التغريدة الأولى

178 2 0
                                    

الوقت ليلٌ كئيب، الجوّ صيف خانق، والشباب في ملعب الكرة يتبارون بأعصاب مشدودة.
يجلس أدهم على الدكة خارج حدود الملعب يراقبهم، وهو يقزقز اللب السوبر، بشيء من التوتر، بيده هواتف بعض أصدقائه اللاعبين الذين يأتمنونه عليها حالما ينتهون من اللعب.
هو لا يلعب، لم يحب كرة القدم يوما، حتى مشاهدة مباريات القمة يفوّتها، غير رياضي بالمرة، لذلك يعاني جسده من بعض الامتلاء، فقط يصاحب صديقه بكر، الذي يلعب ببراعة منقطعة النظير، تمريرات وتسديدات ومراوغات أخّاذة، لذلك يأتي إلى الملعب الخماسي كي يستمتع بشاهدته، رغم التوتر.
لماذا التوتر؟
ينتظر هو وزملاؤه نتيجة الثانوية العامة.. ماذا نتج عن أيام السعي والعصبية الزائدة وإلى أين المآل؟
يحتكُّ أحد اللاعبين ببكر وهو يحاول الفرار بالكرة ليتوجه نحو المرمى ويسدد، يوقع بكر على الأرض، يصيح بكر:
- فاول!
يزعّق اللاعب بعصبية:
- لأ مش فاول، انت اللي طري!
- فاول والله، انت ضاربني!
يهتف لاعب آخر تضجر من توقّف اللعب:
- خلاص إديله فاول!
يتضايق اللاعب، يزعق وهو يخرج من الملعب:
- لأ بقى، هو كل حاجة فاول؟! مش لاعب!
ينتهى حجز الكرة الذي يستمر لساعة، يخرجون من الملعب ليضمَّ آخرين، يبدّل كل منهم ثيابه ثم يأخذ حقيبته ويودع زملاءه، يسأل بكر أدهم وهو يرتدي ملابسه والضيق باد على وجهه:
- بذمّتك الكورة اللي وقّعني فيها فاول ولا لأ؟
يبصق أدهم قشر اللب ويقول بلا مبالاة:
- يا عم خلاص كبّر دماغك، ياللا نمشي.
وبينما هما سائران نحو باب الملعب، يقول بكر بضيق:
- بيني وبينك يا أدهم، أنا مش عاوز أرجع البيت.
يندهش أدهم ويقطب حاجبيه:
- ليه؟!
- أبويا، كل ما بقى يشوفني يديني كلمتين بيقتل معنوياتي..
يشهق أدهم ويزفر:
- معلش.. الثانوية العامة تقيلة علينا وعلى أهالينا.. وبعدين بلاش تشاؤم يا بكر، إيش ضمّنك إن نتيجتك وحشة؟ ممكن تطلع كويسة!
- كويسة إزاي يا أدهم؟ دة أنا عاكك في الامتحانات! وطبعا أبويا مش هيسكت، كل مابيشوفني جاي الملعب يديني قلم ورا قلم! مضيّق عليّا جامد، وكأني عدوّه مش ابنه!
يصمت أدهم لبرهة، يسرح خلالها في حزنه المكتوم بطيات قلبه، يقول لبكر:
- أبوك مش حابب لك الفشل يا بكر، الأب عاوز ابنه يبقى أحسن منه دايما.
يتذكر أدهم، عندما كان واقفا أمام أبوه محمود، بيده ورقة النتيجة، حصل أدهم على ١٠ من ٢٠ في مادة الرياضيات، بعدما رآها والده رفع رأسه ونظر في عينيه، قال بحزن:
- درجتك وحشة في الرياضيات يا أدهم! مش عاجباني.. لازم تتقوّى فيها إن كنت حابب تدخل كلية الهندسة..
بدا اليأس على وجه أدهم، لم يظن أنه سيجيء يوم يخذل فيه والده، الذي مثل له كل شيء جميل في العالم.
قال الأب:
- ماتقلقش.. من بكرة، هاقعد معاك كل يوم، هاظبّطلك مفاهيم الرياضة كلها، هاخلّيك تحبها وتقفّلها.
ابتسم أدهم ابتسامة هادئة.
- شايف إن كل دة من خوفه عليا؟!
ينتشله بكر بسؤاله من الذكرى، فيرد عليه:
- أنا متأكد من دة!
***
يقف مروان وأمجد عند السور، فوق سطح بيت أمجد، يراقبان من الأعلى الطريق العمومي والسيارات تطير فوقه والمارة على الرصيف من مختلف الفئات، يعبّئ مروان رئتيه بالهواء، ينتعشُ بجلسته مع أمجد التي يفتقدها، يحدثه:
- بقالي أكتر من ٦ شهور ماقعدتش معاك!
أمجد فرح لرؤيته، احترم غيابه طوال الشهور الماضية نظرا لمروره بأزمة امتحانات الثانوية العامة فلم يزره، واكتفى بأن يطمئن عليه بالهاتف من وقت لآخر.
يسأله أمجد:
- نتيجتك إمتى؟
- قرّبت، كلها كام يوم.
- ربنا يحقق لك حلمك!
يلتفت له مروان مبتسما ويسأله:
- كان يومها عامل إزاي؟
يلتفت أمجد إليه مقطبا حاجبيه غير فاهم ما يرمي إليه، فيوضّح مروان:
- يوم أما نتيجتك طلعت وجبت 99 في المية؟
يوجه أمجد نظره للأمام كما كان حيث ضجيج وأضواء المدينة، يتخيّل اليوم الذي مضى عليه سنوات، يصفه لمروان الذي يتمنى أن يعيش مثيله عما قريب:
- يوم حلو، مليان بهجة، زغاريد وأحضان، قرايبك من بعيد بييجوا يهنّوك، أبويا كان فرحان قوي ساعتها، كان بيرقص، وزّع على الشارع كله جاتوه وحاجة ساقعة، الناس من وقتها مابتناديليش غير "يا دكتور أمجد".. نغمة الناجح يرفع إيده لعبدالحليم مانقطعتش من البيت لمدة أسبوع، ياااااه! فرحة ماتتعوضش الصراحة.
ثم ينقبضُ وجهه كأنما تذكر شيئا سيّئا، يلاحظ مروان ذلك، ولكنه يؤثر عدم التعقيب، ينظر نحو السماء ويقول حالما:
- لو ربنا كرمني يا أمجد، هانتقابل في كلية الطب قريب.
يلتفت أمجد نحوه، الحزن باد على وجهه، يحاول مواراته لكن لا يُفلِح، يقول له:
- ربنا يكرمك إن شاء الله وتدخلها.
- هتبقى تعزمني هناك بقى!
يضحك أمجد رغما عنه:
- المفروض اللي بينجح هو اللي بيعزم، مش العكس!
تملأ قهقهاتهما الفضاء!
***
تتصاعد الزغاريد: "لو لو لو لو لو لي!".
تسطعُ الكاميرا بوهجها في يد المصور لدى التقاطه الصورة، تغريد تبدو أجمل في فستان الخطوبة، تجلس بجوار خطيبها المدعو كريم، ابن أقارب الوالدة من سحيق البلدة، تبتسم تغريد وهو يضع الخاتم في أصبعها، هو مغمور بالفرحة، هي تتكلف إظهار الفرحة، النساء تزغرد، الرجال يتصافحون، تتلاشى الابتسامة من على وجه تغريد!
طرق على الباب، يفتحه والدها، إنه أدهم وأمه عائشة، تدخل عائشة وتنضم للنساء وتشاركهم الزغرودة، يقف أدهم بين الرجال، ثم ينفصل عنهم ويذهب نحو تغريد وكريم، يصافح كريم أوّلا، يصافح تغريد التي تبتسم من جديد:
- مبروك يا تغريد!
تزمُّ شفتيها ثم تقول:
- الله يبارك فيك!
يأكلون الجاتوه، يشربون الساقع، تصفّق النساء لامرأة ترقصُ بينهن على أغنية صاخبة تنبعث من السماعة، تنظر تغريد للجمع بفتور، ينظر لهم أدهم باشمئزاز.
تنتهي الليلة ويغادرون، تخلو تغريد بنفسها في الغرفة، أمام المرآة المشروخة، تنظر لوجهها المشروخ، تلقي بالابتسامات المتكلفة التي وزّعتها طوال اليوم في سلة القمامة، تلوي شفتيها امتعاضًا، تتذكر حديثها مع أدهم منذ أسبوعين:
- أمي مصممة على العريس يا أدهم.
- لو مش عاوزاه ارفضي!
- أمي مش عايزاني ترفض، مش عايزة تزعل قرايبها، أبويا كمان بيأيدها، شايفين إن غلط أفضل دة كله من غير جواز.
- دة كله إيه؟! انتي بتتعلمي لسة، عندك ١٨ سنة مش 30 ولا حتى 25!
- ما انت عارف عمك وماما، دماغهم دماغ قديمة، انت مش شايف أنا عايشة فين؟
- أحسن حاجة أبويا الله يرحمه عملها إنه خرج من الأرياف، الأرياف بقت مضلمة أوي!
وضعت وجهها بين كفيها وكأنها تختبئ من العالم، وفي أعماقها تتمنى لو تستطيع أن تختبئ في أحضان أدهم للأبد، قالت يائسة:
- أنا مش عارفة أعمل إيه!
- طب سيبيني أحاول مع عمي ومرات عمي!
تتذكر ما حدثَ بعدها، عندما جاء أدهم لأبويها يحادثهم، كانت تسترق السمع من خلف الستار، وبّخته والدتها وقتها:
- معقولة يا أدهم، المفروض انت اللي تقنعها بالجوازة، هو عشان عينك منها تعمل كدة؟! اخص عليك!
- أنا يا مرات عمي؟! أبدا والله!
احتدت الأم:
- لأ أنا عارفة إنك عايزها.. وانت ماتتعايبش ولا حاجة، بس لسة قدامك سكة طويلة على ما تبقى جاهز.. هي جالها واحد جاهز، نعمة، ترفسها ليه؟! هتقبل بيه غصب عنها، هي عايزة الناس يتكلموا عنها ولا إيه؟!
- بس هي عاوزة تكمل تعليم، والعريس زي ما سمعت مش عاوزها تكمل، نتيجة الثانوية بعد أيام، وتغريد شاطرة ممكن تروح كلية حلوة.
هنا احتج عمه:
- تعليم إيه وكلام فارغ إيه؟! الشاطرة بجد تبقى شاطرة جوة بيتها، تبقى ست بيت، الشهادات دي ماتنفعش البنات، البنت مالهاش غير بيت جوزها يا أدهم.. بلاش تتكلم في الموضوع دة تاني وماتزعّلنيش منك.
لم يستطع أدهم مواصلة الجدال، انسحقَ تحت أقدام القرية، خرج ولم يعد من ساعتها إلا مرغما يوم الخطوبة وتلبيس الشبكة، أما تغريد، فقابعة في الحزن من ساعتها.
***
يلجُ بكر غرفته المُظلمة، يضيء المصباح، يضع حقيبته بجوار الدولاب، يجلس على حافة السرير، يخلع الحذاء والجوارب، يقتحم أبوه جمال خلوته كما هو معتاد، يقول بنبرة حازمة:
- ما لسّة بدري! كنت فين؟
يرد بكر بخنوع:
- كنت بلعب كورة.
يهتف جمال بغيظ:
- يادي الكورة وزفت، يابني سيبك منها بقى!
- بحبها يا بابا، مش هاينفع ما ألعبش كورة!
- انت حر.. بكرة ترجع لي خايب زي عادتك.. ماقالوش حاجة عن النتيجة؟
- لسة كام يوم على ما تطلع.
- ناوي تروح امتحان الفنون التطبيقية اللي قلت لي عليه؟
- أه إن شاء الله، هاتدرّب وأروح أمتحن وربّنا يسهل.
يمضي جمال في صمت وحنق مكتوم، تتبعه نظرات بكر المتألم، ينفض عن ذهنه الحزن ويدخل البلكونة، يلقي نظرة على الطريق المظلم، يقعد على الكرسي ويمدّ ساقيه للأمام، يعلّق ناظريه بالنجوم في السماء، يمدّ يده للأعلى، يمسك النجم، يتحول إلى نجم مثله، يتخذ مكانه في القبة السماوية!
يفتح هاتفه، يقلب في فيديوهات اليوتيوب، يشاهد فيديو لمحمد صلاح وهو يراوغ اللاعبين ويحرز الأهداف، يسرح بخياله، يهيئ له خياله نفسه يراها كلاعب كرة قدم مشهور، يحرز هدفا في مباراة قمة، وصوت المعلق الرياضي يهتف عاليا وسط تهليلات المشجعين في المدرجات:
- وبكر جمااااال وجون.. جووووون لنجم مصر!
كمن يتعاطى سطرًا من المخدرات فيغوص في الخيال اللذيذ، يبتسم عندما يرى نفسه تستضيفه الإعلامية منى الشاذلي في برنامجها، تستقبله بابتسامة مرحّبة:
- النهاردة معانا ضيف مهم جدا، اللاعب بكر جمال.
ويتعالى صوت تصفيق الجمهور.
لمحة خيالية أخرى لأحلامه، يجلس في سيارة رانج روفر، يرتدي بدلة ويشرب سيجارة طويلة في عنطزة، يقوم بتسليك أسنانه بورقة مئتي جنيه، ينظر لرزمة النقود بيده مبتسما، أوراق من فئة المئتي جنيه، ولكن بدلا من صورة الكاتب المصري طُبعَت صورته هو وهو مبتسم ابتسامة تكشف أسنانه البيضاء النضيدة، يُخرج يده من النافذة، ينثر أوراق المئتي جنيه في الشارع للمارة بينما السيارة تطير فوق الطريق!
هكذا كانت أحلامه وخيالاته.. لذيذة صعبة المنال.

يتبع...

تغريد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن