الفصل العاشر

104 8 10
                                    

اتراه مثلي، مبتليا بالشوق !

انتفض علي من مكانه لم يستوعب عقله ما زفه بأبتهاج كبير صوت ضرغام المغتبط من نبأ ! فتح عينيه ذاهلا يستمع لترددات الاخر الاخذة بالتسارع تماشيا مع دقات قلبه، متجمد عقله لثوان فهذا التأكيد السعيد القادم من بلاغ ابن عمه لا يعقل صوابه.. فتسائل بخفوت ليتثبت مم سمع..
_ ماذا قلت لتوك ؟
_ قلت أن ياسمين حامل ! ابنتي ياسمين تحمل حفيدي في بطنها.. كدت انفجر و أنا اجلس كاتما فرحتي أمام فارس أثناء العشاء، تماسكت بأعجوبة لكي لا اخرب المفاجئة على ياسمين !
.. رفرف علي بأجفانه ملصقا سماعة الهاتف على اذنه يمعن بتركيز شديد لتعقيب ضرغام الاخير، ليهمهم باهتا..
_ مفاجئة !!
.. و كأن ما اسهب به بنشرته الاخبارية لم يكن كافياً، ليضيف سعيداً..
_ أجل.. ياسمين تريد أن تفاجئ فارس قلبي بخبر حملها بنفسها..
_ ضرغام.. هل اخبرتك ياسمين أنها حامل ؟!
_ هي لم تفصح بعد، اخبرتك أنها تحتفظ بالخبر الحصري لأبني.. له السبق الاول !
.. تنهد علي محتارا، مهادنا ضرغام.. لم يشيء أن يطفىء فرحته فقدم تبريكاته بالخبر السعيد على مضض و أنهى المكالمة عازما على التحدث مع عقيلة ليستعلم منها لو كان هنالك أمرا لا يعرفه..
مع استحالة جزئية الحمل بالطبع، لكن الموضوع لا يخلو من تفاصيل جديدة على ما يبدو.. و بينما يتسامر الزوجان كما كل ليلة أمام التلفاز، تقدم منهم علي مبتسما تكاد عيونه تقفز على صحن المكسرات الذي احتكرته عقيلة في حجرها.. لا سيما وهو يتضور جوعا بعد تلك الوجبة التي ينطبق عليها المثل القائل ( لا تسمن، و لا تغن من جوع ! ) فقال أثناء جلوسه إلى جانبها..
_ يبدو اني جئت بالوقت المناسب..
.. تبسمت المرأة بوجهه بأصفرار ترده بسخريه..
_ أبعد كرشك هذا عن صحني ! الاكل بأنواعه ممنوع عليك بعد الثامنة مساءا.. الصقت جدولك الصحي امامي على الثلاجة لكي لا انسى، و حفظت جميع مواعيد تدريباتك و كم و نوع الطعام التي حددها لك يزن..
.. و بين ضحكات الزوج الكهل المتسلية على شكل الرجل المقصوف، خرج صوت علي لا مباليا..
_ انه يهذي ! هو وجدوله ذاك.. لن احرم نفسي من نعم الله لأحصل على بطن مسطح.. لا نية عندي لأشارك بالاولمبياد !
_ انه من اجل صحتك، و لا ضرر من تحسين مضهرك.. الكولسترول مرتفع عندك يا علي، و لديك تلك المشكلة الجديدة بأرتفاع انزيمات الكبد.. عليك الانتباه إلى نفسك، و اتباع الحمية تلافيا لتفاقم المسألة..
.. ايد السيد وهيب زوجته، كذلك علي.. ليستأنف الحديث على نفس نمط الجدية..
_ عقيلة، أريد أن اسألك؛ كيف هي أحوال ياسمين مع فارس ؟ هل حدثت مستجدات بينهما، أو تطورات بعلاقتهما، مثلا ؟
_ حدث الكثير يا علي، ام انك لست منتبها ؟
_ بلا، أستطيع أن أرى اشراقها، و التغيرات الطفيفة بفارس نفسه.. هنالك تحول واضح جدا بعلاقتهم، لكنني بالطبع لا يمكنني التدخل أو السؤال.. تعرفين فارس.. يضع الكثير من الحدود لا احب أن اتجاوزها معه.. و بالنسبة لياسمين لا أريد أن احرجها.. لكن اكيد انت يمكنك التحدث معها بأريحية، و هي أيضا معك..
.. ابتسمت عقيلة بشكل افره قلب علي، و اردفت بما زاد ابتهاجه، مع وخزة خوف مجهول يساوره مؤخراً..
_ ياسمين واقعة بالحب يا علي، يمكنني أن أرى هذا في عينيها.. هي لا تدري، لا تعرف أن تسارع نبضاتها حديث العهد بسببه، و منه هو يحدث تخبطها.. ارتباكها ارتعاشها و بسمتها و تخضب وجهها كلما جائت سيرته.. آه يا علي.. ما يحدث لها الآن اعادني إلى سنين بعيدة خضت فيها حرباً مع نفسي و القبيلة لأحضى بالعشق.. عشق الدخيل.. من احتضنت النفي من جذوري لأجله، و رحبت بفراق سلالتي في سبيله..
.. بكل شاعرية تدفقت كلماتها الخافتة تضفي لمعة بعيون زوجها المناظرة بهيام لم تقدر على ثنيه رذالة العمر و قهر الاستبعاد و جبروت الهروب لنبع عينيها الذي لم يجف ما فيه من تيم.. تيم خلق فيها بتدخل قدري لسبب غير معلوم.. تنامى بداخلها متجذرا بأصول قوية ناحية الدخيل الغريب الذي هوت منذ اينعت اغصانها.. فصنعت لها معه من عشقه أصل، و عالم كبير نفت إليه روحها بمنتهى التصالح.. مستكفية به.. مستغنية عن حق الامومة مودة إليه.. و عاشت سنوات من الحب تغوص بعمق قلبه الكبير، تقبض من حنانه ثمناً من السعادة.. صورة خالدة لحب افلاطوني..
ببسمة غرام لا ينتهي ربتت على يده المجعدة التي ارتعشت فوق خدها، و استدارت نحو علي المبتسم بتأثر تستكمل حديثها..
_ و هو مثلها يا علي.. السيد فارس ازاح مكاناً في قلبه لها.. فاتحا جدرانه العالية لأحتوائها.. و مع ما تعيشه ياسمين من أمان في معيته، ازهرت فيها حياة، و حبا اراه أنا حقيقيا رغم هشاشة صاحبته.. و هي.. لمست روح السيد فارس فأرغمته على الشعور، و احيت قلبه المخذول و اطمئن.. آمن لها، فأقترب.. و ليس بعيدا أن يعلن خافقه قريباً عن أول نبضة حب.. أنا أؤمن جدا بتلك التصاريف الإلهية، و التهيئات القدرية و كل رمزيات أدت إلى التقائهما..
.. و مع ابتسامة علي العريضة، ربع ساقيه تحته و أولى كل جسده الممتلئ و عيونه ناحية عقيلة يوصيها بحزم لحوح..
_ ما دام كلانا وصل إلى هذا الفهم اذن الأمر أكثر من محتمل.. و هناك أيضا ما ينقله لي ضرغام، و ما اراه أنا بعيني من اختلافات غير مفهومة بفارس.. يأخذنا كل هذا لنقطة مهمة جداً؛ وهي توعية ياسمين..
_ أنا أفعل ما بوسعي معها.. انصحها دائما أن تكون واعية لما عليها أن تفعل لتضع لنفسها بصمة بحياة زوجها.. علمتها الطبخ و الاهتمام بكل التفاصيل التي تجعل منها ربة منزل جيدة، و تواصل ناهدة متابعتها.. و كذلك كيف تكون امراءة منضبطة و مسؤولة.. كيف ترعاه و تهتم بكافة احتياجاته من غير أن يطلبها.. تهتم و تتفهم، تداري و تلين و تهون الصعب..
_ لا يكفي هذا يا عقيلة.. نحن أمام كيان جبار متجمد مثل فارس، و تلك المجريات البديهية ليست نقاط ارتكاز قوية.. لن يجدي هذا مع فارس لأنه ببساطة اعتاد أن يحصل عليه و اكثر من كل من عرفهن.. و صدقيني هو لن يهتم أن طبخت له او غيرت ديكورات البيت أو حتى لو نسقت له ملابسه.. عليها أن تريه قوتها، جديتها، و الأهم بما لا يقبل الخطأ مرونتها.. عليها أن تريه اختلافها، فارس يحتاج إلى رفيقة قوية بمقدوره ايداعها ثقته دون خوف من أن تخذله..
.. و بحكمة المرأة التي صارعت الحياة مسنودة على عشقها الوحيد، اضافت عقيلة ما اسكت الافواه و استحوذ على دفة الحوار..
_ فارس يحتاج إلى أم !
.. ابتسمت بهدوء و اردفت تطالع خضراوتي علي المركزتين بعينيها المتيقنة..
_ اخبرتك انه اطمئن، لانه لمس اختلافها، بعد أن لمست هي روحه بتلقائية.. وجد فيها مصدرا للراحة، و صدقا واقعيا يخلو من كل زيف تعود هو على التعايش معه و تكريره.. أتفق معك بالتأكيد أن فارس كيان جامد، مستبد متبلد و يسير بحسابات باردة لا طعم للمشاعر فيها.. لكنه و مع كل ذلك رجل متعطش للحب.. حب يهبه هو من بعيد بلا ادراك لكل من يدخل دائرة اهتمامه يمارسه بأشكال متعددة، لكن يبقى وجهه واحد، و نابع بصدق.. و قد منحه لياسمين منذ أن اختارها لتلعب دورا اساسيا في سعادة أبيه.. تلك ببساطة حساباته الباردة التي تحدثت عنها.. و كذلك ما يقدمه من حب بتوفير حياة رغيدة و اسم عريق لياسمين معبدا لها مستقبلاً واعدا و اجزم انه بدعم ابدي وعد نفسه به حتى عند انتهاء دورها.. و هنا يأتي الدليل أن فارس ليس معقدا، أو صعبا أو ميؤوس منه.. هو تجمد فقط بفعل ما ضربه من صقيع قسوة اجبرته أن يكون ما عليه الآن.. و ياسمين تمكنت منه بدفئها الفطري.. كما تعلم، الدفئ يذيب القلوب..
_ و بماذا تنصحين، سيدتي..
.. ببسمة هادئة مليئة بالثقة تمتم علي.. يقابله بمثلها السيد وهيب يومئ له تأكيدا لليقين..
_ انصح أن تستمر ياسمين بعفويتها.. و نتركها تتسلسل بمراحل نضوجها لتفهم بشكل اوضح، و تعيش كل ما عليها أن تعيشه حتى تتعلم.. نسديها النصح من بعيد و نتركها هي لخياراتها.. بذلك ستمرن عقلها و تتوسع مداركها و ترى امورا عليها هي بنفسها اكتشافها، لن يفيدها أن فتحنا نحن لها عيونها..
و هنالك أيضا أمر اهم من شكل علاقتها بفارس.. وهو مصلحة ياسمين نفسها.. لا يمكننا أن نوجه بصرها نحو فارس فقط.. و أن نضع لها خطة للوصول إليه معتمين بصيرتها عن كل ما أمامها من دروب كثيرة ربما هنالك في احدها مستقبلاً افضل و حالا اكثر استقرار لها.. كل ما علينا فعله هو مساندتها لتكون اكثر مرونة لتتقبل، و أن لا تقاوم أي أمر خارج عن سيطرتها.. و نترك لها الخيار.. الحياة يجب أن تأخذ مجراها الطبيعي و ياسمين عليها أن تتناغم مع كل مجرياتها من دون مقاومة لكي لا تستنزف طاقتها، و تتألم، ثم تنكسر.. و بحجب الخيارات و تحديد هدف واحد، ستخفق، و تنجرف عن تطلعاتها.. صدقني يا علي اكثر ما جذب فارس بياسمين هو عفويتها، و بساطتها.. و البساطة ليست بالشيء الهين على الانسان أن يكون عليه.. كلما ارتبطت بالعمق و الفهم كلما تبسطت امامها اكثر مفاهيم الحياة تعقيدا.. و فارس من ضمن تلك التعقيدات.. يعني خلاصة القول؛ ما علينا نحو ابنتنا هو تعزيزها بالثقة و شد ظهرها بالمساندة.. و متى ما تلجئ لنا بأي أمر تحتاجنا لنقف معها، نسهله عليها بنصيحة تصب بصلب الموضوع.. هدف الأباء دائما رفع ابنائهم إلى الأعلى، بدون تدخل، أو توجيه نحو هدف واحد.. وهنا.. حين تصنع ابنة ذكية عميقة بمقومات معززة تكثف بساطة شخصيتها، و تفتحها، تكون قدمت لزوجها _ أين كان _ امرأة قوية.. مسؤولة، جدية و مرنة.. صدر حنون داعمة لرفيق دربها مهما تكالبت عليهم المصاعب..
أنا أريد أن ابرز بأبنتي ياسمين قوتها الحقيقية لنفسها أولاً، و لتؤدي رسالتها و ما خلقت من اجله ثانيا.. ربما اساليبي بدائية، لكنها الفطرة التي تشكلنا عليها نحن البشر.. و أن كان السيد فارس هو نصيبها الفعلي، و هو ما أنا اراه حقا، فليس عليها أن تكون اكثر من ماهيتها.. كينونتها و مدى تصالحها مع واقعها و ايمانها سيجلب لها السلام.. و نصيبها سيتوثق بأرتباط سرمدي لانها حضت به عن استحقاق.. و أن استحقها هو أيضاً.. إن عمل على تسوية نفسه و تعديل لخبطات كيانه.. على السيد فارس أن يرتب مفاهيمه، و يعمل بجهد للفوز بها.. إن لم يفعل فهو لا يستحقها.. و إن شجعناها نحن أن ترضى بالقليل منه نكون قد خذلناها، و خنقناها، بعد أن قتلنا استحقاقها..
اترك يا علي المجريات بينهما تتدفق لوحدها.. اترك لهما الخيار، و التعثر، و التخبط ليتعلما.. اتركهما لينضجا، و أن كان فارس تعدى الاربعين، لكنه جاهل بلا أدنى شك بتضاريس تلك المنطقة من خريطة كيانه.. اترك قصتهم ينسجها القدر بمشيئة الرب.. و لكل ساع حرثه..

بارقة امل Where stories live. Discover now