قال الشيخ: "قبل ستة عقود، عزمت على أن أطوف هذه البلاد وأصادق العباد من شرقها إلى غربها، ومن سمائها إلى أرضها. زرت مختلف البقاع، بدءً بالمنطقة الشرقية ثم مدائن صالح، مرورًا بمنازل القصيم، ووصولًا إلى وادي الريم. وارتحلت إلى تبوك وتعرفت على مختلف العادات، ورأيت من أهل البادية أجمل الصفات، وتعلمت الصيد في جبال السراة من كرام الرماة. مضت السنين وأنا أجول وأكتشف وأرتحل من هنا وهناك. وفي أحد الأيام، حنَّ قلبي لزيارة بيت ربي، وكان قد هلَّ هلال الحج، فعزمت على أداء هذه الفريضة عن أمي المريضة، رحمها الله تعالى. تعلمون أن الحج قديماً لم يكن سهلاً يسيراً كما هو الحال اليوم، ومع ذلك، يا الله، لقد كان أجمل بكثير رغم مشقته إلا أن البساطة كانت تيسره. كل مرة أتذكر تلك الأيام، يا لها من ذكريات "ألا ليت الشباب يعود يوماً....فأخبره بما فعل المشيب". أكمل الشيخ كلامه بعد حنينه الذي أبانه: "عدتُ إلى دياري لأرتب لرحلتي التي عزمت عليها ورُمتُ إليها. بعد ثلاثة أيام، ودَّعتُ الجماعة، وركبت الحافلة ملبياً نداء الملبين مع أهل هذه الطاعة. بعد مسيرة يوم، وصلنا إلى ذلك البيت المعمور، وكان كالعادة مزدحماً بالعاكفين والركع السجود حول الكعبة التي تشير لربٍ معبود. طفت وصليت وكبرت لربِّ البيت، وكان عليَّ أن أبيت بمزدلفة، بعد أن غربت شمس عرفة والمكان كان مكتظًّا. فرآني أحد الرجال فقال لي: "تعال وبِت هنا"، ثم أفسح لي مجالاً بقربه. تعرفت عليه وتحادثنا طويلاً تلك الليلة. لقد كان طالب علم قدِم من الشام، فروى لي بعض الأحداث والصعوبات التي واجهته بطريقه إلى مكة. ورويت له عن أسفاري ورحلاتي الكثيرة". سكت الشيخ قليلاً غارقاً في ذكرياته، فقاطعه أحد الحضور قائلاً: "طيب يا شيخنا، القصة عادية، وين العجب بالموضوع؟!"
فرمقناه بنظرات لائمة، كأننا نقول له: "يا عديم الحياء، اسكت قطع الله لسانك."
من حسن حظه أن الرجل العجوز كان حكيماً فقال: "لما نفخ الله في آدم الروح حتى وصلت إلى ركبتيه ذهب لينهض، فقال الله تعالى:(خُلق الإنسان من عجل). ربما أطلت عليكم، اعذروني فالسن له دور كبير في ثرثرتي." ثم أتبع قوله ضحكة خافتة.
شعر المتكلم بالحرج وسأل من الله الفرج، وحاول الاعتذار وتلطيف الأجواء، ولكن ما نفع الرأس بعد أن وقع الفأس. وكما نقول: "سبق السيف العذل". في تلك الساعة أذن مؤذن العشاء، وقال الشيخ لبنيه: "آتوني بالماء والدواء". قمنا للوضوء والصلاة وقدموني للإمامة، فقرأت فيهم الفاتحة والقيامة. بعد الصلاة، ذهب بعض ممن حضر وانشغل البعض الآخر بالأحاديث والسمر. جلست حينها بجانب الشيخ وقلت: "هلَّا أكملت لي ما بدأته يا شيخنا؟". قال الشيخ: "ذكرني أين توقفت؟"
فقلت: "عندما حدثت الشامي عن رحلاتك وأسفارك". استذكر الشيخ وقال مكملاً قصته: "نعم، صدقت. فقال لي الشامي ممازحاً بعد أن حدثته برحلاتي: "لعلك عثرت على مدينة النحاس أو إرم ذات العماد التي بناها شداد بن عاد". فأجبت متعجباً: "وما تلكما المدينتان؟ فأنا لم أسمع بهما قط".
أنت تقرأ
الرحلة المخفية
Aventuraاجتمعنا مرة في مجلس شيخٍ نجدي قد نقش الدهر على جبينه الأعوام وابيَضَّت شعر لمَّته لتخالف الأيام، فنشر سراً من أسراره وحكى قصة من أخباره تضاد المألوف وتخالف العرف والمعروف