الفصل الأول:النهايات تعني دوما بدايات جديدة

125 2 2
                                    


على حافة بحيرة بإحدى المناطق الباردة الضبابية تتجمع طيور الفلامينغو الشهيرة. تراها تأخذ خطوة للأمام بانسجام تام و هي تتباها بسيقانها الرشيقة، تنفض ريشها اللامع بحذر ، ثم تشرع في الطيران بعيدا حتى تبدو مثل بتلات زهور وردية يتطايرها نسيم الشتاء بعيدا. وسط ضجة هذا الكرنفال المبهج قد لا ينتبه المرء لطير النحام التي لم تبرح المكان . على عكس طيور الفلامينغو فإنها لا تكتسب هذا السحر الانيق المبهر بل على الرغم من لونها الوردي فهي تجعل المكان أكثر قتامة. و فجأة اخذت الأخيرة في القيام بحركات دائرية سريعة النسق جعلت الأسماك تفر من تحت ساقيها إلى أعماق البحيرة حول ما يغلب انه طفلها . و أخيرا توقفت الأم و مالت تتحسس بمنقارها جسد طفلها الذي لم يتحرك منذ بداية هذه الرقصة العجيبة، تطمئن عليه ربما؟ لكن هاهي في مشهد يصعق له المتفرج تمزق صدره ثم تأكل أحشائه و هي تردد نحيبا غريبا اقل ما يقال عنه انه صدى للموت.

نهض الفتى يشهق و كانت حبات العرق تكاد تغطي كامل جبينه، نظر حوله يتفحص المكان بحذر و قد كادت مقلتاه تخرجان من مكانهما من شدة جحوظهما, ثم تنفس الصعداء. انه في غرفته المعتادة، فوق سريره الذي نام فيه قرابة عقد من الزمن.
"تبا" صرخ و هو يركل الوسادة بعيدا،
بعد كل شيء لم يتبق له سوى الشتم يدافع به عن نفسه،لقد حاول البكاء، الصراخ و التوسل لكن لا شيء يأتي بفائدة فهذا الحلم السخيف كان يراوده مدة إحدى عشر عاما دون انقطاع، لقد زار اثناءها عدة أطباء نفسيين، علماء نفس و حتى مفسري الأحلام لكن لا جدوى كلهم يخبرونه نفس الإجابة:
" انت لم تتعافى من حادثة انتحار والدك بعد، و هذا الحلم هو انعكاس لتلك المشاعر المكبوتة" (باستثناء مفسر الأحلام الذي أخبره بأنه يتزوج قريبا )
لكن لطالما شعر ان الأمر أكبر من هذا بكثير. فهو لا يتذكر هذه الحادثة المزعومة التي وقعت امام عينيه، رغم انهم يخبرونه أيضا ان عقله قد محاها كميكانيزم دفاعي و ركنها بعيدا في عالم اللايقظة.

أخيرا حرك رأسه يمنة و يسرة ليقطع حبل أفكاره
و مسح جبينه ثم سرح شعره الداكن بيديه إلى الخلف، و تفقد هاتفه قليلا ثم التف إلى جنبه يطلب النوم.
لكنه لم يستطع ذلك فقرر ان يومه سبدأ من هذه اللحظة.

~~~~

أمام مرآة الحمام أخذ يفكر بينما يتأمل نفسه

"سأذهب للسكن الجامعي اليوم لذا لا بد أن هذه الكوابيس ستتوقف بتغير المكان"

لقد كان بطلنا يمتلك إحدى تلك الوجوه التي تقدر على ان تدير كل الأعناق في الغرفة.
فبدأ بوجهه الذي كان على الرغم من شحوبه يخفي ملامح طفولية طامسة.
وصولا لشعره المموج الداكن الذي جعل عيناه تبدوان تحت انعكاس ضوء الحمام كقرص شفاف من العسل الذهبي الصافي و قد اجتمع فيهما كل من الحدة و النعومة.
اما شفتاه فكانتا أشبه بقطعتي كرز حديثتا القطف. و هكذا فقد كانت ملامحه خليطا متجانسا من الأنوثة و الذكورة.
و لم يكن وجهه الوحيد المميز لديه، فقد وُهب جسدا طويلا ذي بنية جسدية قوية و منكبين عريضين.
إن هذه الصفات مثلت عوامل مساعدة لجعله ماهو عليه الآن من فتى محبوب.
لكنه لطالما شعر أن الناس من حوله يعاملونه كحيوان أليف مؤنس أو كلوحة زيتية يبقونها معلقة على الحائط يستمتعون بالنظر لها و حتى انهم ينظفون بلورها، لكن لم يقترب احد بما فيه الكفاية و يتأملها ليكتشف أن هذه اللوحة الزيتية المزعومة ماهي إلا رسمة أقلام خشبية.

مرآة الماضيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن