آهٍ يا بني، كل مرة أتذكر ذلك الطريق، كان طويلاً وشاقاً جداً. لم تكن السيارات في ذلك الزمان كما هي اليوم. كنا نسافر في فرن متحرك، لم يكن يصبِّرنا عليه إلا سرعته فقط، وإلا لامتطينا خيلاً أو إبلاً أو حتى بغلاً. لم يكن هناك نظام الخرائط الذي تستخدمونه اليوم ليسهل طريقنا؛ كنا نعتمد على الخريطة الورقية والبوصلة ووصف سكان المناطق.
كان هدفنا أن نقطع الربع الخالي وصولاً إلى صنعاء اليمن أو حضرموت، بما أن المدينة الضائعة يجب أن تكون في مكان ما في الصحراء، لذا لم يعثر عليها أحد حتى الآن. صلينا صلواتنا في الطريق، وأضاع صديقي صالح مفاتيح بيته وأزعجني بسؤالي عنها كل دقيقة حتى شعرت بالصداع، فنمنا في إحدى المحافظات. حصل بيننا نقاش حاد في موضوع خاص، حتى تخاصمنا عليه وتصالحنا بعدها بقليل.
وصلنا أخيرًا في اليوم التالي إلى آخر محطة في طريقنا، حيث تبدأ الصحراء بعدها بعشرة أميال تقريباً. نزل صالح ليشتري بعض العصائر والمكسرات من الدكان، وللسؤال إن كان هناك أحد قريب يبيع إبلاً أو يؤجرها.
توقف الشيخ ضاحكاً ثم قال: "عندما أفكر في الأمر، أشعر ببساطة تفكيرنا في تلك الأيام كمن يذهب إلى حقل ألغام ويتناول الحلوى في طريقه. تدرك أن نسبة استخدامنا لعقولنا كانت محدودة، وهذه نتيجة الطيش والفتوة في تلك الفترة."
لم أقاطع الشيخ فقد كنت مستمتعاً بكل كلمة يقولها.
وأكمل الشيخ قصته: "ذهبت لأملأ خزَّان الوقود لتكفينا حتى نصل إلى طرف الصحراء أو مكانٍ قريب لبيع الدواب. كنت غارقاً في تفكيري، هل ما نفعله جنون ويستحق العناء؟"
صرخ صالح من عند باب الدكان: "عبدالله، تعال بسرعة."
أتى عبدالله وقال: "سلامات، لمَ الصراخ؟"
قال صالح منصدماً: "ما بتصدق كلام صاحب الدكان!!"
دخل عبدالله حتى قال صاحب الدكان بدهشة: "تماماً كما وُصف لي. أنت عبدالله، أليس كذلك؟"
كان صاحب الدكان يمنياً، يعتمر عمامة خضراء ويتحدث بالفصحى.
أجاب عبدالله مازحاً: "لا، أنا أم عبدالله، ألا ترى؟"
قال صالح وقد مسه الغضب: "عبدالله، ماهو وقت المزاح. الرجل يعرفنا ويعرف أسماءنا قبل ما أدخل دكانه ويدري أننا بنكون عنده في هذا الوقت."
تفاجأت لأنني لم أرَ هذا الرجل في حياتي. كيف يعلم أننا سنكون هنا؟ فأنا لم أخبر أحداً بوجهتي. توقعت أنه يكذب في البداية، أو يحاول الاحتيال علينا وأن الأسماء جاءت مصادفة أو بطريقة ما لا أعلم. فسألته عن اسمه وكيفية معرفته هذه الأمور.
قال صاحب الدكان بعد أن علمنا بأن اسمه جلال: "لقد أتاني البارحة رجلٌ متلثم بعمامة سوداء، من جهة الصحراء، وقال لي: غداً سيأتيك رجلان في مركبة حمراء. أحدهما اسمه صالح يرتدي ثياباً داكنة، حاسرٌ عن رأسه، والآخر يُدعى عبدالله يرتدي الأبيض من الثياب، وعلى رأسه كوفيَّة..."
قاطع صالح قائلاً: "كوفية؟! شكلها نوع من المشاكل الفكرية."
قال عبدالله بنفاذ صبر: "قبل دقائق تقول لي ماهو وقت المزاح!! الكوفية هي هذا الشماغ، فرحم الله والديك اسكت واترك الرجل يكمل كلامه. هلَّا أكملت حديثك يا جلال؟"
أكمل جلال حديثه: "إنه يقول لكما أن تمشيا مسيرة يومين وليلة عكس اتجاه شروق الشمس وستريان خيمة هناك."
قال صالح بلا مبالاة: "قطاع طرق، لا! ويطلبون أن نمشي لخيمتهم!! قد لا نكون أذكياء، لكن حتى درجة غبائنا لا تصل لهذا المستوى."
تذكر جلال شيئاً فجأة وأخرج من أحد أدراجه رقعة من جلد، وقال: "طلب مني أيضاً أن أعطيكم هذه."
كانت رقعة من جلد حيوان مكتوبٌ عليها:
"ا ں مڡاٮـٮـح ٮـٮـٮـك ڡى الاسود مں ٮـٮـاٮـك
ڡعحل الٯدوم ڡالموٮ ٮـحوم والٮـوم لا ٮـدوم."
قال صالح وهو يحك رأسه: "يا سلام، بدأت الطلاسم، وباقي ما وصلنا الصحراء. بداية خير."
أخذتُ الرقعة وطلبتُ من جلال أن يحضر لي قلماً. بدأت أُنقِّط وأمسح حتى اتضح المعنى.
قال صالح ساخراً: "ما شاء الله، ساحر تائب، عندك خبرة بالطلاسم."
قال عبدالله: "هذه كتابة العرب الأصلية يا جاهل. النقاط لم تُوضع إلا في العصر الأموي بسبب الأعاجم اللي مثلك ما يعرفون يقرؤون. تأكد من الموضوع." ثم التفت إلى صاحب الدكان وقال له: "يا جلال، هل تعلم أحداً قريباً نبتاع منه إبلاً؟"
ذهب صالح ليتأكد من أمر الرقعة.
قال جلال: "صحيح تذكرت، لقد ترك الرجل ثلاثة من الإبل خلف هذه المحطة وقال إنكما ستسألان عنها."
بعد عدة دقائق عاد صالح مهرولاً والدهشة تملأه.
قال صالح وهو يحاول أن يستعيد أنفاسه: "عبدالله، صاحبنا هذا أتوقع أنه ساحر. كيف عرف مكان مفاتيحي؟"
كان الأمر غريباً جداً. يأتي رجل من الصحراء إلى دكان يبعد عشرة أميال على الأقل، ويخبر صاحب الدكان أن هناك رجلين سيأتيان، ويصف له هيئتنا، ويعطيه رقعة بخط قديم، ويهدينا ثلاثة من الإبل، ثم يطلب منا أن نأتيه، ويضع لنا الاتجاه الذي يجب أن نسلكه!!
كنت يا بُني حائراً، لا أستوعب ما يجري. فكرتُ في الأمر مليَّاً، وأخيراً قلت: "صالح، أركبت الإبل من قبل؟"
رد صالح: "لا تقلها."
قال عبدالله بأسلوب ساخر: "نعم يا صديقي، هناك رحلة تنتظرنا، وشخص يجب أن نشكره لأنه عثر على مفاتيحك المفقودة."
أنت تقرأ
الرحلة المخفية
Avventuraاجتمعنا مرة في مجلس شيخٍ نجدي قد نقش الدهر على جبينه الأعوام وابيَضَّت شعر لمَّته لتخالف الأيام، فنشر سراً من أسراره وحكى قصة من أخباره تضاد المألوف وتخالف العرف والمعروف