الفصل الثاني

7 1 0
                                    

أومأ برأسه موافقاً و قال :
_ هناك بالفعل طرف خيط ..
و هو مهنته التي عرفناها من أوراقه في المرور ..
فهو صحفي ، و نحن من وقتها و حتى هذه اللحظة نبحث في نقابة الصحفيين عنه ! ..
لكن صورته لم تظهر بعد و لا اسمه ! ..
و كأنه تم محوه و محو كل البيانات الدالة عليه هناك !! .
مطت شفتيها بضيق و سألته :
_ و ماذا تريدني أن أفعل

بالتحديد ؟! .
ابتسم قائلاً لها :
_ سأخبرك ..
أولاً ، و بما أنكِ قد تكفلتِ بعلاجه حتى يستيقظ من غيبوبته ، فلتدعي أنكِ خطيبته .
رفعت حاجبيها لمنابت شعرها ، لقد جن وانتهى الأمر ! ..
كان من خيرة الشباب المسكين ! ..
ماذا فعلت به تلك القضية ؟! ..
فضحك على مشهدها ذلك و أشار بيده أن تنتظر و قال :
_ فخطبتك له ستمنحك حق طلب الدفاع عنه ، فستكونين المحامي خاصته ..


و ليكون لكِ الحق في إخفائه أيضاً ، بالتعاون معي بالطبع ..
لا يخفى عليكِ أنه ليس بمأمن من الغدر في تلك المشفى ، بما أننا نعرف أن الحادث و التعدي عليه بعدها هو لإقصائه حتماً من طريق أحدهم ..
فلا نعلم ماذا سيفعل إن علم أنه لا يزال على قيد الحياة ! ..
ثانياً ، حالما نرتب مكانه الجديد ، سنكون قد توصلنا لأي شيء يفيدنا لمعرفة هويته ، حتى لو اضطررت للذهاب و تفقد كل مكان صحفي في مصر بنفسي ، و.....

قاطعته بحماس لتسأله :
_ ألم تقل أن هناك بيانات له في المرور ؟ ..
أليس من بينهم رقم هاتف خاص به ؟! .
ابتسم و رد لها نقدها لتفكيره منذ لحظات قائلاً :
_ بلى ، يوجد رقم هاتف ..
لكن أنت تعرفين أنه قد سرق ، فلن نتوصل من خلاله لأي أحد يعرفه .
فقالت بسرعة باسمة :
_ حسناً لنتتبعه ..
الهاتف نفسه بالتأكيد سيكون مغلق و الخط كذلك ، وهو ليس هدفي من البداية ..
إنما أقصد شركة الاتصالات التابع لها ، ومن خلالها نستطيع أن نعرف كافة المكالمات و المراسلات التي تمت قبل

الحادثة ..
نعرف هويات من تحدث معهم ..
بالتأكيد سيوصلنا هذا لأهله و محل عمله .
حك مؤخرة رأسه بعد فترة من الصمت ..
هذه الفتاة شديدة الذكاء ..
لم لم أنتبه لتلك النقطة من
قبل ؟! ..
و بعد لحظات من الإحراج قال في غيظ مفتعل :
_ ألم أقل لكِ أن نتبادل
الأدوار ؟ ..
فليكن سنسير وراء ذلك الخيط الجديد ، مع متابعة تفقد نقابة الصحفيين ..

تبقى لنا مكان اختبائه .
سمعا طرقاً على الباب فأمر الطارق بالدخول ، لترفع حاجبيها بدهشة ! ..
لأن الطارق كان (ساجد) الذي صافح (يحيى) ملقياً عليهما السلام ، وسائلاً إياه :
_ هل اتفقتما أم لا زلتما
تتفاوضان ؟ .
ابتسم (يحيى) و أشار لها بالحديث ، لأنها لم تعطه موافقتها بعد ..
فابتسمت قائلة :
_ فليكن ..
و أنا لديّ مكان صالح لاختبائه .

قال بمرح :
_ يجب أن أعرفه .
و أكمل (ساجد) بإقرار :
_ وأنا آنستي سأعمل الحارس الشخصي لكِ .


***


في شركة ضخمة كان يجلس رئيس مجلس إدارتها يطلع على ملف أحدث مشروع لها ..
فسمع طرق باب مكتبه ، فأجلى صوته ليخرج قوي و هو يقول :

_ أدخل .
دلف مساعده باحترام شديد و أغلق الباب خلفه بإحكام ، ليقول بعدها بلهفة مشوبة بالقلق :
_ سيدي ، هناك فتاة ظهرت ، و تدعي أنها
خطيبته ..
و هي محامية ..
تحاول إبقاء ملف الحادثة مفتوح ، حتى يستعيد وعيه من تلك الغيبوبة التي غرق فيها .
نظر له باستفهام :
_ ذلك الصحفي يا سيدي ..
(قصي) ظهرت فتاة ت.....


قاطعه بملل قائلاً :
_ سمعت بداية حديثك ، فهل ستعيده ؟! ..
أعلم ما تقول ..
و أعلم أنها مخادعة ..
هي محض تمثيلية من الشرطة .
فقال الرجل لينبه رئيسه :
_ سيدي ، إنها تسأل عنه في كل مكان كان يتردد عليه ..
لا أعرف كيف عثرت عليه من الأساس ؟! ..
و ذهبت للجريدة التي كان يعمل بها ! ..
ابتسم رئيسه في ثقة قائلاً :


_ دعها تفعل ما تريد ، فكل ما كنا نحتاجه هو كسب الوقت ..
دعها تلهو فلن تصل لشيء ..
و عندما يظهر هو مرة أخرى فسيكون الأوان قد فات ..
يخسر هو و نربح نحن ..
هي محاميه ، و لو كان لديها ما هددنا به لكنا الآن في السجن .
ابتسم الرجل لذكاء رئيسه و سأله بفضول :
_ لم لم تأمرنا بقتله يا سيدي و اكتفيت بقرصة الأذن هذه ؟ .
ضحك الرجل بعبث سائلاً :


_ و هل احتملها ؟! ..
إنه في غيبوبة من وقتها ، رغم اختفاءه .
ابتسم مساعده و قال بسؤال :
_ هل تأمرنا بشيء بخصوص الفتاة ؟ .
فقال مولياً اهتمامه لعمله :
_ نعم ، راقبها جيداً ، و لا تحاول الظهور أمامها مطلقاً ..
الشرطة تستخدمها كطعم لنا ، فلا تعطيهم الفرصة بغباء ..
أفهمت ؟ 
حرك رأسه إيجاباً و قال :


_ فهمت يا سيدي ، استأذنك بالانصراف .
أشار له بيده ، فانصرف ..
و ارتسمت ابتسامة ساخرة على ركن شفتيه ، لما تفعله الشرطة من خطط مكشوفة للغاية ..
و غمغم بخفوت :
_ تلك الفتاة المسكينة ! ..
تساعدهم و هي لا تعرف أنهم غير قادرين على حمايتها ! ..


***



تتأمله بنظرة بها من الحنان و الشفقة ما يجعل شقيقها الأكبر يجز عنقها راضياً و مرتاح
الضمير ..
احبته و هو غائب هكذا عن الوعي و العالم
بأكمله ! ..
تقدمت و جلست على المقعد بجوار الفراش قائلة :
_ مرحباً (قصي) ، كيف حالك اليوم ؟ ..
والديك يبلغانك السلام ..
هل تعرف أنني قمت
بزيارتهما ؟ .


و أخذت تروي له ما حدث أثناء الزيارة ..
فبينما أخذت الشرطة تسأل عنه هنا و هناك ، تتبعت هي اسمه عبر مواقع التواصل الاجتماعي ، فوجدت ملف باسمه ..
و لدهشتها وجدت له صوراً و منشورات حتى لحظة كشفها للصفحة ! ..
كيف هذا وهو راقد في غيبوبة منذ عشرة أيام على الأقل ؟! ..
هداها تفكيرها هي و (يحيى) و أخيها إلى أن هناك من يتستر على غيابه لكي تستثنى هذه الصفحة من البحث ..
أو يترقبوا أن يبحث عنه أحد فيتعقبوه إليه ! ..


و قد عرفوا مكان عمله و عنوان أسرته ..
فذهبت إليهم ، ليسمع والده طرقاً على الباب ، فجاء يفتحه بسرعة و لهفة ظناً منه أنه ولده الوحيد الغائب ..
و قبل أن تصدر أي صوت سمعت والدته من الداخل تسأله بلهفة مماثلة للواقف أمامها :
_ هل هو يا (إبراهيم) ؟ .
رسمت خيبة الأمل بأقسى صورها على ملامحه و أجابها بحزن :
_ لا يا أم قصي ، ليس هو .
فابتسمت (سجى) قائلة :
_ مرحباً يا عماه ، هل تسمح لي بالدخول ؟ .



افسح لها المجال من دون أي كلمة ، و كأنه عاجز عن الأخذ و الرد من شدة حزنه لغياب فلذة كبده ..
فدلفت إلى الردهة لتجد امرأة خمسينية واضحة الطيبة في ملامحها ..
شعرت بالألفة و كأنها تنظر إلى والدتها ، فابتسمت و تقدمت منها تصافحها ببشاشة قائلة :
_ مرحباً أماه ، هل أنتِ أم (قصي الأحمدي) ؟ .
صافحتها السيدة و أجابتها بلهفة ، و لم تترك يدها بعد :
_ نعم ، يا ابنتي أنا هي ..
أتعرفين شيئاً عن ولدي ؟ .



أومأت برأسها إيجاباً على دخول الأب ، فسألته بصراحة :
_ هل من إثبات أنكما والديه
حقاً ؟ .
دهش لسؤالها ذلك ، و رغم هذا قال لها :
_ انتظري لحظة .
و خرج بسرعة ليذهب إلى غرفة ابنه ، و يأتي بالإثبات ..
و ما هي إلا لحظات قضتها في أسئلة لا تنتهي من والدته ، قد دخل و أعطاها بضع أوراق ..
كارت من كروت ابنه الخاصة ، بها اسمه و


وأرقامه الهاتفية و محل عمله و مهنته ..
صور له في مراحل شتى ..
بطاقة هوية قديمة منتهية الصلاحية ..
فابتسمت له شاكرة ، ووضعتها على الطاولة أمامها ، و لم تتأخر عليهما في الرد ، لأنها تعرف أنهما يسمعانها بقلبيهما الآن لا بآذانهما :
_ (قصي) بخير ، فلا تقلقا عليه ..
كان قد تعرض لحادث ، و ذهبنا به للمشفى ..
و هناك تم علاجه على خير لكنه في غيبوبة من وقتها ..
وقد استغرقنا وقتاً لا بأس به لنعرف هويته ..
لأنه لم يكن بحوزته شيئاً يدل


عليه .

فسألتها أمه في دهشة و دموعها أنهاراً على
وجهها :
_ ألستِ زميلته في الجريدة ؟! .
مطت شفتيها و أجابتها بتعاطف و هي تحتوي يدها الممسكة بها منذ البداية :
_ لا ، بل أنا من شاهدت سيارته وقت الحادث و أبلغت الإسعاف .
و أردفت بعد أن تنهدت بعمق :
_ هذا الحادث وجدت الشرطة أنه متعمد .



شهقت الوالدة بجزع على ابنها الوحيد ، فحاولت (سجى) و زوجها تهدئتها ، و قالت بسرعة :
_ هوني عليكِ أماه ..
هو بخير الآن ، و لا يعرف أحد مكانه .
و ابتسمت لها قائلة بمرح :
_ لكنني صنعت فيديو له و سأريك إياه .
تخلصت من يد أمه بلطف ، لتخرج هاتفها ، و تضعه أمام عيونهما التائقة للمحة من ولدهما ..
و انضم الرجل لزوجته من الجانب الآخر ليرى معها ..
شاهدوه على فراش أبيض نائم في وداعة ..



مستور الجسد بملابس المرضى ، و مغطى لصدره بغطاء خفيف ..
يخرج منه و إليه عدة أنابيب صغيرة لتمده بالحياة و تكشف عن نبض قلبه و مؤشراته الحيوية ..
فبكت المرأة بشدة و هي تأخذ الهاتف و تمطره بالقبلات ..
في حين قال الرجل برجاء و عينه تزرف الدموع هو الآخر :
_ خذينا إليه يا ابنتي .
فقالت بشفقة :
_ سامحاني ..


لا استطيع حتى يظل بخير .
إنما سأجعلكما ترونه و يسمعكما كل يوم إن شئتم .
و هنا قالت و هي تنظر إليه
بشفقة :
_ ها قد قصصت عليك لقائي بأبويك ، فهل أنت مستعد لسماع صوتهما ؟ .
لم تكن تنتظر منه رداً في الواقع ، بل أمسكت بهاتفها كي تقوم بتشغيل محادثة فيديو ، ووجهت الكاميرا لوجهه ..
فاستقبل والده المحادثة منادياً على زوجته ، التي كانت تعد له
الغداء ..


ظلا يتحدثان معه ، و يبثاه لهفتهما للقائه و الاطمئنان عليه ..
مسحت (سجى) دموع تأثرها فيما كانا يتوسلان ابنهما أن يستيقظ ..
و انهت المكالمة على مضض ووعد أنها ستفعل هذا كل يوم ..
و قالت له بخفوت :
_ والداك رائعين للغاية ..
هل تعرف هذا ؟ ..
تمنت تلك اللحظة أن تكون خطيبته بالفعل ، فلقد تأثرت بهم حد أنها باتت تتمنى أن تكون جزءاً
منهم ..



و تتمنى أن تهدي لذلك الراقد لمسة حنان و احتواء كي يشعر و يفيق من غيبوبته تلك ..
فجاء (سالم) شقيقها الأكبر و قال :
_ أليس هذا كافياً اليوم ؟ .
و أردف عندما رأى نظرة عينيها لذلك النائم :
_ حبيبتي ، لا أريدك أن تتشبثي بشيء ..
هو لا يدرك وجودك معه من الاساس ..
هذا الشاب بالتأكيد لديه أحد يشغل عقله و تفكيره ، و أنت لستِ على قائمته ..
فلا تصدقي كونك خطيبته .


تنهدت بعمق و وافقت أخيها على ما يقول ..
فهي قد أخفت (قصي) في غرفة معزولة في
عيادته ..
لا يدخلها سواهما ، و وقت أن ينصرف جميع العاملين معه ، أو قبل مجيئهم صباحاً ..
و تركته في رعاية أخيها و
حمايته ..


***




مر شهر على هذه الأحداث حتي بدأ (قصي) بفتح عينيه ، ليجد الصورة أمامها مشوشة ..
فأغمضهما مجدداً ليستعيد نشاط عقله بهدوء لكن أين هو هذا الهدوء ؟! ..
فقد طار مع قفزة تلك الصاخبة بجواره ! ..
ما إن شاهدته يفتح عينيه حتى صرخت من الدهشة و الفرح ، و تداخل معها أصوات مألوفة ، و انتفض على صيحتها :
_ لا ، لا تغلقهما مجدداً ..
افتح عينيك يا رجل ، لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة .



فتح عينيه على آخرهما بالفعل ذهولاً لما يسمعه ، و لم تكتمل دهشته بعد بل زادت عندما قفزت خارجة من الغرفة لتستدعي
أخاها ..
تأمل الغرفة البيضاء التي تحتويه باستغراب ، و حاول تذكر أي شيء فلم يستطع ..
دخل (سالم) و شقيقته ، و معها هاتفها ، و محادثة والديه لا زالت جارية ..
بينما الصمت عم المكان ليشاهدوا الطبيب و هو يتقدم منه ..
تفحصه (سالم) بهدوء و ابتسامة قائلاً :


_ حمداً لله على سلامتك يا بطل ..
كيف تشعر ؟ .
لم يجيبه لكن سأله بدهش و هو يشير بعينيه
لشقيقته :
_ من هذه ؟! .
فأجابه (سالم) بمكر :
_ ألا تعرفها ؟! ..
إنها خطيبتك يا رجل .
تلون وجهها بغضب و دهشة و حياء ، بينما الآخر قال مستنكراً :
_ خ ..
خطيبة من ؟! ..

ماذا تقول ؟! .
فضحك بمرح بينما هي عقدت حاجبيها ، هي تنظر لأخيها بغيظ و قالت من بين اسنانها :
_ لا تصدقه ، إنه يمزح ..
و سأريه نتيجة مزاحه هذا في البيت .
نظر (قصي) إليهما و كأنه ينظر لمجنونين هربا من مشفى الأمراض العقلية للتو ! ..
و كأنه ينقصه الآن ما يفعلانه ! ..
ألا يكفي أنه غير منتبه بالكامل ، و لا يعرف أين هو و كيف و ....
أعلن عقله عن توقفه إثر كل تلك الأسئلة التي لا يعرف لها إجابة ، و فقد وعيه ..
***

زووم إنحيث تعيش القصص. اكتشف الآن