أدهم ومروان يسيران نهارا حرقا للوقت الممل الذي يزداد خلاله توترهم، يستثقلان الأيام قبل ظهور نتيجة الثانوية العامة، يقول مروان بحزن:
- بابا راقد في السرير عيان بقاله يومين!
- ربنا يقوّمه بالسلامة!
- إحساسك إيه يا أدهم؟ لما بترجع البيت وماتلاقيش ااا... انت فاهمني؟
ينظر له أدهم برهة في صمت وجزع ثم يومئ، يتوجه ناطريه للطريق الخالي أمامهما ويقول:
- باحس ببرد!
***
يوم ظهور نتيجة العام الثاني في الثانوية، أمام المدرسة، وقفوا بأوراق النتيجة، ينظرون فيها، بدت الفرحة على وجه بكر، حصل في الرياضيات على ١٨.٥ من ٢٠، هتف:
- الحمد لله.. درجاتي كويسة.
قال مروان بابتهاج وهو ينظر في ورقته:
- أنا برضه الحمد لله! وداع لتانية ثانوي وأهلا بالسنة الكبيسة!
قهقه هو وبكر، لاحظا جمود أدهم ونظره للأرض في شعور بالخيبة والحزن، سأله بكر:
- أدهم مالك؟
ضغط أدهم على ورقة النتيجة بقبضته، توجه بكر نحوه وسحبها من يده وهو يقول محاولا تلطيف الجو:
- تلاقيك قفّلت الرياضة كعادتك!
نظر في ورقة النتيجة، أدهم حازَ على ١٠ من ٢٠ في الرياضيات، انصعق بكر ونظر نحوه باستنكار:
- درجتك.. درجتك قُليِّلة!
أومأ أدهم، أخذ منه الورقة، استدار ومضى وحيدا، وهم خلفه ينظرون له بعجب.
اتجه صوب الجبانة، وقف أمام المقبرة، بيده ورقة النتيجة، يتربّع على وجهه الحزن، رفع ورقة النتيجة أمام باب القبر وقال:
- بابا.. نتيجتي أهيه..
ضم شفتيه ألما:
- جبت درجة ضعيفة..
انحدرت دمعة على خده:
- بابا.. أرجوك ارجع، أنا محتاجك!
***
أيام الثانوية العامة أيام يشوبها الاكتئاب، كان مروان جالسا أمام المكتب، أمامه الكتاب يذاكر، نفخ في زهق وأغلق الكتاب، الضيق ضيف ثقيل له اليوم، لكنه لن يستسلم له، أمسك الهاتف، اتصل على بكر، الذي كان يحفظ من كتاب هو الآخر وهو قاعد في البلكونة ويلتهم قطعة جزر:
- ألو يا مروان!
- أنا قاعد بذاكر لوحدي ومتضايق.
- وأنا.. الثانوية العايمة دي مقرفة! هانت كلها شهر ونمتحن.
- إيه رأيك أجيلك نسهر نزاكر لحد ميعاد درس العربي الصبح.
- اشطا ماشي.. تعالى.
- أدهم فين عشان ييجي معانا؟
- أدهم سهران برة عند مستر سيد.. عامل سهرة يراجعوا فيها ع المنهج..
- طيب أنا هقوم ألبس وأجيلك.
- مستنيك.
أغلقا الخط.
قام مروان، خرج من غرفته وتوجّه لغرفة والده جلال، كان راقدا في السرير مريضا، الغرفة مظلمة إلا من أشعة نور مصباح الصالة الملقاة على بساط الأرضية، قال مروان:
- بابا.. أنا رايح عند بكر أسهر معاه نذاكر.
قال جلال بصوت واهن:
- ماشي يا ابني.. ربنا يوفقكم.. ماتقلقش عليا، أنا شوية وهنام.
التفت مروان ليخرج، سمع والده:
- شد حيلك يا مروان.
التفت نحوه وابتسم:
- إن شاء الله!
غادر مروان، التقطه الشارع هو وحقيبة كتفه الملأى بالكتب والكشاكيل، على الناصية أشار إلى توكتوك، وقف له، ركب معه حتى منزل بكر، سرعان ما ضمتهما الحجرة معا، افترشا الأرض، كل منهما يمسك كتابا ينهمك في مذاكرته، ظلا هكذا حتى الثالثة قبل الفجر.
***
عاهد أدهم عمه، أن يحافظ على تغريد، طوال الأمسية التي تمتد لساعات، تبدأ عند انتصاف الليل وتنتهي عند السادسة صباحا، في درس الأستاذ سيد أستاذ الرياضيات، كانت والدة تغريد ضائقة من هذا الوضع، تصيح كثيرا:
- كان مالنا ومال القرف دة، ما كنتي تدخلي صنايع زي بنت خالتك وتريحينا!
لطالما استاءت تغريد من هذا الكلام، كانت تغلق على نفسها الباب، تجلس على مكتبها المليء بالكتب التي تتهمها أمها بإفساد عقل ابنتها، تبكي بصوت مكتوم لدقائق، ثم تستعيد رباطة جأشها سريعا، فهي تود النجاح، تود الاستقلال، تود التحرر من هذا البيت وهذه الأم وهذا الأب وهذه القرية، ترغب أن تطير وتغرد في الفضاء!
- استراحة يا شباب، ساعة نصلي الفجر ونرجع نكمل.
قالها الأستاذ سيد، قام الطلاب من مجالسهم، التقطهم الشارع، محاولين عدم إثارة أي ضجيج لأهل المدينة النائمة.
دوما لا تفارق تغريد أدهم، يذهبان سويا للصلاة، هو في مصلى الرجال وهي في مصلى النساء، ينتهيان من الفجر، تضغط عليهما بطناهما، يذهبان لمحل الكشري، يلتهمان طاجن المعكرونة اللذيذ، يجدان أن وقت الاستراحة لم ينقض بعد، يقفان على الكورنيش لدقائق يتأملان النيل ويتسامران.
تستأنس تغريد بأدهم، في طيات قلبها تضمر له الحب، هو يشعر بذلك، قلبه يدق نحوها منذ فترة، لكنه يؤثر الصمت، يعلمان جيدا أن اقترانهما صعب، السن الواحد عقبة، كما تنص قوانين وتشريعات القرية، يتمسكون بنظرية كبر المرأة قبل الرجل وفقدانها النضارة، لذلك عليه الزواج من فتاة تصغره بسنوات ليستمتع بحيويتها وطزاجتها أطول فترة ممكنة من العمر، كذلك حالة أدهم المادية التي تقف حائلا كالجبل في طريقه، حتى أنه لا يستطيع تهيئة عشة فراخ لا مسكن زوجية، أمامه سنوات حتى يصير جاهزا للتقدم للخطبة، وهذا في عرف القرية لا يجوز، يعلمان هذا جيدا، لذلك يكبتان الحب بقلبيهما، لأجل غير مسمى.
في تلك الليلة، سمعت تغريد والديها يتحدثان في حجرتهما بصوت خفيض، اقتربت وتنصتت كجاسوسة تبغي معرفة السر، كريم يريدها زوجة له، لا يهمه أن تكمل تعليمها، هو كفيل بمصروفاتها، لمحت موافقة أمها وترحيب أبيها ونفورهما من تعلمها وطموحاتها، جاءت السهرة مع أدهم، جلست في الدرس وذهنها منقسم، نصف يركز في المعادلات التفاضلية، ونصف ينجذب لفكرة البوح.
على الكورنيش، وهما ينظران نحو النيل المعتم، التقت عيناهما، ليس كأي لقاء مسبق، كانت نظرات الهيام، استشعراه معا، ابتسمت مغتبطة، كذلك هو، مرت بجوارهما عربة جيلاتي، صاحبها أدار المسجل على أغنية شادية، تلت شفتاهما كلمات الأغنية سيرا على اللحن:
بالهداوة .. يا حبيبي
حِب واشبع .. حُب لكن
بالهداااااااوة
هو حَد يحُط سُكَّر.. عَ الحلاوة
يا حبيبي؟
بالهداااااااوة!
سارعت بالاعتراف قبله، صدحت بمكنون قلبها:
- أدهم.. أنا باحبَّك!
حملق فيها طويلا معجبا بجرأتها قبل أن يقول:
- وأنا كمان.. باحبِّك!
تحول وجه تغريد لليأس وقالت:
- طب ليه إحنا ساكتين؟!
طارت البسمة من على شفتيه وقال:
- عشان.. عشان ماننفعش لبعض، انتي عارفة كدة كويس!
أطرقت النظر أرضا في يأس:
- طب والعمل؟!
- نركز دلوقتي في امتحاناتنا.. ماتشتتيش نفسك يا تغريد.
عادت بيتها في الصباح، رغم فرحتها جزئيا باعتراف الحب الذي طال انتظاره، إلا أنها سقطت على الأرض، شاعرة بالهزيمة، الشمس تلقي أشعتها على جسدها المتقوقع على نفسه، انخرطت في البكاء بحرقة!
***
قبيل الفجر، زهق مروان من مواصلة المذاكرة، بدا عليه الإرهاق، نفخ متضجرًا، ترك الكتاب، نظر نحو بكر الذي يجلس قبالته، بادله بكر النظر بدوره، أدرك أن عليهما التوقف لبعض الوقت، ترك الكتاب هو الآخر، سأله:
- تشرب شاي؟
أومأ مروان، انتصبت قامة بكر، ذهب للمطبخ، ملأ الغلاية بماء من الصنبور، عاد بالغلاية ومعه كوبين فوق صينية استقر فوقها وعائي الشاي والسكر والملعقة، وضع قابس الغلاية في مخرج الكهرباء، قعد على الأرض يُعِدُّ الكوبين.
كان مروان شاردا، يده تحركت، أمسكت القلم، كتبت على صفحة الكتاب بخط كبير: "يا رب ٩٩%".
وضع بكر كوب الشاي بجوار مروان، التقطت عيناه الجملة المكتوبة، ابتسم وقال:
- إن شاء الله تجيبها يا مروان.
عاد مكانه وأخذ يرشف الشاي، مروان لم يبدأ شرب الشاي، ما زال شاردا، في المستقبل الغامض، أن يصير طبيبا ليس بالأمر السهل، لن يتزحزح مجموع كلية الطب عن ال٩٨ بالمئة، تلعب النسبة المخيفة بأعصابه طوال الوقت، قطع بكر عليه شروده:
- مالك؟
تنفس مروان بعمق وزفر، ثم قال:
- خايف!..
تأمل بكر حاله برهة ثم قال:
- وأنا كمان خايف!
غمغم مروان دون أن ينظر لبكر:
- خايف من الفشل!
تبعه بكر:
- خايف من الزمن!..
تذكر بكر أمرا هامًّا نسي أن يستفسر عن تفاصيله، حدّج مروان مقطبا وسأله:
- صحيح يا مروان، انت كنت من الإعدادية وبتقول نفسك تدخل كلية الهندسة، وكمان كنت شاطر في الرياضة وبتحبها.. يا أخي دة لما الأستاذ كان يحط المسألة ع السبورة كنت أول واحد يخلّص حَل وتقول بفرحة كدة "أنا خلَّصت"..
ضحك وهو يتابع كلامه:
- حتى كنت مسميك (مروان خلَّصت).. دة غير إنك ماكنتش بتطيق الأحياء ولا مهتم بأي حاجة ليها علاقة بالطب أو حتى الصيدلة.. إيه خلاك تدخل علمي علوم وتبقى عايز تُخُش كليّة الطب؟!
سرَح مروان في ذكرى قديمة حدثت منذ عام، قصّها على صاحبه..
نفس يوم ظهور النتيجة، الذي ذهب فيه أدهم للقبر مناجيا والده طالبا أن يعود، في المنزل، أعطى مروان لأبيه ورقة نتيجته بفرح، كان ذلك قبل أن يقعده المرض في فراشه، تفحّصها جلال قبل أن يقول بنشوة:
- برافو يا مروان، مبروك!
- الله يبارك فيك يا بابا!
جلس جلال على المقعد، بدا عليه اليأس، زم شفتيه وقال:
- درجتك في الرياضة أعلى من الأحياء!
- أنا بحب الرياضة!.. وحضرتك عارف.
- يعني ناوي برضه ع الهندسة!.. ممم.. كان نفسي أشوفك دكتور!
زالت البسمة من على شفتي مروان!
هنا بدأت الفكرة تسيطر عليه، أن يغير طموحه ويصير طبيبا!
قطّب بكر حاجبيه وقال:
- غيرت طموحك وحلمك عشان أبوك؟!
رد مروان:
- بابا شخص عظيم، بذل كتير عشاني.. يستحق إني أحاول أحقق له أمله فيّا!
صمت بكر برهة وجيزة، بدا خلالها مهموما ومستاءً، ثم قال:
- أنا بقى تقريبا مهما عملت مابيعجبش أبويا!
تصاعد أذان الفجر من مكبرات الصوت في المساجد.
- الفجر!
- بينا نقوم نصلي عشان نكمل مذاكرة.
قاما من جلستهما، توضأا، وقف مروان إماما، صليا معا، عادا بعدها للكتاب يستذكران، النهار شقشق وهما على حالتهما تلك، حتى غلبهما النعاس، نام كل منهما في مكانه، الكتاب رفيقه، الجدار مسنده، في مواجهة الشمس.يتبع...
أنت تقرأ
تغريد
Romanceتحكي القصة عن أدهم وتغريد ومروان وبكر، شباب في الثانوية العامة، أدهم يحب تغريد، وتغريد تبادله الحب، ولكن الأهل يقفون عائقا في طريق حبهما، في أيام ما قبل ظهور نتيجة الثانوية العامة نعيش لحظات شديدة الحرارة بين جميع الأطراف، فهل يسمح المجتمع للطيور أن...