رجل سريع الذوبان..
{ من نهاية كل معبر ضيق، تولد حكاية.. }
غلمان الحي ملؤوا أجواء الصباح بالنشاط، يتأرجحون بأشعاعات الشمس فوق الارصفة تأخذهم ارجلهم و الحافلات إلى المدارس.. صبيان و فتيات يشعون بالصحة و الحماس مقبلين على الحياة بوجوه مستبشرة و نفوس بريئة، خالية من الزيف و الكذب، خالية من الوجع.. حسدهم صفوان على حالهم الخفيف، و قلوبهم الصغيرة البيضاء.. أكبر مشاكلهم الآن عدم احراز علامات جيدة، أو يلفت الصبي نظر فتاته التي بالصف الثامن، او اقناع احدهم المدرب بنفسه ليختاره ضمن فريق المدرسة.. بينما تهتم الفتيات بفكرة البروز؛ احداهن تريد ان تبدو الاجمل، و أخرى ساخطة على الزي المدرسي الذي يظهرها كطفلة، اما الأخيرة مغتاضة من صديقتها التي فضلت أخرى عليها.. كم تبدو الدنيا بخير لو كانت كل المشاكل كتلك التي يعيشها الفتيان، و الصبايا فتهون كبار البلايا على الكبار، و تقل وطئة اثقال البلايا !
عاجز و محطم تنهد يفرك وجهه المرهق بكلتا يديه يبتغي الصحو من اجل النهوض بعد أن افاق من جموده على صوت طرق الباب.. يجر ساقيه جرا ليفتح لموظفي شركة التنظيف، طلبهم ليزيلوا انقاض جنون ليلة الأمس، و اثار قهره و ما تبقى من اطلال حياته.. استعان بهم ليساعدوه على درء احراجه بعد أن حطم مضافة صديقه.. و ليتهم يزولوا بمكانسهم رماد صاعقة حرقت قلبه و يرشوا مطهراتهم فوق إضمحلال جرحه.. لا يعرف بعد كيف سيتنفس و يعيش أن كان فقد سبب الحياة، و القدرة على التنفس و مواصلة العيش ! ليلة واحدة فقط كانت أقسى ليلة في حياته تمادت بقساوتها على ليلة وفاة أمه.. كان دونها و بعيدا عنها و الأبلغ وجعا يقينه أنها تتقلب على نار هجره منهارة متهسترة تصرخ مستغيثة بأسمه.. آه طويلة انخلعت من صدره ترافق دموعا حثته على الهروب من أمام اعين العمال لاجئا إلى رحب الطبيعة.. مستقبلة اياه بأذرع مفتوحة تحفه بنسمات الصباح تحمل له رائحة البحر و رمل الشواطئ و خبز الذرة العابق من شباك الكنيسة.. ابتسم ملتفتا يتابع حركة الراهبات في الميدان يوزعن خبزهن المتواضع و وجبة افطار صغيرة على مساكين تجمعوا ككل صباح للحصول على وجبة افطار مجانية تهبها لهم راهبات الطهر المتبتلات.. تركن العالم، ليهتمين بالعالم.. يجعلون هذه الدنيا بكل مآسيها و دنسها مكانا أجمل.. يدعون و يبتهلون ترفرف حولهم الملائكة محتفلة بصلواتهن.. كل هذا الجمال حوله و النقاء، وهو الوحيد الملوث بالمعاصي و الهموم.. ليس خالي القلب كنفوس الصغار، و لا طاهر الروح ككيان الراهبات..
اشاح بوجهه محرجا حين اقبلت عليه أخت راهبة تتهادى كالملاك تحمل بيدها قطعة قماش ابيض ملفوف في باطنها خبز الذرة و بعض الجبن الابيض المصنوع باليد حملتها إليه تهاديه بمنتهى الطيبة.. وجدته واقفا يحدق بهم بفضول ملو الثغر بأبتسامة مكسورة، فبادلته ببسمة مراعية و عزومة من القلب الى القلب، تدعو لو بمقدورها ازاحة همه البارز من نظرته و الصادر بأشعاع متوهج من هالته.. و حقا فعلت.. شعر و كأنها مدت يدها تمسح بها فوق باطن فؤاده المذبوح..
بأحراج كبير تقبل منها الهدية يشكرها معتذرا..
_ اتأسف منك.. لم اقصد التحديق..
.. بصوت معطر بنفحات سلام تكلمت بخفوت لم تفارق البسمة محياها..
_ على الرحب.. رأيتك تقف بعيدا، فجئتك القي السلام..
.. و ما اروع ما لفته به من سلام.. ابتسم اكثر للملاك الارضية، أو البشرية السماوية.. الجميلة بلباسها المستور و ردائها الذي ولد حولها نورا يصرح بأنتمائها للإم العذراء القديسة.. ثم ما لبث منتبها على نفسه متحكما بأحتقان وجهه و تجمع دموعه، و صحح لها مختنقا بخجله فعلى ما يبدو أن الأخت اختلط عليها الأمر و تصورته مسكينا عزيز النفس جاء في حرج سائلا على وجبة الفطور.. محقة لو ظنت؛ حالته الرثة و شكله المشعث يظهره كالمتشردين !
_ احم.. أنا أنزل ضيفا هنا، في مضافة الأب الكاهن جميل..
.. غير معقول ما يصدر منها من طمأنينة ! تجعل صخب الشارع هادئا، و زجير البحر القادم من خلفهم ناعما..
_ أهلا بك.. حتى لو كنت ضيف الأب جميل، أو عابرا في سبيلك فقطعة الجبن هذه رزقك.. كتبت لك في السماء مع خروج الخبز من الفرن..
.. ضاعت منه الكلمات تائه في جمال صوتها و عذوبة منطقها.. رمش بخفة حين ختمت نفحاتها المسكية..
_ تفضل لتشاركنا الصلاة، الأب جميل سوف يكون هنا قريباً..
.. تعرق وهو يقول محرجا..
_ أنا.. أنا لست..
.. توسعت بسمتها فأشرق وجهها اكثر، مع احتقان وجهه هو اكثر و اكثر..
_ بيوت الله للجميع، و انت مرحب بك اكيد..
.. ناظرته قليلا مما اربكه كأنها تتوغل بأعماقه المظلمة المشوبة.. ثم استطردت قائلة في غموض..
_ لا شيء يحدث صدفة.. نحن لا نسير في ملكوت الله اعتباطا.. كل شيء مقدر، و هذا ما جاء بك.. سأوقد لك شمعة، و أصلي ليجد قلبك السكون..
.. ثم استدارت عائدة في هدوء كما جائت تجتاز الساحة الكبيرة الفاصلة بين كنيسة الحي و المضافة.. مكان اخضر كطقعة من الجنة جعلها الأب جميل والد صديقه مؤيد وقفا دينيا لخدمة الناس و استقبال المستطرقين و لأحياء المناسبات و القداس.. واهبا ماله و مضافته و بيته و ذريته لخدمة بيت الله و الملكوت..
رفع صفوان قطعة الخبز الساخنة الملفوفة إلى فمه يستنشق عبقها مغمض العينين باسم الشفتين.. يتذكر حزينا دهشة حبيبته و اسئلتها الحمقاء في نفس هذا المكان حيث يقف برجلين بائدتين و جسد يئن قبل سنوات خلت..
_ كيف يعني إنك ابن الكاهن ؟!!
.. و التفتت بلهاء الملامح تطالع صفوان الذي انفجر ضاحكا على شكلها و إحمرار صديقه تنتظر منه جوابا يغلق لها فمها المدهوش ! فتحدث مؤيد يشرح..
_ في بعض العقائد الأمر جائز، و في غيرها يتعهد الكهنة بالعزوبية.. بكل الحالات على المؤمن أن يزهد ملذات الدنيا و يكرس نفسه لخدمة العالم..
.. اعاد صفوان لواقعه صوت تكسر الأمواج فوق الصخور المكسوة بالطحالب الخضراء و المحيطة على طوال الجهة الخلفية للمكان المقدس الكبير.. رغم بساطة الحي، لكن عراقته تنطق من بين درابينه المعروجة و ازقته الضيقة.. تنهد وهو يرجع ادراجه سائرا على الحجر الاسمنتي المبلط منه الميدان و ما حوله.. مشيدة على الميحط المميز بنايات عتيقة ذوات طراز معماري فريد يخص تلك المنطقة لوحدها..
دلف إلى الداخل يوزع نظره على عمال التنظيف وهم يقومون بعملهم بشكل دؤوب.. أراد أن يشاركهم خبزه، رزقه الطيب الذي وهبه له الله برسالة تحمل دعوة لم يفهمها، بيد بتول ملائكية تسير على خطى العذراء.. بعض الغشاوة على حالها تعتم رؤيته، لكن رحمة الله لاتنضب فساقه لعند مؤيد، كما ساق له الزاهدة تحمل مشعل النور بلفافة الخبز..
رفع رأسه حين تحرك الباب الخلفي الموارب من ناحية البحر يطل منه مؤيد مالئا فتحة الباب المستطيلة بطوله و بجسمه العريض و على وجهه بسمته البشوش و التي سرعان ما بهتت و هو يحملق متفاجئا بالعمال بزيهم الموحد باللونين الرصاصي و البرتقالي و هم يتجاوزوه حاملين اكياس نفايات كبيرة ملئت حتى ثقلت يخرجون بها يومؤن له بتحية من روؤسهم المعتمرة بقبعات برتقالية متشابهة كتب عليها اسم الشركة التي وضفتهم.. يتحرك رأسه معهم تباعا كأنه يعدهم فاتح عينيه بغباء اضحك صفوان غصبا عنه..
_ من هؤلاء ؟!! و ما كل هذا الاكياس التي أخرجوها من هنا ؟!
.. تحدث بسرعة وهو يتقدم إليه مستعجلا..
.. على نفس ضحكاته المتسلية، أوضح يناظر صديقه المتسائل بأمتنان، و الكثير من الاحراج..
_ أردت أن انظف فوضتي، لأعفيك من الاحراج أمام اهلك.. يكفيك ما تورطت به بسببي إلى الآن.. اتعبتك معي و شغلتك عن عائلتك ليلة الامس.. بالمناسبة، سأدفع حق كل ما طالته يداي من تخريب.. وقبل أن تعترض قمت بتحويل النقود لحسابك و استحلفك بالله أن لا تردهم..
.. أسرع قائلا يقاطع استنكار مؤيد الذي ظهر بأنفتاح عينيه و دهشة وجهه.. و بين شد و جذب اقتنع مؤيد اخيرا.. ليباشر بممارسة اكثر ما يبرع به؛ الاهتمام بتفاصيل كل من حوله..
_ لم يكن عليك ذلك يا صفوان، لا تشغل رأسك بهذه الأمور فهي محلولة.. دعنا من كل هذا، و طمني عنك يا صديقي..
.. بصوت حنون كما كل شيء فيه تسائل وهو يضع يده على كتف صديقه.. لم يشيء صفوان أن يبكي أمامه، عاض على اسنانه بقوة حتى ارتعش، و انتقلت رعشته لذراع صاحبه حتى سرت بكامل جسده تصل إلى عينيه لتتفجر منها الدموع.. ضحك صفوان بلا روح ساخرا من نفسه فمحاولاته بعدم احزان مؤيد مرهف المشاعر بائت بالفشل الذريع.. تكلم مؤيد مجدداً بينما يمسح دموعه..
_ زيد قلب الدنيا عليك بالامس، و اختك سحر و السيدة فريدة.. و طبعا اكثرهم ندى..
.. يطالع دامع العينين وجه صاحبه المقطب الهارب.. فأردف ناصحا..
_ لا أريد أن تروي لي ما حدث، لكن أريد أن تسمع مني و ترجع إلى بيتك لتطمئن قلب زوجتك و اهلك.. مت من قهري حين اخفيت وجودك هنا عنهم تلبية لطلبك، الا زيد فقد كان متأكدا انك هنا، و لم أجد سببا لعدم اخباره.. بالاخير هو سيحترم حقك بالعزلة مثلي تماماً.. صوت ندى المتوسل قبض على قلبي، و لهفة السيدة فريدة طردت النوم من عيوني.. و بالي المشغول عليك يا صديقي لن يدعني ارتاح حتى اراك بحال احسن..
.. تنهيدة عميقة افرغ بها تكاثف الألم من سماع اسمها و شعوره الحارق بحالتها، و رد باسما بتمثيل مكشوف متهربا بوضوح من الموضوع..
_ أنا بخير يا مؤيد، اجعل قلبك يرتاح..
.. اجلى صوته معقبا بمرح كسول..
_ قل لي.. هل بداءت السنة الدراسية مبكرا هذا العام ام أنا متوهم ؟
.. بضحكة يائسة من كبر صديقه اجاب مؤيد..
_ المدارس الاهلية فقط باشرت بالدوام.. اما الحكومية ستبداء في الأسبوع القادم، مثل كل عام منتصف الشهر التاسع..
_ على سيرة المدارس، بأي صف صار التوأم ؟
.. لمعت مقلتا الأب بحنية ميجبا صفوان بأبتسامة اعرض..
_ أنهما في الصف الثالث الابتدائي هذا العام.. و التوأم الجديد اتمتا شهرين و بضعة ايام، و الاسبوع القادم تعميدهن.. لاتنسى، عليك ان تكون حاضرا يا اخي، و سأفرح اكثر لو كانت ندى بصحبتك..
.. بهدوء التمس من صديقه المرهق.. يتابع شرود عينيه البائستين و خطوط الكآبة التي رسمت بحفر عميق على ملامحه.. تنهد مؤيد مربتا على ساق الاخر المجروح كأنه يخبره أن كل شيء سيكون على مايرام.. لف رأسه صفوان اليه مرغما شفتيه تبتسمان ممتنا لرفيقه الطيب..
مؤيد.. أو الرجل الأخضر.. ما أطلق عليه المدربون حين كان يلعب في فريق كرة القدم المحلي للناشئين، لشراسته و قوته و ضخامة جسده ما جعله مهاجما و رأس حربة لا يستهان به.. يرعب الخصوم و يشتت الهجمات معيدا الكرة إلى فريقه ليصنع زيد هجمة مرتدة و يهدف صفوان بركلة لا تحيد عن شباك المرمى.. صديق صدوق و شاب متدين و انسان خلوق صاحب أكبر قلب على الإطلاق..

YOU ARE READING
بارقة امل
Truyện Ngắnفوق أرض جرداء تخطو، متشققة ارجلها .. لاهثة النفس عطشى الروح .. ياسمين، كرونق اسمها هي .. تصبو لتحقيق السعادة و العدل لمن حولها، تشع بالحب من تحت اكداس القهر .. عند محطة اليأس، ظهر هو .. فارس .. بمعدنه و اسمه .. من محرقة الماضي نهض، نافضا عنه رماد ال...