الفصل الأول

12 1 0
                                    

_ حسناً أمي ، لم أتأخر إلى هذا الحد ! ..
ما زلنا في النهار حبيبتي .
سمعت هتافها المستنكر عالياً كاد أن يصم أذنها وهي تقول :
_ أي نهار هذا يا (سجى) ؟! ..
هل تمزحين يا فتاة ؟! ..
لقد تخطت الساعة الخامسة مساءاً ، و أوشك المغرب على الآذان ! ..


والدك سيقوم الدنيا و يقعدها فوق رؤوسنا ، فتعقلي و إلا أقسم أن انزع يدي و أترككِ له .
تنهد بابتسامة حنون رغم ثورة والدتها ..
فعائلتها متحفظة و حريصة للغاية ، هناك قانون يمنعهم من التواجد خارج البيت بحد أقصى للولد بعد المغرب بساعة أما هي البنت الوحيدة لشقيقان يكبراها ، فأقصى موعد لها خارج البيت هو قبل المغرب بساعة ..
وبينما هي تحاول أن تقنع والدتها أنها في طريق العودة ، إذ بسيارة متوقفة بغير نظام ظهرت لها عن بعد ..



فأبطئت حركتها حتى لا ترتطم بها و تتفقد الوضع بعينيها ، قائلة لوالدتها بهدوء :
_ أماه ، فلتغلقي الخط لحظات ..
سأعاود الاتصال بكِ .
خمنت الأم أن هناك شرطة مرور ، فأغلقت قبل أن تورط ابنتها في غرامة و سحب رخصة لقيادتها أثناء المحادثة بينهما ..
أما (سجى) فقد أوقفت سيارتها الصغيرة ، عندما لمحت جسد متكوم على الأرض بجوار السيارة ، التي من الواضح أنها قد تصادمت مع شيئاً ما أدى إلى توقفها بعرض الطريق و تدمير مقدمتها ..



لكن لا يفسر ذلك المكان الملقى به قائدها ؛ فالجسد راقد على بعد  متران تقريباً من جانب السيارة الأيمن ! ..
أسرعت تتصل بالإسعاف ، فالطريق شبه مهجور ، و لا تدخله هي إلا لأنه يختصر الكثير من الوقت ، لهذا لم تجد بد من التبليغ هي عن الحادث قبل أن تسوء حالة ذلك الرجل ..
هذا إن كان حياً من الأساس ، فانتظار أحد غيرها أن يفعل في طريق كهذا محتمل بعد أن يتوفى و تتحلل جثته أيضاً ..
و ظلت بالسيارة حتى لا تترك بصمة هنا أو هناك من شأنها توريطها في أي مشكلة ..


فهي محامية صغيرة و تعرف ماذا يمكن أن يحدث لها إن كان هذا الرجل قد تعرض لحادث متعمد ..
و اتصلت بأمها مجدداً ، فاندهشت الأخرى و سألتها بتوبيخ :
_ لم تتصلين و لم تأتي بعد ؟ ..
حقاً تستحقين شد أذنيك أيتها الحمقاء .
فأخذت نفساً عميقاً و قالت لوالدتها الحبيبة بهدوء ينذر بعاصفة في أعقابه :
_ أماه ، سأتأخر قليلاً بعد ..
أتوسل إليك غطي غيابي يا أماه ، فالأمر ضروري للغاية .


فسألتها بقلق بدأ يتسلل إلى نفسها :
_ ماذا هناك يا (سجى) ؟ ..
لا تخيفيني يا ابنتي .
أسرعت تقول :
_ لا يوجد ما يدعوا للخوف يا حبيبتي ..
هو أم طارئ فحسب ، فالسيد (وليد) يحتاج لملف قضية سيترافع عنها غداً، و قد أخطأ و تركه معي ، لهذا يجب أن أعود إلى المكتب و أعطيه له ، و آتي على البيت .
تنفست والدتها الصعداء و قالت لها بحزم :
_ هي ساعة يا (سجى) ، و بعدها إن لم تكوني أمامنا ، فتلقّي ما تستحقين .



ابتسمت لتهديد أمها و أطاعتها ، و أنهت المحادثة ، و مكثت مكانها تنتظر في صبر ..

***

عندما جاءت عربة الإسعاف صحبتها سيارة للشرطة ، ترجلت من سيارتها ، لكي تجيب على أسئلة من سيتولى التحقيق في الحادث ..
و بعد لحظات تم رفع المصاب و توجه الطبيب المصاحب لسيارة الاسعاف إلى الضابط المسئول و قال له في سرعة :



_ إنه لا يزال على قيد الحياة ، لكنه في حالة حرجة للغاية ..
لابد من التحرك بسرعة .
لم يكن قد بدأ الحديث معها بعد فالتفتت إليها قائلاً بتهذيب :
_ معذرة يا آنسة ، لابد لكِ من القدوم معنا ..
حتى نفتح ملف الحادثة ، و نأخذ شهادتك ؛ لأنه كما ترين ..
أنتي الشاهد الوحيد في المكان .
فأكملت في سرها
( و ربما أكون المتهم الوحيد


أيضاً ..
الله يستر )
فأومأت برأسها في تفهم و قالت بعد أن رأته يعطي إشارته للجميع بالتحرك سوى اثنان يظلا في المكان حتى يأتي رجال المعمل الجنائي :
_ هل تسمح لي أن آتي معكم بسيارتي من
فضلك ؟ .
أخذ لحظات يفكر ، ثم رد قائلاً بجدية :
_ فليكن ، و ستصحبينني معك إن لم يكن لديكِ مانع .
فابتسمت و هزت رأسها نفياً و هي تقول :
_ أبداً ، تفضل .



تعجب من هدوئها المبالغ فيه ، فالمتعارف عليه أن فتاة مثلها لابد و أن تكون أعصابها منهارة ، حتى و إن كانت شجاعة لتقف مثل ذلك الموقف ..
لكنها هادئة باسمة ، و كأن لم يكن هناك مصاب بحادثة أمامها قد يجعل أعتى الرجال أن يتأثر بالمشهد ، حتى و لو لم يكن ذا صلة معه ! ..
و حول دهشته تلك لسؤال من شدة فضوله فقال :
_ هل لي أن أسألكِ سؤالاً ؟ .
أومأت برأسها دون كلام ، فسألها مباشرةً :
_ ما طبيعة عملك بالضبط ؟! ..
رأيتكِ لا تتأثرين برؤية مصاب قد يكون جثة ! ..


فكيف ؟! ..
ألست بفتاة ، أم أنتِ طبيبة شرعية ؟! .
رغماً عنها ضحكت بشدة لكن بخفوت ، فابتسم منتظراً ردها عليه ، لم يتأخر إذ قالت ببساطة :
_ أنا محامية ، و بالطبع تأثرت برؤية الدماء
لكن ..
خوفي من الاقتراب منه و تفحص حالته كي لا أكون متهمة فيما حدث له كان أكبر ، لذلك تجدني متماسكة ..
فلست أنا من فعل به هذا ، و لم اقترب منه كفاية حتى أفقد أعصابي من رؤيته .




أقتنع بالفعل بردها ، و لفهما الصمت إلى أن وصلوا للمشفى ..
و أثناء انتظارهم للمصاب أن يخرج من غرفة العمليات ، حضر من القسم الضابط المسئول عن فتح الملف و تدوين شهادة
الشهود ..
فاجتمع بها مع الضابط الأول في غرفة وفرتها لهم إدارة المشفى ..
فسألها مباشرةً :
_ الاسم و السن و العنوان .
قالت بهدوء :


_ (سجى محمود سعد) ..
٢٤ عام ..
اقطن في القاهرة حي (....) .
انتقل للسؤال الثاني بعملية شديدة :
_ لماذا كنتي في موقع الحادث ؟ .
أجابت بنفس الهدوء و البساطة التي تتسم بها :
_ كنت عائدة لبيتي ، فهذا الطريق مختصر و يوصلني بسرعة ، وقد تأخرت كثيراً عن موعد عودتي .
السؤال الثالث بسرعة :
_ ماذا رأيتِ بالتحديد ؟ .
أجابته على الفور :

_ لم أرى غير ما رأيتم ..
سيارة تقف بعرض الطريق مما جعلني أبطيء من سرعتي ..
و حينما اقتربت أكثر شاهدت الدمار المحدث بها و بجوارها على بعد بعض الشيء يوجد شخص مصاب ..
كانت وضعيته تحجبه قليلاً ..
لم أخرج من سيارتي و طلبت الإسعاف ..
و مكثت فيها حتى وصلتم .
انتقل للأسئلة الغير مباشرة و هو يقول :
_ ألم تري أي شيء غريب في المكان ؟ ..
أو لمحتي سيارة مسرعة ؟ .


هزت رأسها نفياً و أجابت :
_ لا لم ألحظ أي شيء ، و لم أحاول حتى دراسة الموقف ..
لكن بما أنكم استغرقتم وقتاً لا بأس به حتى تأتون فقد جالت بعض الأسئلة المدهشة في خاطري .
ابتسم لها قائلاً بمزاح :
_ اطلعينا عليها أفادك الله .
ابتسمت هي الأخرى و قالت في شبة شرود :
_ وضعية المصاب كانت غريبة جداً في الواقع ! ..
فلو أنه خرج وحده و انهارت قوته دفعة واحدة ، لكان الأولى أن نجده بجوار السيارة من ناحية باب السائق ..



إلا إنه بدى و كأن هناك من سحبه لتلك الناحية المعاكسة و قد أخفاه عن الأنظار ! ..
حد أنه لابد لك من الاقتراب لتراه لمسافة لا تقل عن سبعة أمتار تقريباً ..
أو أنه كان بصحبة أحدهم ، و قد هرب قبل أن ينكشف أمره ..
و هو من كان يقود .
أعجب بشدة من تفكيرها ، فقال لها بتفكه :
_ ما رأيك أن تأخذي مكاني و نتبادل الأدوار .
ضحكت بخفوت ، و لم يجد هو مزيد من الأسئلة لكي يستكمل شهادتها ..


فاستأذنها ليعرف حال المصاب الآن ..
و بعدها جلسوا مرة أخرى في قاعة الانتظار حتى يخرج المصاب من غرفة العمليات ، فاستأذنته أن تتصل بوالديها ، فوافق ..
و كانت قد وضعت هاتفها على الوضع الصامت ، و مرت أكثر من ساعتين ..
فاتصلت بأخيها الأوسط (ساجد) ، لتراه يفتح من بداية الرنين ، و يسألها بلهفة :
_ (سجى) ، أين أنتِ ؟! ..
و لماذا تأخرتِ لهذا الحد ؟! ..
لقد اتصلنا بالسيد (وليد) و عرفنا منه كذبتك أيتها المخادعة .



زفرت بملل من تعود على تلك المحاضرات ، و قالت بعدها بهدوء يصل حد البرود :
_ انتهيت ؟ ..
هل تسمح لي الآن بالتحدث ؟ .
و صمتت قليلاً لتستمع لصوت تنفسه الغاضب المنتظر ، فأردفت بخفوت لكي لا يسمع والدها ، و كأنها تهمس له في أذنه مباشرةً :
_ (ساجد) ، أفعل أي شيء ، إلا أن تثير قلق
والدينا ..
و تعال إليّ .
و قبل أن يأتيها صوته المرتاع ، أسرعت تقول بحنان :


_ لا تجزع أخي ، كل ما هنالك أنني رأيت حادث سيارة و من كان فيها مصاب ، فطلبت الإسعاف له ، و جاءت الشرطة ..
و أنا الآن في المشفى في انتظاره أن يخرج من غرفة العمليات ، و نعرف أبعاد الإصابة وهكذا ..
أرجوك أخي ، تعال وحدك .
عقد حاجبيه و سألها بضياع :
_ ماذا سأقول لأبويكِ ؟! .
تنهدت بقلة حيلة قائلة :
_ ليتني أعلم يا أخي .
و انهت المكالمة بعد أن أعلمته باسم المشفى ..



و ما هي إلا دقائق ثلاثون ووجدت أخويها فوق رأسها ..
فنظرت لـ(ساجد) بعتاب ، فقال بحسم :
_ لولا هو ، ما كنت استطعت القدوم ..
فقد أخبرته و اتفقنا أن نقول لوالدينا أنكِ ستبيتين عنده الليلة ، و هو من طلب منكِ الحضور إليه .
فاحتضنها شقيقها الأكبر (سالم) بحنان و خوف ، و توجه (ساجد) إلى الضابط ، الذي كان يتابعهم من وقت قدومهم ، فسأله باهتمام :
_ هل شقيقتي متهمة بشيء ؟ ..
أنا النقيب (ساجد محمود سعد) .


فأجابه بصراحة مطلقة مبتسماً :
_ مرحباً بك أيها زميل ..
إلى الآن لا ، هي الشاهد الوحيد لدينا فحسب ..
سنحسم الأمر فور انتهاء المعمل الجنائي من عمله ، ووضع التقرير الأولي .

**

خرج الطبيب أخيراً بعد أن تعدت الساعة الثانية عشر ليلاً منفرج الأسارير ، فاستوقفه الضابط
قائلاً :
_ ما الوضع يا دكتور ؟ .

ابتسم و أجاب في ارتياح :
_ حمداً لله ، استطعنا انقاذه ..
فقد كان هناك نزيف داخلي و كسر في ساقه اليسرى و ارتجاج في المخ ..
هذا غير بعض الرضوض و الكدمات في جميع أنحاء جسده لم تكن ناتجة عن الحادث ، بل لقد تعرض ذلك الشاب للضرب الشديد بأشياء ثقيلة ..
و قد عالجناه و وضعنا ساقه في جبيرة سميكة ، و استطعنا بفضل الله إيقاف النزيف ..
لكن أن مرت ثماني و أربعون ساعة من دون حمى و أفاق فسيكون بخير .
و هنا نظر الضابط إلى (سجى) و أخويها و قال :


_ حسناً أيها السادة ، تعرفون في هذه الظروف ممنوع السفر ، و سيخلى سبيلكِ يا أستاذة بضمان محل الإقامة ..
أنا آسف حقاً ، لابد أن أقول هذا لأنه ليس لدينا متهم كما تعلمين ..
لكن إن كانت شهادتك صحيحة فلن نجد أي أدلة تدينك ، أليس كذلك ؟ .
ابتسمت قائلة بهدوء اعتاده منها :
_ هذا مؤكد .
فأخلى سبيلها لتعود لبيت أخيها وزوجته ..


***

_ و ماذا أفهم من هذا الحديث يا ترى ؟! .
قالتها (سجى) بدهشة لما يرويه الضابط (يحي) المسئول عن التحقيق في الحادثة ..
فابتسم يجيبها :
_ (سجى) ، ألا تريدين أن تتعاوني معنا ؟ .
أجابته ببساطة وحسم :
_ أريد أن أفهم ، لكي أتعاون معكم .
فغمغم باستفاضة شارحاً لها كل ما تريد معرفته :
_ أنت قد أثبتت براءتك ..
و هو قد تأكدنا أن ما حدث له ليس بدافع السرقة ..
فالتعدي بالضرب بهذه القسوة ليس من شيمة



السارق سوى أن يكون طامع في السيارة نفسها ..
كما أن المعتدي قد أخذ كل ما يتعلق بهويته ..
بدايةً من بطاقة هويته ، و حتى رخصة القيادة ..
لم يترك معه أي إثبات لشخصيته سوى رقم
السيارة ..
و بعد السؤال عنها في المرور ، ذهبنا للعنوان المنشود لنسأل عن ذويه هناك ، فوجدنا أناس تقول أنها لا تعرفه ! ..
فكري معي ، لم يتنصلون منه لهذه الدرجة ؟! .
بالفعل أخذت تفكر ، و لم تجد سبباً إلا أنهم ليسوا ذويه بالطبع ، و مؤكد أن عائلته تبحث عنه الآن ،



فقالت له ما فكرت فيه ، لتسمعه بعدها يقول وكأنه يفكر بصوت عالي :
_ هل نصوره و ننشر صوره علي مواقع التواصل
الاجتماعي ؟ .
اتسعت عينيها وهي تنظر إليه و كأنه مجنون خرج للتو من المصحة ، و لابد أن يعود إليها في أقرب وقت ، و قالت باندفاع :
_ إياك أن تفعل هذا ! ..
بهذا الشكل أنت تحكم عليه بالموت في غيبوبته
تلك ! ..
بالكاد توفر له الحماية أيها الضابط ، فكيف تعلن عن وجوده هكذا ؟! ..


و كأنك تقول لهم فشلتم في مسعاكم أيها الأوغاد ، تعالوا وأكملوا ما بدأتم .
شعر بالحرج لحظات ، احمرت أذنيه خجلاً من تفكيره الذي قاده لتلك الكبوة ، فقال بتذمر :
_ ألا ترأفين بي قليلاً..
أسبوع و أنا لا أنام حتى أجد حلاً لتلك المعضلة .
فضحكت بخفوت و قالت :
_ اعتذر ، لم أقصد ..
و لكن هناك طرف خيط بالتأكيد يؤدي بنا لمعرفة هويته .

***

زووم إنحيث تعيش القصص. اكتشف الآن