عند رؤيتي للعنقاء جالسة بين المنفذين لتتَّقي البرد. فهمتُ لاحقاً أنها تعمدت الهروب أمامي لأتبعها."

ابتسم الشيخ وكأنه يتذكر كيف نجت حياته بفضل تلك الفرس. "من الجيد أنني لم أعتمد كليًّا على الناقة الثالثة التي أخذها صالح. فلقد حملت معي رزمتين أو ثلاث من الحطب احتياطاً. قد لا يكفيني أكثر من أربعة ليالٍ، ولكنه أفضل من لا شيء. أشعلت النار واتكأت على الجدار بجانب ناقتي وفرسي العنقاء، فلم أعد أمتلك طاقة تمكنني من تجهيز الخيمة. تلحفت بردائي لأنام بسلام."

الرحلة المخفيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن