التغريدة الثانية

27 0 0
                                    

ساعة العصريّة، أدهم وبكر يتجولان على الأسفلت، يناول أدهم هاتفه لبكر قائلا:
- بُص شوف كدة.
يتناول بكر الهاتف وينظر فيه، يطالع إعلان اختبارات كرة قدم للانضمام لنادي شهير، يقول أدهم:
- لازم تروح يا بكر.. أنا متأكد إن لو شافوك في الملعب هياخدوك.. انت محتاج تتشاف.
- إن شاء الله هاروح.. بس يا رب أبويا يرضى ومايدينيش الكلمتين في جنابي كالعادة.
ينكس أدهم رأسه في حزن، تطفو على سطح ذهنه الذكريات..
***
كان جالسا على المكتب يحل مسألة في الكشكول بالقلم والآلة الحاسبة، والده محمود بجواره بمسافة قصيرة ينتظر منه إنهاء الحل، بيده السبحة، يمرر الحبات على أصبعيه مسبحا الله.
دخلت عائشة تحمل طبق عليه كوب شاي، وضعت كوب الشاي على الترابيزة والدخّان يتصاعد من على سطحها نحو الفضاء، تناولها محمود بيده وشفط منها شفطة، استلذ بالطعم، قال:
- تسلم إيدك يا عيشة!
التفتت عائشة خارجة:
- أنا هاروح أحضّر العشا على ماتخلصوا.
غادرت، أنهى أدهم حل المسألة، ناول الكشكول لوالده، نظر محمود في الحل بينما يرشف الشاي، بالقلم طبع على الورقة علامة "صح" كبيرة!
- برافو يا أدهم.. جدع.. نراجع بقى.. قوللي.. عشان نحول من مللي متر لمتر؟
- بضرب في عشرة أس سالب تلاتة.
- طب ومن متر لكيلو متر؟
- بقسم على ألف.
- ولا بتضرب في عشرة أس سالب تلاتة؟
عقد أدهم حاجبيه ثم هز كتفيه:
- هي هياها!
ابتسم محمود:
- تمام.. مساحة المربع؟
- طول الضلع في نفسه.
- مساحة الدايرة؟
- ط نق تربيع.
- عال أوي.
كتب محمود في الكشكول "القانون العام لحل المعادلات":
- دلوقتي تعالى أفهّمك القانون العام لحل المعادلات..
بعد أيام، كانوا _أدهم وبكر ومروان_ أمام المدرسة، بيد كل منهم ورقة نتيجة الامتحانات المنصرمة، مدّ بكر رقبته لينظر في ورقة نتيجة أدهم، رأى درجة نهائية في الرياضيات، ٢٠ من ٢٠!
هتف بكر:
- يا ابن الإيه؟ بقيت تقفّل الرياضة صاروخ!
ابتسم أدهم:
- الحمد لله.
سأله مروان:
- كان مستخبي فين دة كله؟
قال أدهم باعتزاز وفخر:
- الفضل يرجع لأبويا بعد ربنا سبحانه وتعالى.
فرحته كانت جمة، عندما عاد في ذلك اليوم للمنزل، وجد أبوه محمود جالسا على العتبة يشرب الشاي، وقف قبالته مبتسما، ناوله في صمت ورقة النتيجة، نظر محمود فيها، رأى درجاته صارت القصوى، رفع عينيه من الورقة له، ابتسم في انبساط، شعشع الفرح في قلب أدهم لما رأى والده مبسوطا.
***
يذهب أدهم لبيت بكر، بعد أيام منذ آخر لقاء بينهما، يطرق الباب، يفتح جمال الباب:
- سلام عليكم يا عم جمال.
- وعليكم السلام، ازيك يا أدهم عامل إيه؟
- بكر موجود؟
- أيوة اتفضل، هتلاقيه فوق في أوضته.
يدخل أدهم ويغلق جمال الباب من وراءه، يصعد أدهم للأعلى وراء العم جمال، يمر من الصالة ويدخل حجرة بكر، بكر راقد على السرير يفكر في يأس، يشير جمال نحوه بقرف:
- أهو الأفندي قاعد!
يبدو الامتعاض على وجه بكر جراء جملة والده ونظرته المشمئزة منه، يرحل جمال تاركا بعض الخصوصية لهما، رغم أنه خبير بخرق الخصوصيات واقتحام القعدات الشبابية بلا مراعاة لأي شيء.
يسأل أدهم بكر:
- فيه إيه؟
يقول بكر بضيق:
- حاجة قرف.
- ماتقبلتش في النادي؟
يعتدل بكر في جلسته ويحكي:
- رُحت الاختبار الأول.. عديته.. المدرب اتبسط مني وقاللي كلام حلو وهيكون ليك مستقبل معانا وكدة.. رُحت الاختبار التاني.. عديت كل اللي كانوا معايا.. المدرب قاللي الاختبار الجاي الأخير وبعده همضي عقد مع النادي وأتقيّد فيه.. لاقيت الأمل بيشعشع قدام عينيا من بعيد والشهرة بتناديني وأول طريق المجد بقى..
- يادي الشهرة وزفت!.. كمّل!
يلوي بكر شفتيه:
- بس خلاص.
يعقد أدهم حاجبيه:
- خلاص إيه؟ إيه اللي حصل لما رُحت الاختبار؟
- لأ ماناااا، ماروحتش!
يصيب الذهول أدهم:
- ليه؟
- صحيت تاني يوم، لاقيت رجلي وجعاني جدا، تقولش اتكسرت، ماكنتش قادر أتحرك كويس، ماقدرتش أروح الاختبار، قعدت على السرير ساعتها أعيط.
زم أدهم شفتيه حزينا على مصاب صاحبه، ربت على كتفه وقال:
- ماتزعلش، أكيد ربنا عاوز لك حاجة أحسن.
يدخل جمال فجأة، يقتحم كما هو معتاد:
- قل له يا أدهم.. قول للبيه اللي عاوز يبقى لاعّيب كورة.. فاكر نفسه محمد صلاح.. خليه يلتفت لمستقبله ويسيبه من اللعب!
يلقي كلامه كالمقذوفات على رأس بكر ثم يخرج مجددا.
ينفخ بكر ويقول بضيق وحسرة دفينة:
- عمال بيكسّر في مجاديفي من إمبارح!
- رجلك عاملة إيه دلوقتي؟
- رحت للدكتور وأنا بعرج، قال لي دة جزع، بيرجح إنه من لعب الكورة، رغم إني مش قاكر إني جرالي حاجة وأنا بلعب، طمنّي وقال كام يوم وهرجع سليم لما آخد الدوا اللي كتبهولي.
تمر برهة صمت يستوعب أدهم خلالها ما ينتظر بكر في المستقبل، ثم يقول له:
- طب وبعدين، هتعمل إيه؟ كل يوم بتكبر وفرصتك إنك تتقيّد في نادي بتبقى أصعب!
يقول بكر بعدما برهة صمت أخرى، راودته خلالها أشباح سوداء يخشاها:
- مش عارف.
يزم أدهم شفتيه متحسرا، ثم يقول:
- طب اجهز عشان تروح بقى اختبار الفنون التطبيقية، أنا رحت امتحنته امبارح أنا ومروان.
- أه صحيح.. دة البلد كلها رايحة.
يجلس أدهم على طرف الفراش:
- دة شيء طبيعي.. ماحدش ضامن إن كليات القمة تجيله فبيلجأوا للتطبيقية احتياطا.
- أف! كليات القمة وقرف، مخليين الواحد بطنه توجعه كل شوية.. ياللا الله المستعان!
- ياللا قوم البس خلينا نخرج نشم شوية هوا.
على مصطبة المسجد المجاور لبيت مروان على الطريق العمومي الصاخب، بعدما يؤدون صلاة العشاء، كما تعودوا، يجلس ثلاثتهم، مروان وأدهم وبكر، يشربون الشاي الذي أعده لهم مروان، من يمر عليهم يشعر بتعب الأعصاب الذي يصيبهم، الاضطرابات المعوية، التوتر.
ينفخ مروان زهقا ويقول:
- الواحد قلقان.
يقول أدهم:
- منهم لله!
يسأله بكر:
- هما مين؟
يجيب أدهم بعد صمت بضع ثوان رشف خلالهم من الشاي:
- إحنا.. إحنا واللي قبلنا واللي بعدنا..
- أنا لحد دلوقتي مش عارف الوضع هيبقى إيه مع أبويا لما النتيجة تظهر!
يقول له مروان:
- ادعي إنها تيجي سليمة.
يرفع أدهم حاجبيه ويقول:
- أنا مش فاهم، إيه العيب لو حد جاب تمانين في المية ودخل كلية تجارة أو حقوق؟
يقول مروان:
- نظرات الناس بتختلف!
يضحك بكر ضحكة قصيرة، يقف أمامهم مستعرضا:
- والله إحنا في مجتمع غريب صعب ترضي الناس فيه.. تخش كلية طب، تلاقي الراجل يقولك: "هتضيع فيها عمرك، وعلى ماتفتح عيادة وتتشهر تكون عديت التلاتين، بلاش أحسن".. تخش كلية صيدلة، يقولك بتريقة: "إفتح محل بقالة أحسن".. تخش كلية هندسة، ببرود الدنيا يقولك: "هتعمل بيها إيه؟! البلد كلها مهندسين وقاعدين ع القهاوي".. طب سيبك من كليات القمة.. تعالى لو دخلت كلية تجارة، يبصلك من فوق لتحت بتعالي ويقولك:"مش هتشتغل بيها، هتبقى كاشير في محل كشري".. تدخل كلية حقوق يقولك بكل سخرية: "يعني هتبقى وكيل نيابة؟! ولّا محامي خلع؟ مش هتشتغل بيها، قطّع ورَقها".. كلية تربية وآداب يقولك: "البلد كلها مُدرّسين والمشرحة مش ناقصة قُتلة، بقوا أكتر من الطلاب.. ويعمل إيه التعليم في وطن ضايع؟!".. فنون تطبيقية يقولك:"هتنحر في قلبك عشان في الآخر تبقى مُدرّس رسم!".. طب سيبك من ده كله، تعالى كدة أقعد في البيت متتعلّمش، يقولك وهو مذعور: "يا ابني هتضيّع مستقبلك!"..
يضحكون، يختم كلامه قائلا:
- طب إنتم عايزين مننا إيه أنا عايز أعرف؟!
يقول مروان:
- كليات القمة القمة القمة.. مالها تجارة وحقوق أنا مش فاهم؟.. يا جدعان مافيش بلد بتمشي من غير المحاسب، من غير المحامي، كوادر مهمة، لازم يبقوا موجودين.. ليه بقى بيستعرّوا من الكليات بتاعتهم؟
يقول أدهم بيأس:
- المشكلة برضه إن العدد في اللمون.. ييجي مليون خريج كل سنة.. تشغيلهم كلهم صعب!
يقف مروان بجوار بكر، يتذكر لحظات لذيذة من أيام الثانوية، عندما كانوا يرتادون الدروس الخصوصية، يقول مبتسما:
- فاكرين حصة أستاذ حسن.. انت يا واد منك ليه ياللي محليتوش العشرين قطعة نحو، إبقوا قابلوني، آدي دقني إن فلحتم، كلكم هتجيبوا سبعين في الميّة!..
يتذكر أدهم موقف الأستاذ حسن، يقول بعد برهة صمت وجيزة متأملا:
- بس كان راجل طيب والله!
يمد مروان بصره لبعيد في أسى:
- شكلنا هنفضل في الدوّامة دي مش هنخلص، الأعصاب هتفضل مشدودة، ماحدش عارف لحد إمتى!.. يا ريت كل واحد منا يدعي من قلبه لنفسه وللتانيين إن ربنا يناوله اللي في باله.
يجلسون متجاورين مجددا، من صميم قلب كل منهم، يدعوا لنفسه وللآخرين، بصمت.
يدعو أدهم:
- يا رب كلية الهندسة!
يدعو مروان:
- يا رب كلية الطب!
يناجي بكر ربه:
- يا رب طب، أو صيدلة، أو علاج طبيعي، أو بيطري حتى ونستحمل الحيوانات زي ما بنستحمل البني آدمين! ولو إني نفسي يا رب أبقى لاعّيب كورة، بس يا رب أبويا يرضى عني!
***
في غرفة كنترول الثانوية العامة، يجلس الأستاذ ناجي رفقة الأستاذ عصمت، يصححان ورق إجابات امتحان اللغة العربية طبقا لنموذج الإجابة الرسمي من وزارة التربية والتعليم، يطرق الأستاذ عصمت على المنضدة قائلا:
- آدي طالب حل السؤال بصيغة غير نموذج الإجابة، هينقص عليه ومش هياخد درجة كاملة بسببه.
يتوقف الأستاذ ناجي عن تصحيح الورقة الموضوعة أمامه، يقوم من مقعده ويتجه للأستاذ عصمت متلهفا، يقول:
- استنى بس! مالك شادد على الطالب كدة ليه؟! مش المكتوب يدل على إجابة السؤال؟
يلتقط من على المنضدة ورقة الإجابة وينظر فيها:
- أيوة زي مابقولك دي تنفع تكون إجابة للسؤال، إجابة تانية غير اللي في النموذج.
- بس ليه ماكتبش الإجابة النموذجية وحب يرتجل من دماغه؟!
- وهو اللي يفكر في صيغة تانية للإجابة يبقى غلطان؟!
- نموذج الإجابة مُقدَّس، يجب أن يَنقُصَ الطالب نصف درجة.
قالها الأستاذ عصمت بنبرة غليظة، وهو يتّكئ على كلمة مقدس بلسانه كي يبرزها، يقول له الأستاذ ناجي مشفقا على الطالب المسكين:
- النصف درجة دي ممكن تُضيّع منه حلم كلية هو عاوزها!
- وإيه اللي منعه من كتابة الإجابة النموذجية؟!
- يمكن نسي صيغتها، أو كان عيان، أو يا سيدي ماعرفهاش وفكر في السؤال شوية لحد ما وصل للي كتبه.
يقول الأستاذ عصمت بعصبية:
- انت بتخلق له الأعذار؟.. دي مش الإجابة الصحيحة اللي إحنا عايزينها، ساعتها لازم ينقص نص درجة.. ماتخلقش أعذار وحسن نوايا..
يرخي ظهره للخلف على مسند المقعد، يتذكر ما أثّر على نفسه منذ مدة، يقول:
- ابني مادخلش كلية الطب.. عشان نصف درجة.. ليه أسيب الطالب دة يتمتع باللي مالوش حق فيه؟
- بس دة حقه! مش مكفّيك الطالب اللي نقّصته عشان موضوع التعبير؟ موضوع تعبير كان كويس مش وحش! أنا شوفته بنفسي، ضيّعت منه درجة.. ليه؟!
- يعني هو العقاد أو طه حسين أو مصطفى صادق الرافعي عشان ياخد درجة نهائية؟!
- وهو انت سيبويه ولا الدؤلي عشان تُقيّمه بالطريقة دي؟!
يتصبب جبين الأستاذ عصمت عرقا، تتهاوى أعصابه، يهتف بعصبية وبحركات يد مرتعشة:
- الطالب غلط!.. الطالب غلطان!.. نموذج الإجابة مايحتملش الإجابة التانية، لازم نمشي على النموذج من غير لف ودوران!.. أي إجابة غير النموذجية تبقى غلط!.. ابني... ابني... اااا...
ينظر له أستاذ ناجي بعطف وشفقة، يدرك جيدا ما يمر به الأستاذ عصمت المكلوم:
- ابنك كان غلطان؟!
يكتم الأستاذ عصمت في عينيه الدموع قدر المستطاع:
- ابني!... ابني ماغلطش!... ابني!... ابني اتظلم!...
لم يحتمل المزيد، ولم يحتمل تغييب ضميره، أو تنويم قلبه، يخطُّ بيده على ورقة إجابة الطالب درجة نهائية (٨٠ من ٨٠)، ثم يغلقها، ويجثم عليها باكيا، يربت أستاذ ناجي على كتفه مواسيًا!...

يتبع...

تغريد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن