التغريدة السادسة

12 0 0
                                    

أمام مقبرة والده، يقف أدهم، يقرأ الفاتحة، يجلس على المصطبة، يحدث القبر مبتسما:
- انت طبعا سامعني.. لولاك حاجات كتير حلوة ماكانتش حصلت! أنا النهاردة جاي أقول لك إني دخلت كلية الهندسة.. حققت اللي أنا كان نفسي فيه واللي انت ساعدتني عليه.. دايما بتسندني حتى وانت مش موجود بجسمك، روحك حاسس بيها حواليا دايما، مابتفارقنيش.. شكرا يا بابا..
تغرورق عيناه وكفه تلامس باب القبر كأنما تنطبق على كف والده!..
***
يسير أدهم ومروان متوجهين نحو بيت الأستاذ ناجي، يسأله أدهم:
- وطلعلك إيه في التظلم؟
يجيب مروان:
- لاقيت سؤالين في ورقة العربي صح بس معمول عليهم غلط، وزيهم في ورقة الكيميا!
- لا حول ولا قوة إلا بالله، هو اللي بيعلم دة شارب؟!
- يا أدهم لو أخدت درجاتهم هاجيب مجموع يدخلني كلية طب الأسنان أو الصيدلة في أسوأ الظروف!
- أما نشوف الأستاذ هايقول إيه!
يقفان أمام البيت، يضغط مروان على زر الجرس، يفتح لهما الأستاذ، يرحب بهما، يستقبلهما في حجرة الدرس، يقعدان على الدكة، بينما يقف هو عند السبورة يستمع لمصاب مروان، بغضب يطرق بكفه على السبورة، يجلس وهو ينفخ ضائقا، يقول:
- مشكلة.. فعلا مشكلة.. يضيعوا تعب طالب وتعب أهله ويدهسوا حلمه بسهولة.. كتير كنت بتخانق عشان نص درجة لطالب حالل صح بس مش طبقا لنمودج الإجابة.. هه نموذج الإجابة المُقدَّس! لا حياة لمن تنادي!
يسأله أدهم:
- طب والعمل؟ كدة مروان ليه درجات المفروض ياخدها!
يهز أستاذ ناجي رأسه نافيا:
- الحالة الوحيدة اللي يجيله فيه درجات، يا إما سؤال ماتصححش من الأساس، يا إما اللي بيعلم غلط في تجميع الدرجات ونسي يجمع درجة سؤال.. غير كدة لازم ترفع قضية.. والقضية تقعد في المحكمة سنتين ولا تلاتة على ما يبتّوا فيها.. بس طبعا مش هتقدر تضيع من عمرك دة كله!
يطرق مروان النظر أرضا في يأس وحزن.
- أنا آسف يا مروان!.. حاول تقبل بنصيبك.. هي دي بلدنا للأسف!
في المساء، فوق السطوح كما يحبان، حيث الهواء الطلق، يجلس أمجد على الكرسي شارد الذهن، بينما يقف مروان عند السور يرقب البلدة في الظلام، في ضيق وحزن، يشعر بأنه فوق سور الأعراف، لا يطول جنة ولا نار، لم يصبح طبيبا ولا يستطيع الانسجام مع فكرة ذهابه لكلية أخرى لا يرغب بها، والأدهى، أنه لا يستطيع العودة للوراء وتصحيح المسار فيلتحق بشعبة الرياضيات بدلا من العلوم، ال94 بالمئة لو حصل عليها ساعتها لأتيح له دخول كلية الهندسة بسهولة، ولكن تحقيق أي من هذه الأمور مستحيل الآن!
يتمتم بصوت واهن:
- حاسس إني مخنوق يا أمجد..
ينتبه له أمجد، يرهف له السمع:
- أبويا كان نفسه يشوفني دكتور وأنا ماحققتش اللي كان نفسه فيه!.. للأسف يا أمجد، مش هعرف أقابلك في كلية الطب، مش هاعرف أعزمك هناك على حاجة وأنا مبسوط وفرحان بدخولي الكلية زي ما انت دخلت زمان!..
يقاطعه أمجد:
- مروان!
يلتفت له مروان، يتحاشى أمجد مواجهته لثوان، يتشجع وينظر له ويعترف:
- مروان أنا مش في كلية الطب!
يقطب مروان حاجبيه مُستنكرا! يقترب منه ويجلس على المقعد المواجه، يسأله في حيرة:
- ايه اللي انت بتقوله دة؟!
- أنا مش في كلية الطب، أنا في تانية تجارة!
- دة إزاي؟!
يتحدث أمجد بنبرة حزينة آسفة:
- غلطت زمان!.. زيك كدة.. كان نفسي أبقى مهندس، بس أبويا كان هيموت ويشوفني دكتور، قلت فرحة أبويا عندي تساوي الدنيا، ماعرفش ليه افتكرت إني لو دخلت كلية الهندسة هو مكانش هيفرح! غيرت من علمي رياضة لعلمي علوم، ذاكرت واجتهدت جامد، دخلت كلية الطب، زي ماحكيتلك، رقص وهيَّص ووزع جاتوه وبيبسي على الشارع كله، كنت مبسوط لأنه هو مبسوط.. وبعدين؟! كنت في الكلية عامل زي الغريب، مش متأقلم مع أي حاجة، لا الزملاء ولا المواد ولا أي حاجة، كنت بروح وأرجع بحس إني نقصت حتة مني، لا قادر أشوف عظام ولا أشوف جثة أو أدخل محاضرة تشريح، لا المكان مكاني ولا روحي متقبّلة إني أكون هناك أو أدرس الطب لغرض إنساني حتى، أدرس حاجة مابحبهاش ولا بطيقها، فسقطت!..
ينقبض وجه مروان!
- أيوة سقطت، سنة وسنتين، ولسة المشوار سبع سنين كاملين، لاقيت إن مافيش فايدة، وعمري هيضيع لو فضلت كدة، ماكانش فيه قدامي غير إني أحوّل من كلية الطب.. دلوقتي أنا في تانية تجارة، والحمد لله الدراسة ماشية معايا كويس، مرتاح شوية، نفسيتي هادية عما كنت قبل كدة، صحيح أبويا متضايق من عملتي، بس للأسف ماكانش قدامي غير كدة، أنا كنت عامل زي الميت يا مروان.. كل دة عشان مشيت ورا طموح مش طموحي ولا أنا عايزه.. صدقني يا مروان، أبوك ماكانش هيتبسط ولا انت كنت هترتاح لو حققت له اللي هو كان عايزه، ربنا رحمك من الغلطة بتاعتي، انت دلوقتي أحسن، صدقني!
يمتطي الذهول مروان بشدة، يدرك عظم الخطأ الذي ارتكبه قبل عام، ينكس رأسه في حزن وحسرة.
***
يذهب أدهم لبكر من آن لآخر، يعلم أن التشاؤم يسيطر على أيامه، يحاول ألا يتركه في ظل الأزمة النفسية التي يمر بها، يجلسان في البلكونة، يستنشقان بعض الهواء في هذا القيظ، يريان إعلانا لنادي كرة قدم على الفيسبوك يطلب من الشباب التقدم، يسأله أدهم:
- هاه، هتعمل إيه؟!
يقول بكر بحماس:
- أنا لازم أروح اختبارات النادي.. لازم أحاول مرة واتنين وتلاتة.. مش هسكت.
- جدع.. الاختبار امتى؟
- بكرة.
- كويس، هاجي معاك، ومروان كمان ييجي نشجعك.
يتقوقع بكر على نفسه، يقول:
- المهم نتقبل!
يدخل جمال البلكونة، يلقي نظرة على الشارع، يلتفت له بكر:
- بابا!
- نعم!
يقولها جمال جون أن ينظر له، يقول بكر:
- كنت محتاج فلوس.
- ليه؟
- هقدم في اختبارات النادي.
يلتفت جمال نحوه بغضب كأنما سبّه:
- كورة تاني؟! يادي القرف! ماترحمنا وارحم نفسك بقى يا اخي!
يتنهد بكر:
- أنا كل اللي محتاجه فلوس بسيطة يا بابا مش كتير، مش لازم كل شوية تأنبني!
أدهم مذهول من غضب جمال الشديد والغريب، لا يفهم ما المغزى من منع ابنه من المحاولة حتى، يزعق جمال:
- مافيش فلوس.. هتروح وتفشل وترجع لي تاني، أنا عارفك، مش هتفلح في حاجة أبدا!
يتركهما ويعود من حيث جاء، على وجهيهما اليأس والضيق يربت أدهم على كتف بكر:
- ولا يهمك، أنا ومروان هنساعدك في المبلغ، بكرة هنروح الاختبارات.
***
تقام الاختبارات في كلية الزراعة جامعة عين شمس، على باب الملعب يجلس رجل أمام ترابيزة، بيده استمارات الاشتراك، يدفع له بكر وينال استمارته، يدخل الملعب برفقة مروان وأدهم المتحمسين، يدعوان لصديقهما أن يحوز مبتغاه ويُقيَّد في النادي، ينفصل بكر عنهما، يذهب للحمام كي يبدّل ملابسه ويرتدي الزي الرياضي، فانلّة "ميسي" التي يحبها، يأخذ نفسا عميقا ثم يخرج ويواجه الملعب.
يتأمل مروان وأدهم الحضور، ينجذب أدهم نحو ذاك الفتى القادم مع أمه الفاتنة المثيرة، تصافح الكباتن، يعرفونها وتعرفهم، يدعونها أم يوسف، والذي معها هو يوسف، الذي يطمح ليصير لاعبا، يلاحظ أدهم عيونهم المنجذبة نحو مؤخرتها الضائقة في البنطلون، يقول أدهم لمروان ضاحكا:
- الواد يوسف دة كدة خلاص اتقبل.
يقهقه مروان:
- الظاهر كدة فعلا!
يمر يوسف وأمه من ورائهما، لا يستطيع أدهم منع نفسه، يقول ليوسف وهو يمر:
- مبروك!
ينظر له يوسف باستغراب ثم يتابع السير.
الكابتن هريدي خارج الملعب، يلقي تعليماته للاعبين الذين قسمهم لفريقين يتواجهان، ينزلون الملعب بروح حماسية، يتواجه بكر ويوسف، يصفر كابتن هريدي، الكرة تتراكلها الأقدام، تمريرة من لاعب، رفعية من آخر، بكر يسدد، هدف، يهتف مروان وأدهم فرحين، يراوغ بكر يوسف، يتخطاه بمهارة وأعجوبة تجعل عينا كابتن هريدي تجحظ ولسانه يهتف:"الله!"، يقع يوسف على وجهه، تشهق أمه غير مصدقة، يقوم يوسف غاضبا، يضرب الأرض بقبضته في غيظ، يصل بكر للمرمى، يسدد، يحرز الهدف، يهلل مروان وبكر، يصفر الكابتن هريدي معلنا انتهاء الجولة.
يستقر في نفس بكر أنه قد اجتاز الاختبار، سيفرح بعد دقائق لما يختاره الكابتن هريدي لصف النادي، يسمع أدهم من بعض الشباب الواقفين بالخارج عبارات ثناء على أداء بكر الممتاز، لكن لا يدري لما يشعر بضيق عندما رأى أم يوسف تجلس مطمئنة وهي تدخن السيجارة وتنفث هواءها مبتسمة.
يخرج يوسف من الملعب، يتوجه للكابتن هريدي، يراقب أدهم ومروان ما يحدث من بعيد، يطبطب الكابتن على ظهر يوسف قائلا:
- برافو يا يوسف.. كنت رائع.. ربنا يبارك لك.
يسأله يوسف بلهفة:
- إيه النظام طيب؟
يغمز له هريدي ويهمس في أذنه:
- ماتقلقش بقى زي قولت لك إمبارح أنا ومامي! ياللا روح غيّر!
أدهم ومروان ينظران لبعضهما في دهشة!
يذهب بكر المبتهج لهريدي، يتلقاه هريدي مبتسما، يقول له:
- انت كويس، إمكانياتك حلوة، بتعرف تعدي من الالتحامات وتركز ع الجون.. بس هتنتظرنا بقى شوية لحد ما الإدارة يتناقشوا مع بعض وبعدها هنتصل بيك.
تزول البسمة من على شفتي بكر!
- يا كابتن.. أرجوك، أنا بلف كتير، يا ريت لو ماليش فرصة هنا ماتعشّمنيش!
يتأبط الكابتن ذراعه ويجذبه ليسير بجواره، يهمس له:
- بص.. فيه حل إنك تتقيد معانا، محتاجين بس مبلغ بسيط وهتتقيد وقتي.
- كام؟
- تلاتين ألف جنيه.
ينصعق بكر! يسب الكابتن هريدي في عقله ألف مرة، يقول:
- بس أنا عمري ما يكون معايا مبلغ زي دة، أنا لا أملك غير رجلي اللي بلعب بيها!
يشعل الكابتن هريدي سيجارة وينفث دخانها في الفضاء، يقول لبكر:
- هو دة المتاح، فكّر ورقمي معاك.
يجيء مساعد الكابتن، يخبره أن أم يوسف تريده في أمر هام خارج الملعب، تبرق عيناه بابتهاج ويقول:
- هي هنا؟! طب أنا جاي أهوه..
ثم يقول لبكر وهو يربت على كتفه:
- عن إذنك يا نجم!
ينصرف كابتن هريدي، الذي يمثل أحد رؤوس الفساد في منظومة كبيرة.
بكر متسمر في مكانه، مذهول، يتساءل ما هذا العبث؟!
يأتيه مروان، يربت على كتفه مشفقا، يقول:
- عادي.. نحاول في اختبارات تانية.
ينفخ بكر زهقا:
- الكلام دة لو سنّي صغير يا مروان.. أنا كل يوم بكبر.. فرصتي معدومة لما أوصل لـ٢٠ سنة.. يزم شفتيه:
- أبويا السبب، حرمني من الكورة طول السنين اللي فاتت، فرص كتير جاتلي وهو لغاها بسهولة زي ما بيقزقز اللب ويتف القشر!
ينظر للملعب بحزن، يقرفص أمام النجيلة الخضراء:
- مابقيتش عارف أعمل إيه! الواحد يحقق حلمه إزاي في البلد دي؟! حاسس إني عصفور محبوس جوة قفص وممنوع إني أطير، القفص كل مدى بيضيق عليا لحد ما هيموّتني!
يقول مروان بحزن:
- معلش يا بكر!.. قدرنا كدة! أحلامنا صعبة المنال!.. بس ماتستسلمش، إن شاء الله ربنا يجبر بخاطرك، نصيبك أكيد شايلهولك في مكان تاني!.. ياللا دلوقتي نروّح، مالكش نصيب في المكان دة!
يتابع بكر الكرة التي يشوطها أحدهم فتستقر بالقرب منه، ينظر لها بغضب طفل لا يستطيع الحصول على لعبته الأثيرة، يقول بعدما تمكن منه اليأس:
- ياللا نمشي!
يتلفت بكر حوله متعجبا، يسأل مروان:
- أدهم فين؟!
يتلفت مروان حوله باحثا عنه:
- ماعرفش، كان من شوية معايا فجأة اختفى!
يخرجان من الملعب، يجدان أدهم بالخارج واقفا مع أم يوسف، يتحدثان معا، تجحظ عينا بكر ومروان، ثوان ثم يترك أدهم أم يوسف المبتسمة جراء مدحه في صنيع ابنها يوسف اليوم وأنه معجب كبير به، يعود لرفيقيه اللذين ينظران له بريبة، يسأله بكر:
- انت كنت بتعمل إيه؟
- كنت بحاول أعلّق أم يوسف، شكلها ست واصلة!..

إلى اللقاء في في التغريدة الأخيرة...

تغريد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن