التغريدة الرابعة

10 0 0
                                    

عصرا، يسير الرفاق على أقدامهم، بلغ التوتر منهم أقصى الدرجات، يقول أدهم:
- النتيجة بكرة!
يلوي بكر شفتيه ويقول:
- أعصابي مش قادر أمسكها.
يقول مروان بضيق:
- تحسه كابوس وعايشينه وهنصحى منه بكرة.. بس ربنا عالم هنصحى منه على حاجة حلوة ولا وحشة.
- يااااه.. السنة عدت هوا.. لسة فاكر أول يوم في الثانوية كأنه إمبارح! سنة صعبة بس ضيقة!
يعرض أدهم عليهما أن يذهبوا للكورنيش، يستمتعون بالنظر لبساط النيل وقت الغروب، عل ذلك يخفف عنهم التوتر والضيق.
ولكن هيهات!
ما إن يقفون على الكورنيش، والشمس تفرش أشعتها فوق النيل الأزرق، تستلب كل منهم ذكرى تؤرقه وتختمر في ذهنه الهواجس!
***
منذ ثلاثة أشهر، كان مروان يسقي والده المريض طريح الفراش دواءه، ثم جلس على الكرسي أمام السرير، قال له جلال بضعف:
- خلاص يا مروان.. أنا هابقى كويس.. روح انت كمّل مذاكرة.. فاضل شهر ع الامتحانات.
قال مروان بعدما بلع ريقه:
- ماتقلقش عليا.. أنا هفضل معاك شوية وبعدها هرجع أكمّل مذاكرة.
***
جلس أدهم على عتبة البيت العليا، التي كان يحب والده الجلوس عليها ساعة الظهيرة يوم الأجازة ويشرب الشاي، كان شارد الذهن، خرجت عائشة من البيت بثوبها الأسود الذي لم تغيره وجلست جواره، تشعر بالألم بسبب رحيل محمود المفاجئ، وحزينة على حال ابنها أدهم، تراه دائما منغمسا في الحزن والكآبة، لا يحرك عجلة في طريقه، سألته:
- مالك يا أدهم؟
رد بوهن:
- ماليش!
- عارفة إنك زعلان على باباك.. بس ماينفعش توقف حياتك.. وراك ثانوية عامة ولازم تذاكر.. باباك مش هيبقى مبسوط لو انت رميت كل حاجة ورا ضهرك.
أومأ أدهم، نزلت من عينه دمعة، أحاطته عائشة بذراعها.
قبل الامتحان، رقد أدهم في فراشه مريضا، تمكن منه المرض المزلزل، سخونة وبرد وعظام مهشمة وتخاريف قبل الفجر، ، كانت عائشة معه تجس نبضه وتضع له كمادات على رأسه، قالت بحسرة:
- كان مستخبي لك فين دة بس يا ربي؟! الامتحان خلاص بعد يومين وانت مش قادر خالص.
تتابع أنفاس أدهم، قال لها:
- سيبيني شوية يا ماما بعد إذنك!
قامت عائشة وقالت:
- حاول تيجي على نفسك وتقوم تذاكرلك كلمتين!
أومأ لها، غادرت الغرفة مغلقة الباب خلفها.
استسلم أدهم للنوم، سرعان ما استيقظ مجددا، بعدما سمع وقع أقدام بالغرفة!
أدار عينيه وهو شاعر بالخوف وضربات قلبه تتسارع، تأمل صاحب الساقين الواقف بعيدا، رأى وجهه بوضوح، إنه أبوه محمود!
- أدهم!
بلع أدهم ريقه:
- بابا!
- قوم يا أدهم، وراك امتحان!
انحدرت دمعة على خد أدهم، قال:
- أنا عايش بدون روح يا بابا.. من يوم ما فارقتني وأنا مش قابل أكمل حياتي.
اقترب شبح محمود من أدهم، قرفص عند حافة السرير، قال مبتسما:
- أنا عمري ما هاسيبك يا أدهم!..
وضع محمود يده على صدر أدهم:
- أنا على طول موجود هنا! مش هاسيبك!
وضع يده في يد أدهم، عاونه على النهوض من رقاده، أزال أدهم الكمادات، سحبه محمود نحو المكتب ليجلس، فتح أدهم كتاب الرياضيات، بدأ المذاكرة، شعر بزغللة في عينيه لدى مطالعة صفحة الكتاب، لم ير جيدا، ولكن يده لا تتوقف عن الكتابة في الكشكول، نظر ليده متعجبا، التفت ليمينه، رأى والده يأخذ بيده ويحركها على الورق لتكتب!..
***
ذروة الخلاف بين بكر ووالده كانت في عام الثانوية العامة.
دخل بكر الغرفة هربا منه، لكن والده لاحقه بزعيقه:
- ياض انت جبلة.. معدوم المسؤولية.. الأستاذ بتاعك بيقول إنك كل كام يوم تروح الملعب، ناقص يروح يلمّك من الملاعب!
التفت له بكر وقال:
- يا بابا وفيها إيه يعني؟
- ركز يابني في مذاكرتك!
- مانا بذاكر، وبرضه بحب ألعب كورة.. مش بإيدي أسيبها والله.
احتد جمال وهو يرفع يديه داعيا:
- يا أخي إلهي تتصاب في رجلك عشان تستريح وتريّحني من القرف دة!..
أصاب بكر ذهول عميق، واصل جمال كلامه الصارم:
- ولد.. من هنا ورايح مافيش لعب.. مش هتخرج من البيت غير للدرس وبس.. مفهوم؟!
ختم حديثه بهذه العبارة ثم خرج، تاركا وليده يقبع في الحزن والمرار، جلس بكر على طرف الفراش، احتوى وجهه بكفيه، استغرق في البكاء!..
***
ساعة المغربية، بعد عودنهم من عند الكورنيش، تتصل تغريد بأدهم، في صوتها نبرة حزن وانتحاب:
- أدهم، أنا متضايقة، مش لاقية غيرك أتكلم معاه، أو.. أنا مش عاوزة غيرك أتكلم معاه!
- اتكلمي يا تغريد، أنا على طول هكون موجود وقت ما تحتاجيني وهاسمعك.
- أدهم، أنا مش مبسوطة، خالص، أنا مش مستريحة في خطوبتي، حاسة بتقل كبير على صدري، أنا عارفة إن كلامي معاك في الموضوع دة غلط، بس بجد مش قادرة.
- إيه اللي وصلك للإحساس دة؟
- كريم خطيبي، مافيش بيننا حاجة مشتركة، نهائي، شخصيته عكسي تماما يا أدهم، طبعه مش حاباه، مش قادرة أحبه، والله حاولت أحبه وماقدرتش، مش قابلاه!
يصمت أدهم لبرهة.
- أدهم، انت رحت فين؟
- معاكي، سامعك.
- طب أعمل إيه؟ بجد مش مرتاحة وعاوزة أخلص!
- حكّمي إرادتك يا تغريد.. دة جواز مش لعبة، يعني هتعيشوا مع بعض لنهاية عمركم، يا تختاري صح يا هتعيشي طول حياتك في مشاكل!
يسمع صوت سحبها لمخاط أنفها:
- ماشي يا أدهم.. ادعيلي أرجوك.
- دايما بادعيلك..
- آسفة، واجعة راسك بمشاكلي!
- ماتقوليش كدة.. إحنا اخوات!
- اخوات؟!
تجحظ عيناه، لا يجيب، تقول هي:
- عن إذنك.. سلام.
بعدما يغلق هاتفه، يشعر بالثقل ذاته على صدره، يزداد ضيقه لمآل علاقتهما، كما يزداد غضبه بسبب ما يحيق بها.
تتصل تغريد بكريم، يقول لها بدهشة عارمة:
- مش مصدق إنك بتتصلي عليا.. والنبي قولي لي إني مش بحلم!
- لأ مش بتحلم يا كريم.
- أول مرة تتصلي عليا، بجد أنا فرحان!
- كريم، أرجوك اسمعني.. كنت عاوزة أقولك.. إننا ماننفعش لبعض!
تذهب بهجته للجحيم، يكفهر وجهه، وهي تتشجع وتقول:
- كريم، إحنا مش مناسبين لبعض، أرجوك نسيب بعض، ربنا يوفقك وتلاقي البنت اللي من نصيبك اللي أكيد هتبقى أحسن مني!
هو غير مستوعب، تنتهي المكالمة، وهو لم يتفوّه، ينظر للهاتف بغضب شديد، يحاول سحقه بيده!
***
مساءً، يسير مروان على الطريق العمومي عائدا البيت، بيده هاتفه، يتصفح حائط الفيسبوك المثير للكآبة، يرى بوست صورة من اليوم السابع مكتوب فيها: "نتيجة الثانوية العامة غدا"، يشمئز، يغلق الهاتف ويسير شارد الذهن، يفكر في احتمالات أن تكون النتيجة غير مرضية!
هاتفه يرن، ينظر من المتصل، تجحظ عيناه، أستاذ عاشور، صديق العائلة، ومسؤول في كنترول الثانوية العامة!
يجيب مروان ودقات قلبه آخذة في الارتفاع:
- ألو!
- إزيك يا مروان؟
- الحمد لله يا أستاذ عاشور، إزيّ حضرتك؟
- الحمد لله.. أنا دلوقتي في الكنترول.
تختلج أجفان مروان ويبلع ريقه بصعوبة:
- فيه حاجة؟
- جبت لك النتيجة..
يتوقف عن السير، يحاول تمالك أعصابه:
- كام؟
- انت جبت ٩٤ في المية!
ينصدم مروان!
- ااا.. متأكد يا أستاذ عاشور؟
- أنا راجعتها كذا مرة.
يظل مروان صامتا لثوان يحاول استيعاب الأمر، وسط ضجيج السيارات وكلاكساتها، متناسيا أن الأستاذ عاشور ما زال على الخط، يوقظه من صدمته صوت الكلاكس لسيارة تمر بجواره، ونداء أستاذ عاشور المتكرر له، يقول لأستاذ عاشور بصوت ضعيف:
- شكرا يا أستاذنا.. تعبتك معايا!
- مبروك يا مروان.. سلام.
يغلق الهاتف، يضعه في جيبه، يظل واقفا برهة غير مصدق، ينقصه فقط على تحقيق الحلم أربعة بالمئة، شيء غير معقول، كيف حدث هذا؟!
يكمل السير، يتلفت يمينا ويسارا كأنما هناك من يراقبه ليشمت فيه، يسير محاولا كتم دموعه، ثم ما يلبث أن ينفرط عقده وينخرط في البكاء!

يتبع...

تغريد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن