سألته بتلهف وقد ازداد فضولي: "وما الذي رأيت في تلك الخيمة يا عم؟"
أجابني الشيخ بنبرة غامضة وعيناه تغوصان في ذكرياته البعيدة: "ربما تظن أنها تخاريف، ولكن ما رأيته لن يستطيع حتى خيالي أن ينسج مثله أو يُدركه. وسط الخيمة كان هناك سرير كبير، ملقى عليه رجل. فقال لي بصوت هادئ: 'اقترب لأراك'.""عندما اقتربت منه، أفزعني شكله. لم أرَ في حياتي شيئاً كهيئته. كان جسده مسطحاً كالسطيحة، بلا أطراف أو أعضاء، ووجهه في صدره. لقد هالني منظره وتجمّدت في مكاني."
ثم تابع الشيخ، مسترجعاً تلك اللحظة العجيبة: "الرجل تحدث بصوت هادئ لكنه مرعب: 'قد أقبلت وما أدبرت كما تنبأت. أما رفيقك صالح، يا له من رجلٍ طالح، سلك غير الدليل حتى أخطأ السبيل. صدقت العرب فيما تزعم: عدوٌّ عاقلٌ ولا صديقٌ جاهل.'"
استيقظت من دهشتي عندما ذكر صاحبي، فصرخت بغضب: "صالح! أين هو؟ لا بد أنه وصل إلى هنا قبلي".
غضب الرجل وانتفخ جسده بشكل غير طبيعي حتى جلس بطريقة غريبة، ثم قال بصوت ملؤه التهديد: "يا هذا! لقد أنبأتك وصاحبك بلباسه، وذكرت له مفتاح داره، ثم يركب هواه ويظن أني لا أراه! لم أجعل الشمس لكم دليلاً إلا لأنها تميل في الشروق يميناً."
شعرت ببعض الجرأة وقلت بصوت مرتجف: "إذاً أين ذهب؟ وكيف أجده؟ ومن أنت؟ ولماذا طلبت حضورنا وكيف تعرفنا؟"
تنفس الرجل بعمق، وعاد جسده إلى حالته واسترخى على سريره مجدداً، ثم قال بهدوء: "رفيقك قد شق الغبار حتى انتهى إلى شِقِّ أنمار، وسوف يبعثه في النهار إلى باب الأنوار. ولن تستطيع إدراكه. ولكن إن أردت لحاقه، فاقضِ لي ما دعوتك لأجله قبل انقضاء أجَله. أما بقية الأسئلة فلا فائدة منها، لأنها بائدة."
شعرت باليأس وقلة الحيلة فتنهّدت قائلاً: "مكرهٌ أخاك لا بطل. إذاً، ما حاجتك؟"
تقدم نحوي أحد خدمه، يحمل شيئاً غريباً في يده. لا أعرف كيف أصفه لك، لكنه كان أشبه بكيس أو حقيبة من قماش بني، خشن ككيس الأرز، ومربوط بحبل فيه عدة عقد من كل جانب.قال الرجل المسطح بنبرة تحذيرية: "سيكتمل البدر بعد ليالٍ عشر. فسر وقت الغروب باتجاه الشروق، ستجد حجرين وكأنهما عاشقان. نم في غارهما، وأنشد بينهما:
'فشـق أنهارًا إلى أنهار ... وحط من سلمى إلى القرار
ومن أجا الغار وغير الغار ... صخر ذوات الهام من سفار'إن لم تفعل ذلك، فارثِ لحالك وعُد برحالك. بعد أن تستيقظ، اتبع الخيط المضيء عندما يضيء. واحذر أصحاب الليل فهم العِبر، وأهل النهار لديهم الخبر. وأسرع في المسير عند اكتمال المنير، فعليك أن تشق بطن الليل بحوافر الخيل، وستصل مع بزوغ المصباح إلى بيتٍ تلفُّه الرياح في الصباح. سلِّم ربة المنزل هذه الوديعة، ثم سلِّم فقد اقترب موتها ومات عنها زوجها"
ثم نادى خادمه: "يا بهاء، أعطِ هذا الرجل العنقاء"
أردف الرجل المسطح محذراً: "إياك أن تركب هذا الخيل في غير الليل، ولا تحاول فك تلك العُقد إن لم تُرِد أن تُفتقد ثم أنشد:
'وما المرء إلا كالشهابِ وضوئهِ
.........يحورُ رماداً بعدَ إذ هوَ ساطعُ
وما البِرُّ إِلا مُضمراتٌ من التُقى
............وما المالُ إِلا مُعمراتٌ ودائِعُ'."
كانت كلماته كالسياط على عقلي. ألغازه وتعقيد حديثه كادت تفلق رأسي. تساءلت في نفسي: لماذا لا يرسل أحداً من خدمه بدلاً عني؟ وتذكرت أنه لم يدلني بعد على مكان صالح، فسألته بتوتر: "لم تخبرني بأمر صاحبي! هل سيكون بخير حتى أصل إليه؟"
أجاب الرجل الغريب كأنه قرأ ما يجول في نفسي: "لا يمكن لمن ذهب إليها مرة أن يعيد الكرَّة وليس في مجلسي غيرك يا جليسي. أما ما يخص صاحبك، فقل لخادم تلك الدار أنك تبحث عن كنوز العلم والأدب، لا كنوز الفضة والذهب، وسيرشدك إلى باب الأنوار بإرادة الجبار."
ثم ابتسم ابتسامة مخيفة وقال بصوت يشوبه شيء من السخرية: "ولا تقلق عليه، ستجده قد حسَّن سليقته وغيَّر طريقته."
خرجت حالاً بدون أن أنطق بكلمة، عقلي كان مشوشاً للغاية. وجدت خادمه في الخارج يقف بجانب خيل، لكنه لم يكن خيلاً عادياً. كان أقرب للخيال، تعجز الكلمات عن وصفه. لون شعره أحمر كألسنة اللهب، وبؤرتا عينيه شديدتا السواد. وكأنه مخلوق من السماء الذي اختلط بالعبير والهواء. كانت رائحته تنعش الروح وكأنها تعيد الحياة إلى جسدي المنهك.
قال الخادم بلهجة آمرة: "هذه العنقاء، فخذها وامضِ."
أخرج الشيخ من جيبه كيساً صغيراً مربوطاً بخيط دقيق، وأخرج منه شعرة حمراء وقال: "هذه يا بني شعرة من تلك الفرس."
أخذت أتفحص الشعرة بدهشة، كان لونها غريباً جداً. من شدة حمارتها ظننت أنها تضيء من تلقاء نفسها.
عاد الشيخ إلى حديثه قائلاً: "رغم الإرهاق الشديد وضيق التنفس الذي كنت أشعر به، أخذت بزمام تلك الفرس، وامتطيت ناقتي. وجدتهم قد ملأوا رحلي بالطعام والشراب. بدأ الغروب، فانطلقت باتجاهه رغم أنني لم أفهم نصف ما قاله الرجل."
أنت تقرأ
الرحلة المخفية
Adventureاجتمعنا مرة في مجلس شيخٍ نجدي قد نقش الدهر على جبينه الأعوام وابيَضَّت شعر لمَّته لتخالف الأيام، فنشر سراً من أسراره وحكى قصة من أخباره تضاد المألوف وتخالف العرف والمعروف