الفصل الخامس

5 1 0
                                    

ابتسم لها بعشقٍ خالص و أجابها بدعابة :
_ كيف برأيكِ ، و أنا منذ لحظات أقول أحببت تلك الفتاة التي وجدتها بجواري حين أفقت من
غيبوبتي ؟! ..
ألم تكن تلك المجنونة أنتِ ؟! .
فقامت مسرعة لتتهرب منه ، وقد راحت دقات قلبها في خبر كان ، فسألها ضاحكاً :
_ إلى أين تذهبين ؟ .
أجابته بصوت قوي لا يعرف مقدار ما بذلته من جهد ليخرج منها هكذا :


_ أعد الغداء ، هل هناك ما يمنع ذلك ؟ .
اتسعت ابتسامته و أجابها بصوت مرح رغم
خفوته :
_ لا ، إن كنتي ستتناولينه معي .
و اقترب من الأريكة ، ليستلقي فوقها بإنهاك و يحافظ على البقية الباقية من وعيه ..
و بعدما انتهت وجدته قد استغرق في النوم ..
اقتربت منه لتوقظه ، ففتح عينيه بتشوش و
أغلقهما ..
قالت له بخفوت :
_ هيا يا (قصي) ، الطعام على المائدة .



و شعوره بالدوار لم يخفت ، فقال لها بضعف :
_ لن استطيع النهوض .
فزمت شفتيها و تنهدت و قالت بحسم :
_ انتظر لحظة .
غابت عنه دقائق قليلة و عادت تحمل تلك الطاولة الصغيرة التي كانت تضعها على ساقيه ، قالت له باهتمام :
_ اعتدل فحسب ، حتى استطيع وضع الطاولة على ساقيك .
فنظر لها و هم بالاعتدال لكن ببطء ، مما دعاها لترك الطاولة و مساعدته ..



أسندته من كتفه بكفها ، فمال عليها برأسه لتكون في أحضانها ، فقالت له بتحفز :
_ اعتدل و ارجع رأسك موضعها و لا تبالغ في ضعفك .
ووضعت له وسادة خلف ظهره مردفة بتحذير :
_ لا تفعلها مرة أخرى حتى لا أتركك تسقط .
و دفعته بشدة نوعاً ما ليتكئ على الوسادة ..
فرأت وجهه محتقن من تلك الضحكة التي لم يطلقها ، و هي حبيسة داخله ..
فضربته في كتفه لتخرج تلك الضحكة بخفوت ، و قد احمر وجهها خجلاً ، وعادت لتضع الطاولة على ساقيه ..

فقال لها بعتاب :
_ أهكذا تعاملين زوجك المسكين ؟! ..
ثم أنتِ هكذا لن تأكلي معي ، و سأفقد شهيتي و ....
قاطعت وصلة عتابه البائس قائلة هاتفة :
_ توقف ..
سأتناوله معك .
و قربت مقعده المتحرك و جلست عليه ، ليبتسم لها بتلقائية ، و يسمي الله و يأكل هذه المرة بشهية مفتوحة ، على استعداد لالتهامها هي شخصياً ..


***


مرت عدة أيام وقد انسجما سوياً ، لكن لا زالت هي على نفس تحفظها المغيظ معه ، و كانت تهم بمغادرة المائدة فأمسك يدها لتشهق هي بدهشة ..
نظرت له لتجده مبتسماً و يكمل طعامه كأنه لم يفعل شيئاً ! ..
حاولت تحرير يدها منه ففشلت ، لتعقد حاجبيها و تقول له بنزق :
_ اترك يدي .
هز رأسه نفياً دون كلام ، فسألته باستنكار :
_ و بماذا ستفيدك ؟ .
ابتلع طعامه و أجابها باسماً :


_ لا أريدها أن تفعل لي شيئاً ..
أرغب أن تظل معي فحسب و لا تتركني .
فقالت بتوتر بعض الشيء :
_ هي لن تذهب إلى أي مكان ، ستعد لك شراباً ساخناً و تأتي .
اتسعت ابتسامته وهو ينهي طعامه قائلاً :
_ لا ، دعيها معي حتى انتهي و نقوم نعد الشراب سوياً .
خجلت منه كثيراً و تمنت أن تتوارى عن ناظريه خاصةً عندما انحني ليقبل يدها الممسك بها ، و قالت له بصوت اضعفه الحياء :
_ رجاءاً لا تفعل هذا مجدداً .



فسألها بعشق يهدد بالخروج عن السيطرة و صوت يكاد يكون متوسل :
_ إلى متى ؟! ..
لم أعد استطيع الابتعاد عنكِ و لا أرغب في ذلك من الأساس ..
أنتِ زوجتي يا (سجى) ، و أنا أعشقك يا فتاة ..
ارحميني .
نظرت له تتأمله ، و تتأمل عينيه اللامعتان ، و قالت بجدية لم يكن يتوقعها في تلك اللحظة :
_ هل أنت على استعداد أن نتعايش كزوج و زوجة حقاً ؟ .



و على الرغم من أنه يدرك تماماً أن ما تعنيه ليس ما في تفكيره حالياً ، إلا أنه أسرع يقول بلهفة :
_ بالتأكيد .
فسألته مجدداً :
_ تجيب على أسئلتي و بعدها نقرر ، ما رأيك ؟ .
أومأ لها موافقاً ، فابتسمت و قامت لترفع الطعام عن المائدة ، بينما هو توجه إلى المطبخ بمقعده ليقوم هو بعمل كوبين من النسكافيه ..
بعد الانتهاء جلسا على الأريكة حسب رغبته ، و قد مدد ساقه المجبرة على مقعده الذي وضعه أمامه ..
فناولته كوبه ، و أخذت خاصتها و قالت له و هي تقربه من فمها :

_ كلي آذان صاغية ..
قص عليّ ما لا أعرفه عنك ..
حياتك .. عملك .. هواياتك ..
كل شيء .
ابتسم و قد فهم مقصدها و اعتدل يواجهها قليلاً و أخذ يقص عليها ما تريد بروية ، بينما يرتشف بين الفينة و الأخرى من كوبه رشفات صغيرة :
_ أدعى (قصي) أميرتي ..
صحفي و أحب مهنتي ..
وحيد أبوي ، لكنني نشأت على تحمل المسؤولية و لست مدللاً ..
هواياتي هي الصيد و الرماية وركوب الخيل ..


و ما يهمك سماعه أكثر أنني لست بعابث ..
تربيت على الأخلاق و القيم ، لذلك تجدين أن لي زميلات دراسة و عمل و بعض المعارف قد اكتسبتهن من عملي ..
لكنها جميعها لا تتعدى كونها علاقات سطحية عابرة ، تنتهي بانتهاء السبب في الالتقاء من الأساس ..
لن أخفي عليكِ فمؤكد شعرت بالإعجاب يجذبني للبعض ، لكنني لم و لن أعبر عن ذلك الإعجاب بطريقة منافية للآداب ، بل دخلت من الباب عدة مرات و ليس مرة واحدة .
ووضع عينه في كوبه حتى يتحاشى النظر إليها الآن ..

يعرف أنها على وشك قذفه بكوبها الساخن ..
و كم كان على حق ، إذ ضيقت عينيها بتحفز و تسارعت انفاسها مع صعود دمائها لقمة رأسها تضربها في إعلان صريح على أن غضبها سيعميها بعد لحظات ..
و أردف بهدوء و كأنه لم يفعل شيئاً متمالكاً نفسه قد الإمكان حتى لا ينفجر ضاحكاً و يزيد من حد غضبها فتفكر في قتله :
_ أول مرة كنت لا زلت طالباً في آخر سنة بالجامعة ، و كانت هي في السنة الأولي ، لكن والدها قام معي بالواجب ووبخني بشدة ..
فقد كان صارماً للغاية و قاسياً .



قال آخر كلامه باستهجان ، فانفرجت أساريرها بشماتة و هي تقول بهمس كي لا يسمع :
_ تستحق هذا و أكثر يا (ترافولتا) .
لم يسمعها لكنه توقع أن تكون همساتها تلك سخرية منه ، فابتسم و أكمل حديثه :
_ المرة الثانية كانت زميلة لي في أول جريدة أعمل بها ..
فطلب مني والدها طلبات مبالغ فيها بالنسبة لشاب في مقتبل العمر و ليس عجوز ثري سيجلب لها من السماء الألماس ، و من البحر لؤلؤ و مرجان .




ضحكت بخفة لتشبيهاته فضحك معها و هو يتأملها بشغف ..
فقالت باستغراب :
_ لاحظت أنك لم تتكلم عن الفتاتين ، بل عن ملابسات افتراقكما فحسب ! .
هز كتفيه بغير اهتمام قائلاً :
_ كما قُلت من قبل ، لم يتعدى شعوري بهن كونه إعجاباً ..
أو أنني فكرت فيهن أنهن مناسبات لي فحسب ..
و حتى استقر بحياتي ، و ألا أترك للعبث أو لعب الشيطان معي مجالاً يوسوس لي من خلاله ..



لكنني بعد المحاولة الثالثة و التي كانت هي السبب هذه المرة و ليس والدها قررت ألا اطرق باب أي فتاة قبل أن أتأكد أنني لا أستطيع الابتعاد عنها ..
فالثالثة كانت معجبة بي ، و عندما ذهبت لأطلبها وجدتها متحررة أكثر مما ينبغي حتى أنني قد خجلت أمام والديّ من أفعالها ، و تصنعت عدم الاتفاق على ما يتم قبل الخطبة و انهيت الموضوع ، و تركت عملي و انتقلت لمكان آخر بسببها .
فكتمت ضحكتها هذه المرة و هي تقول بدعابة مشفقة :
_ يا مسكين .



فضحك عالياً و مال عليها قائلاً ببؤس مفتعل :
_ أرأيتِ كم أنا بائس و استحق عطفك ؟ .
ارجعته مكانه بيدها و قامت لتعيد الكوبين إلي المطبخ لتهرب منه ، فضحك على خجلها منه و احمرار وجهها كلما حاول الاقتراب منها ..
و جاءت لتجلس بجانبه مرة أخرى ، فابتسم لها قائلاً :
_ نأتي للجزء الذي تودين سماعه من البداية ..
في عملي نرى أن رجال الأعمال وجبة دسمة لنا ، فإما أن نرفعه إلى أعالي السحاب ، أو نسقطه لقاع الأرض ..



كلٌ حسب ضميره المهني ، و المكان الذي يعمل
به ..
و أنا منهم لكن إن وضعت أحدهم تحت مجهري ، أظل أدقق و أبحث و أجمع كافة المعلومات حوله ، و إن علمت بأنه شريف أشيد به و بأعماله ..
أما لو علمت العكس ، فوجب عليّ أن أقدم الدليل ، كي لا ألقي بنفسي تحت مقصلته ، و حتى لا أقع تحت طائلة القانون ..
و هذا ما حدث ..
أمرني رئيسي بالسعي وراء أحد رجال الأعمال .




و أرجع رأسه للوراء و أخذ يستطرد و كأنه جالس مع طبيبه النفسي :
_ بدأت أبحث و أجمع المعلومات حوله ، إلا أنني لم أصل لشيء ..
لكن علمت أنه قد أقدم على أخذ قرض بالمليارات لعمل مشروع سياحي ..
ما أصابني بالحيرة و الشك في أمره هو أن كافة الضمانات التي أعطاها للبنك قد تحولت ملكيتها له في وقت قريب للغاية ! ..
لم تكن لديه أملاك تغطي حتى نصف القرض قد مضى عليها مدة ستة أشهر على أقصى تقدير ! ..


وهذا يجعل المرء يتساءل ..
إن اشترى قريباً أملاك تغطي قيمة القرض فمن باب أولى أن يصرف الأموال التي اشترى بها الأملاك في مشروعه الذي يريد إنشائه ..
ليس من الذكاء أن يكون لدي رأس المال و أذهب لابتاع به منزل لن أسكن فيه و سيارة و قطعة أرض لا احتاجها ، و بعدها اقترض نفس المبلغ لأقم بمشروع !! ..
علماً بأنني سأسدد قيمة القرض مضاعفة
بالتأكيد ! ..
كان هذا اللغز هو المحرك الأساسي لي ، فبدأت أتفقد الأشخاص الذين أبتاع منهم تلك الأموال و أراقب كل المحيطين به ..

حتى وقعت على صيد ثمين .
تنهد و هو مغمض العينين ، و غمغم بصوت
خافت :
_ أحد معاونيه يسهر يومياً في ملهى ليلي ..
فعزمت على التقرب منه ، بعد أن تأكدت أن شكي بمحله ، حينما عرفت أن من ابتاع منهم تلك الأملاك هم في الأصل بعض أقاربه و معارفه المقربين ..
ظللت اذهب يومياً لأراقبه من بعيد حتى أدركت أنه لم يترك الملهى إلا وهو ثمل للغاية ..
فتقربت منه ذات مرة و هو يهذي بعد أن شرب كثيراً ، لأتحاور معه ، علني أجد لديه تأكيد ما ..



و بالفعل وجدت ، فلقد افتتحت كلامي معه على أساس أنني رجل أعمال أود بيع أرض أملكها  ..
قلت له رئيسك يشتري أراضي ، و أنا لدي أرض أريد بيعها فتوسط لي عنده ، فضحك وقتها وأخبرني أن رئيسه لا يشتري شيئاً ، إنما يعيد ما اشتراه بعقد ابتدائي حتى يتحصل على القرض و سيسجله في الشهر العقاري ..
فهمت وقتها أنها محض لعبة يقومون من خلالها بالتحايل على البنك ..
و أخذت أتناقش معه و هو يدلي بكل ما ينتويه رئيسه للهرب بأموال القرض خارج البلاد ..



و بالطبع كصحفي محنك قمت بتسجيل كل ما قيل وقتها ..
و اتجهت بعدها للشرطة ، فأنا أعرف أشخاص هناك على درجة عالية من النزاهة و حب الوطن ..
اطلعتهم على المعلومات التي لديّ ، و ...
جندوني لأجلب لهم المزيد .
مط شفتيه و ارتسمت ابتسامة متحسرة ملامحه و أكمل بندم :
_ لكنني وقعت في خطأ فادح ، و هو ما أوصلني لتلك الحالة التي رأيتني عليها ..




أقام رجل الأعمال ذاك مؤتمر صحفي ، فكنت من بين الصحفيين المسئولين عن تغطية فعالياته ..
قمت لأسأله بضعة أسئلة ، و لغبائي سألته عن تلك الأملاك التي أمتلكها مؤخراً ..
و راح معاونه الذي كنت أراقبه ينظر إليّ بتمعن ، و كأنه يحاول أن يتذكرني .
صمت طويلاً هذه المرة ، فلم تقاطعه و انتظرته بصبر ..
حتى نظر إليها و قال بعد أن زفر بقوة ساخراً :
_ أنتي تعرفين الباقي ، فما إن غادرت المؤتمر و ركبت سيارتي عائداً لعملي من ذلك الطريق الذي و



لدهشتي لم أرى سيارة تعبره ، و لم أكن أعرفه من قبل ، سوى على وصف صديق لي لأصل لقاعة المؤتمرات بوقت وجيز ، فاتخذته عند عودتي ، لكنني لم أخرج منه ..
فقد تعرضت فيه للحادثة التي أنقذتني أنتي منها .
قالت له بسخرية مماثلة :
_ من الواضح أن تحركهم كان سريعاً للغاية .
أمّن على قولها بإيماءة من رأسه ، و قال :
_ ما اتفقت مع (يحيى) ذاك ، إلا لثقة الشخص الذي أعرفه في هذا الوسط و أعمل معه في تلك




القضية ، و الذي اتفق معه هذا الأخير على وضع خطة للإيقاع بذلك الوغد ، و تعاون معهم شقيقك .
و ابتسم لها قائلاً بمزاح :
_ و لا يأخذك فضولك فتسأليني عن ماهية تلك الخطة ..
و هذا أقسم أنه ليس عدم ثقة  بيننا ، لكنني و منذ خروجي من اللعبة لا أعرف ماذا يخطط ثلاثتهم .
بادلته الابتسامة قائلة في ارتياح :
_ لا يهم ، يكفي أنك كنت الجندي المجهول وراء الإيقاع بذلك اللص الكبير .
فسألها بعبث :


_ هل أطمع في أن أحصل على مكافأة الآن ؟ .
اسرعت تجيب قبل أن يمنعه خجلها :
_ لا ، انتظر حتى كتابة كلمة النهاية .
شهق عالياً و هو يسألها بدهشة :
_ ماذا ؟! ..
سأموت كمداً حينها !! ..
ألا تعرفين أنهم قد أعطوا لأنفسهم مدة شهر على اكتمال خطتهم ؟! .
أجابت بتهرب :
_ نعم أعرف ، و لكن ما ذنبي  ..
لو متضرر أطلب منهم الاسراع .
فقال لها متوسلاً :

_ أنا لا أطلب منكِ الكثير ، فقط انزعي ذلك الحجاب السخيف ..
لقد أصبحت امقته ..
أرجوكِ ترفقي بي ..
أنا مهما كان زوجك .
فقامت من مكانها و هي تضحك و قالت له :
_ حسناً ، سأفكر بالأمر ..
تصبح على خير يا زوجي .
تغضنت ملامحه بحزن مفتعل و هو يرد عليها :
_ هل بإمكانك أن تظلي معي حتى أنام ؟ .
فهزت رأسها نفياً و هي تتوارى منه ، فعينيه لا



تفارقهما تلك النظرة العميقة التي تشعر معها أنها ستغرق بهما ..
فرحمها أخيراً و ابتسم قائلاً لها :
_ إذن تصبحين على خير يا معذبتي .




***

زووم إنحيث تعيش القصص. اكتشف الآن