التغريدة الخامسة

12 1 0
                                    

مروان وأدهم جالسان قبالة بعضهما، في صالة بيت أدهم، لجأ مروان إليه بعد الخبر الذي أصاب قلبه كسهم ناري، يطرق بنظره للأرض في جزع، بينما يعتلي وجه أدهم أمارات الصعق، تمتم مروان:
- كل شيء ضاع!
يهز أدهم رأسه نفيا:
- ماتقولش كدة!
بصوت يميل للبكاء يتمتم مروان:
- كان نفسي أفرح أبويا وأبقى دكتور زي ما بيتمنى!
يربت أدهم على كتفه محاولا التخفيف عنه:
- أنا حاسس إن فيه غلط.. أكيد فيه غلط، مش انت متأكد من حلولك في الامتحانات؟!
قال ورأسه منكسة:
- حاليا أنا مش متأكد من أي حاجة!
لا يدري أدهم ماذا يقول، يترجل مروان، يسأله أدهم عاقدا حاجبيه:
- على فين؟!
- كفاية كدة عشان ما أتعبش أعصابك، انت متوتر دلوقتي.. أنا هارجع البيت!
يقف أدهم ويربت على كتفه مجددا:
- هتعدي.. كل حاجة بتعدي.. أهم حاجة مانخسرش نفسنا!
يومئ مروان في ألم، ثم يمضي في صمت حزين..
يعود أدهم لغرفته، يشعر بالغثيان، بطنه مضطربة، يدعو الله أن تمر الليلة على خير، يحاول جاهدا أن ينام، ولكن عينه تأبى!
يعود مروان للمنزل، بخطى بطيئة يتحرك نحو حجرة والده، جلال راقد في السرير، يدخل عليه مروان بحذر، يفكر أن يكتم الموضوع ولكن لا مفر، يجلس أمامه على المقعد، لا يستطيع مواراة الحزن والجزع في وجهه وعينيه، تكتنف جسده برودة رغم حر يوليو الشديد والعرق الذي يتفصّد من جبينه، يقول بشفتين ترتعشان:
- بابا.. أنا فشلت.. أنااا.. جبت ٩٤ في المية.. مش هابقى دكتور زي ما وعدتك!
تنكس رأسه في خيبة، ينظر أرضا في يأس متحاشيا النظر في وجه أبيه، يرمقه جلال لثوان معدودات في صمت قاتل، ثم..
تحتضن كفه يد مروان وتطبطب عليها!
- مش مهم يا مروان!
يقولها بصوته الضعيف المريض، يتعجب مروان من رد فعل والده، ينظر له مذهولا، يبتسم جلال ويقول:
- انت مافَشَلتِش!
***
إنها الظهيرة، أدهم نائم، بعد معاناة طوال ليلة أمس، كلما شعر بالوخزة من الخوف يفتح هاتفه ويستكشف إذا ما ظهرت النتيجة رسميا ليعلم صنيعه أم لا، لم تظهر النتيجة حتى وصل لذروة الإنهاك والتعب، تمكن منه النعاس في السادسة صباحا، نام كالقتيل.
تقتحم عائشة الحجرة ملهوفة، تهزه يدها برفق:
- أدهم، اصحى يا أدهم!
يستيقظ مفزوعا:
- إيه فيه إيه؟!
- نتيجة الثانوية.. بانت!
تظهر الصدمة على وجه أدهم وتجحظ عيناه!
- بجد؟!
- أيوة والله، الجيران جابوها، بيقولوا ظهرت ع اليوم السابع، قوم شوف انت عملت ايه!
ينتفض من مكانه، يجذب هاتفه من الشاحن، يفتح موقع اليوم السابع ليبحث عن النتيجة، يسألها:
- مين اللي جابها؟
- البنت حنان جارتنا.
- البنت الدحيحة اللي بينادولها يا دكتورة في الراحة والجاية دي؟!
تقطب عائشة حاجبيها:
- أيوة، دكتورة إيه بقى ماهي جابت ٨٠ في المية!
يرتعد أدهم وينظر لها مدهوشا، يبلع ريقه متوترا، تظهر أمامه صفحة النتيجة في شاشة الهاتف:
- ظهرت فعلا!
- طب شوفها ياللا..
تحرك أصبعه ليكتب رقم الجلوس، تمسك عائشة يده لتمنعه من الكتابة:
- استنى قبل ما تشوف..
ينظر لها مندهشا، تقول:
- عاوزاك تعرف إن مش فارقلي المجموع كام، انت عملت اللي عليك وأنا مقدرة، وهفرح بيك في أي مكان تكون فيه.
يومئ لها مبتسما وقد تسرب لقلبه بعض الراحة، يكتب رقم الجلوس، يفتح الصفحة، يطّلع على النتيجة، مادة مادة، رقما رقما، النسبة المئوية النهائية، وجهه يتعلم بعلامات الذهول، ينظر لعائشة، عائشة مصدومة، تبادله النظر بدهشة عارمة، تبتسم وتقول:
- ٩٧ في المية!
تطير عائشة من مكانها وتحلّق، تتصاعد زغاريدها عاليا لتملأ الأسماع!
***
أدهم ومروان يقفان أمام جمال في ساحة بيته، هرعا إليه كي يطمئنّا على بكر لما وجدا منه انقطاعا عن الرد على اتصالاتهما ورسائلهما، يقول جمال لهما بوجه كاشر:
- اتسحّب وخرج ماعرفش راح فين!..
ينظر أدهم ومروان لبعضهما في حيرة، يغمغم جمال ضائقا:
- جاب ٧٩ في المية!.. آدي أخرة اللعب والاستهتار.. مش عاوز يفهم إن اللي في دماغه دة وهم!.. الواد دة هيفضل تاعبني على طول!
يطرق أدهم بنظره للأرض في أسى، يقول مروان:
- طب إحنا هنروح ندور عليه يا عم جمال، إن شاء الله نلاقيه!
- يا ريت تلاقوه، مهما كان برضه ابني، أخاف يعمل في نفسه حاجة!
يرحل أدهم ومروان، يتساءل مروان:
- تفتكر هيكون فين؟
يفكر أدهم مليا، يعي أين يمكن أن يجداه الآن، توجها نحو النيل، بكر هناك جالس فوق المنحدر، يرمق النيل مهموما، يقتربان منه ويقعدان على جانبيه، يربتان على كتفيه، يقول أدهم:
- ماتزعلش!
يقول بكر:
- مش زعلان!.. أنا مش زعلان عشان مجموعي وحش!
يسأله مروان:
- أبوك عمل إيه لما عرفت النتيجة؟!
يحكي بكر ما حدث منذ ساعة..
كان جالسا على طرف السرير أمام والده جمال القابع على الكرسي، جمال بيده الهاتف، تظهر بشاشته نتيجة بكر، تسعة وسبعون بالمئة، عيناه مليئتان باليأس والفتور، يحدج بكر في صمت، تتلاقى عيناهما، تحمل عينا جمال العتاب واللوم! أخيرا تحدث، الكلام من فمه كطلقات الرصاص:
- فشلت يا بكر.. صرفت عليك دم قلبي وفشلت.. ضيّعت مستقبلك، ومش هامّك تعبي.. كل اللي انت شايفه لنفسك إنك تلعب كورة، وهي ولا بتفيدك ولا هتغنيك..
ثم بجزع وإحباط:
- انت بِئس الابن!.. مش انت اللي اتمنيت أخلّفه أبدا!
تلقى بكر الكلام صامتا، ينغرس في قلبه كالسكين، ثم تحامل على نفسه وقام، خرج من الغرفة محاولا منع بكائه، ثم غادر البيت برمته.
يهتف مروان بغيظ:
- إحنا أعصابنا اتهرت والله.. مصر كلها حالها بيتشقلب اليوم دة.. كل سنة!
يواسي أدهم بكر:
- ماتزعلش من أبوك يا بكر.. هو بيعمل كدة زعلان عليك، ومن زعله مش داري هو بيقول إيه!
يقول بكر:
- كلامه سكاكين في قلبي..
ثم تدمع عيناه:
- تخيل أبوك يقول لك إن انت مش الابن اللي كان نفسه يخلفه!
يطبطبان عليه، يقول مروان:
- اللي قاله دة كان ساعة شيطان وراحت لحالها، إحنا كنا عنده، بيسأل عليك، هو خايف عليك جدا وعاوزك ترجع..
يقتنع بكر بالعودة، لا مكان آخر يؤويه غير بيت أبيه، يعود البيت ويودع صديقيه، يدخل من الباب، أبوه يقف في المدخل يرقبه وهو يدخل، يتواجهان، تتلاقى عيناهما لثوان في صمت، لا يتكلم جمال، يستدير ويلج إحدى الغرف تاركا بكر بلا مبالاة، يدخل بكر غرفته ويغلق الباب، يجلس على حافة السرير، يمسك رأسه بكفيه، ويبكي!...
***
يركض أدهم فرحا، نحو بيت تغريد في القرية، يطرق الباب، تفتح له تغريد الباب، بوجه حزين، وأسفل عينيها كدمة زرقاء!
تجحظ عينا أدهم وهو ينظر لكدمتها:
- تغريد، إيه جرا لك؟!
تسمح له بالدخول، وحدهما في الصالة يقفان، أدهم غير فاهم، ولكنه يرى في عينيها الألم الذي يشوبها، يشعر بنفس شعورها، المرار!
يسألها:
- مين عمل فيكي كدة؟!
تنكس رأسها وتقول:
- أمي!
- إيه؟!
البارحة، طار لب كريم، بعد مكالمتها التي تعلن فيها رغبتها في الانفصال عنه، صاح بغضب أمام والدته:
- يعني إيه؟ مش عايزاني؟!
قالت والدته بضيق:
- فشر! ابني دايما مرغوب فيه! إزاي هي تقول كدة قليلة الأدب دي؟!
اتصلت بأمها، تشكو إليها ابنتها، ثارت أم تغريد، دخلت عليها غرفتها تواجهها بالحادثة:
- عاوزة تسيبي خطيبك ليه يا صايعة؟!
- إيه يا ماما يا صايعة اللي بتقوليها دي؟! أنا مش عاوزاه!
- هتتجوزيه غصب عن اللي خلفوكي!
وبعد مشادات كلامية، جذبتها الأم من شعرها، نزلت على رأسها بضربات متتالية بيدها الخشنة، تألّمت تغريد وتوجعت، سقطت أرضا تبكي في حرقة، قالت والدتها:
- مافيش لا جامعة ولا زفت، وابن عمك تنسي إنك تشوفيه تاني، لما ييجي أنا هاقوله.
تجحظ عينا أدهم، يقول في سره:
- المجرمين!
يسألها:
- وعمي؟!
- بابا وماما كلمتهم واحدة.
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول:
- أنا بندفن يا أدهم!
- انتي جبتي نتيجتك؟
تهز رأسها نفيا:
- أمي مانعة عني التليفون!
يخرج هاتفه، يفتح صفحة النتيجة:
- رقم جلوسك إيه؟
تخبره بالرقم، ينظر في النتيجة، يندهش، حصلت تغريد على ٩٥ بالمئة، تغمره السعادة، يبتسم ويبارك، هي لا تدري أتفرح أم تحزن، تتكلف الابتسام، هنا تقتحم الأم الصالة كالقدر الأسود، عيناها تتقدان شرا كعيني شيطانة قادمة من الجحيم:
- انت هنا يا أدهم.. إزيك؟
يحاول مواراة غضبه، يرد:
- احم، الحمد لله.
- أدهم، يا ريت مايبقاش ليك علاقة بتغريد تاني!
تجحظ عيناه:
- ليه يا مرات عمي!
- عشان انت هتخرب عليها!
تنحدر الدمعة على خد تغريد وتكبت صوت النحيب، يرفع أدهم الهاتف في وجه أمها، يريها المجموع الممتاز، يقول:
- يا مرات عمي، تغريد شاطرة جدا، جابت ٩٥ في المية، تقدر تدخل كلية الهندسة، تبقى مهندسة شاطرة!
تثور الأم:
- ملعون أبو المجموع ع الشطارة، البنت مالهاش غير بيت جوزها، مش هتروح تطبخ له بالمسطرة هي، أنا وأبوها اتفقنا خلاص، كفاية أوي تعليم لغاية كدة.
يحافظ أدهم على هدوئه رغم تراكم الغضب بداخله:
- بس هي مش عاوزة كدة يا مرات عمي!
- البنت ماتعوزش، اللي أنا عاوزاه هو اللي هيكون!
- انتم كدة بتضيعوها!
- إحنا كدة بنحافظ عليها، إحنا أدرى بمصلحتها، مش انت.. من هنا ورايح يا أدهم، زيارتك تكون لعمك، أما هي لأ.. سامع؟
لم يرد، ينظر لتغريد المنكسرة التي تبكي في صمت، يطرق النظر أرضا شاعرا بالعجز، يعجز أن يتلقف محبوبته وينقذها من براثن الموت ويطير بها بعيدا ليعيشا معا في سعادة، يلتفت نحو الباب، يغادر مهزومًا.

يتبع...

تغريد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن