الشّهقةُ الخامِسة

9 3 6
                                    

«من وجهةِ نظر الكَاتب»

ضغطَ على المكابحِ برفقٍ بعد أن توقّف من تدوِير دوّاسة العجلةِ الخلفيّة بقدمِه، ثمّ ركنَ درّاجتهُ الهوائيّة بقارعةِ الطّريق جاعلًا منها تتّكِأُ بقدمٍ حديديّةٍ قابلةٍ للتّحريك.

حدّق قليلًا بالمنزلِ حيثُ الأنوارُ تنبعثُ من النّوافذ مُخترقةً أليافَ الأسترةِ البيضاءِ المطرّزة بخطوطٍ نحاسيّة، بحثَ عن حصًى صغيرةٍ من الأرضِ بسرعةٍ فحمِلها بين أصابعهِ ورماهَا نحوَ نافذةٍ بالطّابق العلويّ، فارتطَمت بالزّجاج وأصدرَت ترنيمةً قصيرةً خافتة الصّوت.

لحظاتٌ حتّى فُتحت النّافذة وأطلّت ألِيس بابتسامةٍ دافئةٍ راسمةً على شفاهِه الرّقيقة ابتسامةً مغمورةً بالمشاعِر، حدّق بها مطوّلا وكان أكثر ما أسِر نظرهُ هو حدقتيها الخضراوتينِ، كانتا كجرعةِ نبيذٍ أغدقت بهِ وأصابتهُ بالهوسِ، فلم تشأ قزحتاهُما أن تتزحزحَ عن بعضهِما البعض.

أمّا ألِيس فضحكةٌ مكبوتةٌ ودّت الجريَ بأعنّةِ قلبها المتمايلِ والمتراقصِ، فهي لم تتوقّع عودتهُ بهذهِ السّرعة، عدستاهُ اللّتان استعارتَا لونَ البحارِ وصفاءهَا جمّدت كلّ ذرّةٍ بجسدِها، وأثلجت قلبهَا الّذي قفز بداخِلها بوجهٍ بهيج.

نزلَت السّلالِم وركضت ناحيةَ الباب، وما إن فتحتهُ هرعَت نحوهُ بسرعةٍ ثمّ توقّفت لمّا تبقّى بينهما بضعُ خطواتٍ، تقدّم نحوها ببطءٍ ثمّ حاوطهَا بذراعيهِ ليُشعرها بدفءٍ افتقدتهُ طيلةَ اليومِ المنفرطِ، تمامًا كما كانَ وداعهُما الّذي جفّف دمُوع حزنِها وبثِّها، همست بين خصلاتِ شعرهِ الحرِيرية والملتويَة «شكرًا لإصلاحِ الصّدوع الّتي احتلّت سرادقي الباردة، فكُنت أنتَ من أدفأهَا بحضنٍ لا يسعُ لذاكرتِي نسيانُه».

تمسّك بجسدِها في حين تمنّت ألّا ينتهي هذا العِناق، وأتَاها ردّه لحنًا جشيًّا «سأعانقُكِ بالمحيَا والمماتِ يا ألِيس!»، تقوّست شفتاهَا للأعلى متسائلَةً «لكِن السّؤالُ هو هل ستعانِقني بين المحيا والمماتِ؟».

ربّت على ظهِرها ومسدَ شعرها المنسدِل ليُجيب سؤالهَا بنبرةٍ دافئةٍ فيها مسحةٌ من التوعّد «ألِيس... سأعانقُكِ ولو بنهرٍ يفصلُ بين ضفّتينِ، سأعانقُكِ ولو بشقٍّ يفصلُ بين طودينِ، وسأعانقُك ولو بشريانٍ يفصلُ بين وتدَين».

أفسحَ لها المجالَ لتتنفّس، معتقدًا أنّها كادت تختنِق بين أحضانِه، غير أنّها قد استنشقَت مشاعرهُ المنسكِبة بقلبِه، نظرَا لبعضهِما البعض بابتسامةٍ عريضةٍ اختصرَت الكثير ممّا يدُور بخلدِهما ثمّ اقترحَت عليهِ أن يدلفَ معها للدّاخِل ويتناولَ العشاءَ مع عائلتِها، فأومأ لها بالإيجاب وتساير معهَا حتّى بلغا الباب، فتحتهُ برفقٍ وأدخلتهُ طالبةً منه أن يجلِس على الأريكةِ البيضاءِ بغرفةِ المعيشة.

شهقاتُ ما قبلَ الشّرُوخحيث تعيش القصص. اكتشف الآن